إبراهيم مصطفىالمكتب السياسيالمكتب العلميدراساتقسم البحوث و الدراساتكاتبوا التيارمقالات

الريف السوري منبع الثورة وصابغها

هام | يمكنكم تحميل الدراسة كاملة من هنا

تيار المستقبل السوري

المكتب العلمي

قسم البحوث والدراسات

دراسة رقم (5) | 16/08/2023 م

مقدمة

الباحث الاجتماعي، الفلسطيني “حنا بطاطو”، يميل لوصف سكّان الغوطة بأهل مدن، ذلك أنَّه يرى كثيراً من قراهم وقد تمدَّن، بل إنَّه يُمايز بينهم وبين سكَّانٍ آخرين ريفيّين، كما في المرج شرق الغوطة، أولئك الذين ما زالوا حسب “بطاطو” أقرب للبداوة بسلوكهم وعاداتهم، أمّا فلاَّحو حوران فيصنِّفهم في منزلةٍ بين المنزلتين، إذن ليس من السهولة بمكانٍ إطلاق التَّصنيفات القديمة على كلِّ سكان الرِّيف أو المدينة، وحتّى الريف قد ينقسم بناءً على الانتماء الطّائفي، ضمن الرِّيف الواحد، وهذا ما يقوله أيضاً “حنا بطاطو” إذ يصف بعض الطوائف كالدّروز والعلوييّن، «أنهم من بين طوائف سوريّة الدينيَّة الأكثر إنغلاقاً». ويضيف “والقاعدة هي أنَّ المرء لا يمكنه أن ينضمَّ إلى هذه الطّوائف، بل يمكنه أن يولد فيها فحسب! ولديها جميعاً حسٌّ حادٌّ بهويَّتها الخَّاصة، ويحرِّكها شعورٌ قويٌّ بالمسؤوليَّة نحو إخوتها في الدِّين”

الحالة الاجتماعية بين الرّيف والمدينة:

الحالة الاجتماعيّة بين الرّيف والمدينة في سوريّة موضوعٌ معقَّدٌ ومتشابكٌ بعوامل تاريخيّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، ولا يمكن فهمها بشكلٍ كاملٍ دون النّظر إلى السِّياق الذي نشأت فيه، والتَّغيُّرات التي طرأت عليها خلال مرحلة ما قبل الثَّورة السوريَّة، ثم مرحلة الثورةِ والحرب التي تلتها.

ويمكن تلخيص بعض الجوانب الرئيسيّة للحالة الاجتماعيّة بين الرِّيف والمدينة في سورية كما يلي:

1. الظروف الاقتصادية: عانت الأرياف السورية من صعوبات اقتصادية كبيرة في السنوات التي سبقت الثورة، فتغيُّر المناخ والجفاف الذي استمر لعدة سنوات أثَّر بشكلٍ سلبي على الزراعة، مما أدى إلى فقدان الكثير من الأسر الريفية لمصدر دخلها، هذا بالإضافة إلى التّدهور الاقتصادي واستشراء الفساد، ممّا جعل الكثير من سكّان الأرياف يشعرون بالاستياء والغضب.

2. الإهمال الحكومي: كان الرِّيف السوريُّ يعاني من سياسات نظام الأسد التي تجاهلت احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأفقرته وأذلته وحرمته من حقوقه الأساسية، كما كان يتعرَّض للاستغلال والفساد والقمع من قبل المحافظين والمخابرات ورجال الأعمال الموالين للنظام، ممّا أدى إلى تراكم حالةٍ من الغضب والإحباط أدَّت للانفجار في صفوف سكّان الريف، الذين خرجوا بمظاهراتٍ سلميةٍ مطالبين بالحريّة والكرامة والعدالة.

3. التّمييز والظلم: كان هناك شعورٌ عامٌّ بأنّ النظام يميل لدعم فئاتٍ معينةٍ من المجتمع على حساب الآخرين، حيث ظهر انقسامٌ سياسيٌّ حادٌّ بين قواعد حزب البعث المؤيِّدة للنِّظام في الأرياف، والطَّبقات المثقَّفة المُعارِضَة في المدن.

4. تأثير الإعلام والتواصل الاجتماعي: وصول تكنولوجيا الاتصالات ووسائل التّواصل الاجتماعي إلى الأرياف ساعد في نقل الأخبار والأفكار والمظاهرات الأخرى التي تحدث في مناطق أخرى من العالم، ونمّى لدى المواطن المُهمّش رغبتهُ في تغيير الواقع أسوةً بمن سبقنا من دول الرّبيع العربي.

5. التجمعات الاجتماعية: كان الريف السوري يتمتع بروح من التضامن والتعاون بين أبنائه، سواء على أساس عشائري أو ديني أو محلي. هذا ساعد على تشكيل لجان تنسيقية وكتائب مسلحة ومجالس محلية لإدارة شؤون الثورة ومواجهة قوات النّظام، كما ساعد على تأمين الموارد المادية والبشرية واللوجستية لصالح المقاتلين والمدنيين في المناطق المحررة.

6. الدور الثقافي: قد تكون هناك عوامل ثقافية تجعل سكان الأرياف أكثر استعدادًا للتّحرك والمشاركة في الثورة مقارنةً بسكّان المدن، ولعلّ التّفاوت الثقافيّ والاقتصاديّ بين الرِّيف والمدينة هو ناتجُ سياسات نظام الأسد أولاً وأخيراً في تعمُّد إهمال الرّيف، وتفضيل مصالح المدنِ عليه.

ثورة الأطفال في الأرياف وليس في المدن في سورية تعود إلى عدة أسباب رئيسية (حلب نموذجاً):

  • انطلقت شرارة الثَّورة من مدينة درعا في ريف جنوب سورية، حيث احتجَّ المواطنون على اعتقال وتعذيب مجموعةٍ من الأطفال كانوا قد رسموا شعاراتٍ مناهضةً للنّظام السوريّ على جدران مدرستهم، ثمّ امتدَّت الاحتجاجات إلى مناطق ريفيّةٍ أخرى مثلَ حورانَ وحمصَ وإدلب، حيث تعرَّض المحتجوُّن للاضطهاد والقمع من قبل قوّات الأمن.
  • تحولت الثّورة إلى حربٍ أهليّةٍ مسلَّحةٍ، شاركت فيها فصائل مختلفةٌ من المعارضة والجماعات المسلحة معتمدةً على ما يقع تحت يديها من مخازن الأسلحة والعتاد الحربيّ، ثمّ سرعانَ ما قُدِّمَ لها دعمٌ إقليميٌّ ودوليّ، إلى انزلقت البلادُ في حربٍ أدّت لنزوح ملايين السوريّين داخلياً وخارجياً، فتضرّرت المدن والأرياف على حدٍ سواء (ولكن بنسبَ متفاوتة) من القصف والحصار والدّمار.
  • تغيّرت التّركيبة الدّيمغرافيّة والثقافيّة لكلٍّ من الرّيف والمدينة في سورية، نتيجةً للهجرة القسريّة والطوعيّة معاً، وظهور ظواهر جديدة مثل التّطرف والإغاثة والإعلام، وتشكّلت على إثرها شبكاتٌ جديدةٌ من العلاقات الاجتماعية والتي كان النّاظم لها هو حالة التّضامن تارةً والصّراع تارةً أخرى، ثم ليُصبح الفرزُ قائماً على أساس الانتماء والمصلحة والموقف السياسيّ، وتعززت بعض القيم والممارسات الاجتماعية بينما تضاءلت أو تحوّلت أخرى.

في المرحلة السلميّة شاركت معظم المناطق السوريّة بالحراك السوريّ مدناً وريفاً على حدٍّ سواء، ولكن عندما انتقلت الثّورة إلى العمل العسكري سرعانَ ما انزوت المدن، بينما حملت القرى والرّيف السوريّ الرّاية عموماً، فمثلاً مدينة حلب، وهي ثاني أكبر مدن سورية، وأحد أهمّ مراكزها التّاريخية والثّقافية والاقتصاديّة، حيث تقع على نهر اسمهُ قويق، ويقسمها إلى قسمين رئيسيين: حلب الشرقيّة وحلب الغربيّة، تفصل بينهما خطوطُ الجبهة التي تمرُّ عبر وسط المدينة.

حلب الشرقيّة: هي الجزء الأقدم من المدينة، وتضمُّ العديد من المعالم التاريخيَّة مثل القلعة وسورها والسّوق والمساجد، وفي حلب الشرقيّة تعيش غالبيّة السكّان من الطبقات الفقيرة والمتوسِّطة، وتسودها ثقافةٌ شعبيَّةٌ ودينيَّة. حلب الغربية: هي الجزء الحديث من المدينة، وتضمُّ العديد من المؤسّسات الحكوميّة والجامعاتِ والفنادق والمولات، وفي حلب الغربيّة تعيش غالبيّة السكّان من الطبقات الغنيّة والمثقّفة وأصحاب المهن والخدمات، وتسودها ثقافةٌ علمانيّة وليبراليّة مُحافظة.

في عام 2011، اندلعت الثّورة السوريّة ضدَّ نظام بشار الأسد، وشاركت فيها مختلف فئات المجتمع السوريِّ، وفي طرفي حلب، كانت المشاركةُ في الثّورة متفاوتةً! فبينما خرج المواطنون في حلبَ الشرقيّة بمظاهراتٍ سلميّة مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة، وتعرَّضوا للاعتقال والقصف والحصار من قبل قوات النِّظام هناك، كان طابع المظاهرات في حلب الغربية أقلَّ حدّة وأكثرَ نُدرة، بسبب خوف المواطنين من فقدان مصادر رزقهم أو تعرّضهم لانتهاكات من قِبَل بعض المجموعات المسلّحة التابعة للنظام السوريّ ممّن يُسمّون “الشبِّيحة”، كما كان هناك جزءاً من سكان حلب الغربية يؤيدون نظام الأسد أو يحاولون التحُّيز له.

في عام 2012، دخلت المعارضة المسلّحة إلى حلب، وسيطرت على معظم أحياء حلب الشرقيّة، بينما ظلت قوات النّظام تحتفظ بسيطرتها على حلب الغربية، بدأت حربُ شوارع طاحنة بين الطّرفين، استُخدِم فيها أسلحةٌ ثقيلةٌ وجوّية، مُخلِّفةً دماراً هائلاً في المدينةِ وخاصة في الطرف الشرقيِّ منها. وفي عام 2016، شنَّت قوّات النّظام مع حلفائها هجوماً عسكرياً على حلب الشرقية، استطاعت فيه استعادة السّيطرة على جميع أحياءها بعد حملة قصفٍ مُدمِّرةٍ واتفاقٍ أفضى لإجلاء المُقاتلين والمدنيّين إلى مناطق أخرى.

واليوم، تحتفظ قوّات النّظام بالسّيطرة على كامل مدينة حلب بقسميها الشرقيّ والغربيّ، بينما بقيت المناطق الشماليَّة من حلب مثل منطقة “الباب” خارج سيطرة النظام.

وبما يُشبه ذلك يمكننا الحديث أيضاً عن دمشق العاصمة وعن الرّيف الممتدّ والغوطة، وهكذا..

وناتجُ القول: أنّ الرّيف السوريّ كان عصبَ الثّورة ضدّ نظام بشّار الأسد، مع عدم إنكار وجود ثوّار وحواضن لها في المدن.

صبغُ الثّورة السوريّة بالعقلية الريفية:

من خلال ما ذكر، يمكن القول أنّ الثورة السورية قد اصطبغت بعقليّة حاملِها الرئيسيّ وهو الريف السوري، ولا يعني ذلك انتقاصاً للثورة أو تزكيةً لها، بل هو توصيفٌ للواقع وحسب! وهنا لا نزعم أنّ العقليّة الحضريّة أفضل من الريفيّة أو العكس، ويمكن تلخيص اصطباغ أحوال الثورة بالبُعدِ الريفي بما يلي:

1- تقديس الأعراف والعشائريّة والقبليّة، وتغليب التّرابط الاجتماعيّ والدينيّ على عقد القانون والمواطنة.

2- الضّجر من حالة التعدديّة بكلِّ أنواعها، خصوصاً السياسيِّ منها، ففي المناطق التي تسيطر عليها الفصائل مثلاً نجدُ أنّه نادراً ما تتّفق ضمنَ عقدٍ اجتماعيٍّ معيّن مع غيرها.

3- عدم الاهتمام بالجانب التّجاري والاستثماريّ والاستهلاكيّ والاهتمام بالجوانب الزراعيّة والتقليديّة.

4- النّظر للمِثالي دون الواقعي، فلا حلول وسط! والذهاب للحالة الصفريّة دائماً.

5- التَّقوقع على الهويَّة، والخوف من التَّجديد ورفض الحداثة.

خاتمة

 ربّما يمكننا القول أنّ هذا هو شعبنا، وهذه ثقافته، بسلبياتها وإيجابيّاتها، ونحن هنا إنما نحاول قراءة الواقع لفهمه والبناء عليه، لهذا نعيد التأكيد على أنّنا لا نقبل التقييم الإيجابي أو السلبي ولا الدخول بالجدل السوري المعروف “الريف والمدينة”، بل كلٌّ هم أهلنا وشعبنا الذي نفخر به. لقد تعرّض شعبنا لأقسى أنواع التّسلط من قوى ظلاميّة ظالمةٍ منذ السبعينات مع صعود حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وقيام حافظ الاسد بحركته التّصحيحية المزعومة وحتى يومنا هذا، ولعلّ سبب ذكر هذه الحالة الاجتماعية هو محاولةٌ من تيار المستقبل السوري لفهم الواقع السوري ككل، وتسليط الضوء على السّبب الاجتماعيّ للمجريات السياسية والثورية..

………………..

المراجع:

1- حنا بطاطو، فلاحو سورية.

2- (2011-1963) السلطة في سوريا ودورها في صراع الريف والمدينة (2/2) (syria.tv)

3- جدلية الريف والمدينة في سوريا… التفاوت الثقافي الطبيعي – روزنة (rozana.fm)

4-عن الحوار حول دور المدينة والريف في الثورة السورية -مقالات مختارة- – صفحات سورية 2020 (alsafahat.net)

5- ترييف الثورة أم صراع الريف والمدينة؟ (syria.tv)

6- الثورة ضد الأسد.. بين الدوافع السياسية والدينية | سياسة واقتصاد | تحليلات معمقة بمنظور أوسع من DW | DW | 08.08.2012

إبراهيم مصطفى
قسم البحوث والدراسات 
المكتب السياسي
تيار المستقبل السوري                                           
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى