المكتب العلميباحثون مستقلونقسم البحوث و الدراسات

الشرعية الثورية ضرورة حضارية وابتزازها تقويض للتدافع!

لم يعد خافيا على عاقل أن الإنسان السوري بات مسجونا خلف قضبان القوانين نفسيا ومحليا ودوليا وإقليميا لدرجة أنه بات منفصما عن واقعه!

فمنطقيا تبعا لما نشاهده من وقائع سياسية، لو أن “الهيئة” جدلا، لو كانت مواطنا صالحا وتلميذا نجيبا على المقاعد الدراسية للأمم المتحدة والتزمت القانون مثل الالتزام المطلق لباقي الكيانات المعارضة، فيقينا وفق ما نعاينه ما كان لها أن تنجح في تحطيم قضبان الاستبداد وقيادة الحراك الشعبي السوري نحو تحقيق أحد أهم أهدافه! لذا فإن النصر الشعبي كان نتاج التمرد لا الالتزام بالقانون!

وإن عاقلا لا ينكر أن القرارات الدولية بالشأن السوري لا تعدو كونها صرخات إعلامية لم تخرج لحيز التطبيق طيلة السنوات الفائتة بل تحولت لأداة استنزاف سياسي وشعبي وحضاري! ولكن بعد انتزاع الحراك الشعبي حريته خارج نطاق القانون الدولي مستغلا تحركات الهيئة، هرول الفاعل السياسي للتنسيق الوظيفي مع القوى المعارضة المجمدة سياسيا في البنك السياسي الدولي، وما يبدو وفق السياق كانت مثل هذه الخطوات تهدف لتطويق الحراك الشعبي السوري الخارج عن حظيرة الفاعل السياسي الساعي بقانونه الانتقائي إلى استعباد الشعب لا لتحريره!

من العار الثوري

وأزعم أنه كان من العار الثوري وعدم الحنكة السياسية أن يرحب الائتلاف الوطني وتكتلاته بالبيان الصادر عن “مؤتمر العقبة” الذي يقضي بنده الثامن بضرورة الالتزام بمكافحة الإرهاب دون أن يحدد هذا المؤتمر الجهات المعنية والمقصودة بدقة! والمعلوم لدى الجميع أن الإدارة السورية الجديدة التي قادت الحراك الشعبي أثناء التحرير تندرج ضمن قوائم الإرهاب! فكان هذا الترحيب هو بمثابة بداية التشريع لإعلان حرب على الحراك الشعبي أو هو سعي غير شريف لابتزاز المنافس السياسي الذي انقلب عسكريا وشعبيا على الحكم، فإن المعارضة السياسية السورية لم تأخذ بالحسبان عواقب هذا الترحيب على استقرار الوضع السوري والحفاظ على حياة السوريين!  لذلك كان حريا على الائتلاف الوطني أن يكون شجاعا وفطنا ويلتفت إلى الداخل الشعبي ولا يستقوي بالقوى الخارجية على الحراك الشعبي!  فكان عليه أن يطالب بنزع الإدارة السورية من التصنيف الإرهابي ولو كان الأمر على حساب تمكينه سياسيا، فإن سد الذرائع وإنقاذ الشعب السوري الذي ما زالت تحصده الفواعل السياسية بذريعة الإرهاب كان هو الأولى!

فإنه بات من الواضح أن القانون الدولي لم يوضع لإنصاف وإنقاذ الضعيف بل لتكريس شرعية سلوكيات المسيطر، لذا إذا أردت أن تكون قانونيا في عالم السياسة عليك أن تصنع ذاتك خارج نطاق القانون لتكون فيما بعد جزءا من القانون والآلة السياسية! الغريب أن الائتلاف الوطني وتوابعه هو الوحيد الذي لم يستفد من إعادة التموضوعات السياسية والعسكرية الدولية ليوسع رقعته ويبحث عن مكانه انطلاقا من ذاتية الثورة الشعبية وليس من مصلحة الدول دون إفراط أو تفريط! لكن ما يبدو أنه تم تدجينه بالمطلق لدرجة أنه لم يعد قادرا على إدارك البوصلة وخارطة الطريق الحضاري ومكامن قوته! فما زال مصرا على أن يكون سفير العالم للحراك الشعبي وليس سفير الحراك الشعبي إلى العالم! إن مثل هذه السلوكيات اللا مسؤولة وإصرار المعارضة السياسية في الخارج على عدم الالتفات إلى الداخل والاستقواء بالقوى الخارجية ينقلها من حيز الثورة السياسية لحيز الصراع على العمالة في حضرة الفاعل السياسي الخارجي!

هيكلة المعارضة

وفي نظرة لتاريخ نشأة هذه الكيانات تتضح الفكرة وندرك أنه منذ اندلاع الحراك الشعبي السوري سارع الفاعل الدولي إلى هيكلة مؤسسات المعارضة السورية بكافة مستوياتها وأنواعها بطريقة تجعلها قابلة للتوظيف السياسي لا للتغيير السياسي وقيادة الحراك الشعبي والتفاعل معه لتحقيق المراد! فتم تجميع كافة الشخصيات السياسية والاجتماعية والثورية في إطار أوعية سياسية ائتلافية متناقضة تحولت لساحات استنزاف ونزاع داخلي بين القوى العرقية والحزبية المتناقضة، الأمر الذي سهّل على الدول الفاعلة أن تتحكم بناصية الكيانات السياسية بطريقة تخدم تكريس الصراع وتمكين الاستبداد وتقويض المجتمع!

فكان المجتمع الدولي يتعامل مع نظام الأسد على أنّه هو النظام التشغيلي الأساسي المراد أن يكون لسوريا! في حين كانت هياكل المعارضة أشبه بـ “الآنتي فايروس” الذي تقتصر وظيفته على منع اختراق النظام التشغيلي من قبل الطوفان الشعبي الذي بطبيعة الثورة بات قاب قوسين أو أدنى من تنظيم ذاته! فراحت القوى الفاعلة الدولية تشرعن القرار وتقوض تنظيم الحراك الشعبي عن طريق اختطاف الشخصيات الوطنية وزجها في كيانات المعارضة السياسية التي تتوهم فاعليتها على جبهات السياسة والحقيقة أنه يتم استغلالها وتسييسها وتحويلها لقوى عاطلة معطلة دون أن تدرك!

من الواضح أنّ القوى الدولية تدرك خطورة التفاعل ما بين النخب السورية والحراك الشعبي إذا كان خارجا عن إطار الإرادة السياسية الدولية، ومن هنا نفهم استراتيجة هذه القوى في اختطاف النخب السورية بالتوازي مع اتباع هذه القوى الفاعلة دوليا لاستراتيجية تجميد البويضات السياسية السورية لمرحلة لاحقة، من أجل أن تستخدمها في الوقت الذي يناسب الفاعل السياسي الدولي وليس الفاعل الاجتماعي السوري! وهو ما نلحظه اليوم! ما يعني أن القوى السياسية الدولية عطلت آلاف النخب الوطنية خلال الفترة الماضية لكي تكرس الصراع وتمنع إنشاء قوة سياسية اجتماعية مع الحراك السياسي السوري تؤدي لإسقاط الأسد وتأسيس حضاري ثقافي جديد ينطلق من الواقعية والشرعية الاجتماعية الثورية لا الشرعية السياسية الخارجية أو الدستورية!

لا سيما وقد سيطر على العقل الإنساني في الحقبة المعاصرة آفّة الواقعية السياسية التي تحولت لما هو أشبه بالاحتلال المقنّع أو القفص الاجتماعي الآمن الذي يحتجز خلف قضبانه القانونية والسياسية والثقافية إرادة المثقف والعالم والنخبة والعوام والقيادات الاجتماعية والفكرية! وتعني هذه الواقعية السياسية أنّ تؤمن النخب والعامة بعدم القدرة على التغيير والتحرر السياسي والاجتماعي إلا في إطار موافقة المستبد ذاته!

آفة الواقعية السياسية

ولا يخفى على عاقل أنّ آفة الواقعية السياسية التي يهندس المستبد تفاصيلها تدجن الإرادة والسلوك الإنساني والشعبوي والنخبوي بمنظومة عبوات ثقافية وقانونية “شرعية” مستوردة ومسبقة التصنيع! هذه العبوات تتولى مسؤولية الإشراف على هندسة التفكير والسلوك الجمعي للمجتمعات الخاضعة! وبهذا نكون أمام صناعة مشروع إله سياسي وملايين الدراويش والعبيد الذي يسبحون بحمد المستبد والمجرم السياسي في ظل طقوس صناديق الاقتراع! غير مدركين أن الحرية تنتزع وأن المستبد لا يمنح الحرية لعبد!

الغريب وبعد تحرير ثوار الحراك الشعبي لبلادهم راح يتناقل المتثاقفون في توصيف السلطة الاجتماعية الناتجة أنّها سلطة الأمر الواقع الواجب تغييرها في الوقت الأسرع بذريعة أنها سلطة سلبية غير شرعية دوليا! لأنّها لم تسلك المنهج القانوني الديمقراطي في الوصول إلى السلطة السياسية! لا شك أن مثل هذه الدعوات في ظاهرها دعوة حضارية إيجابية لكنّ حقيقتها انتكاسة حضارية وتقويض اجتماعي ومقاومة غير مسؤولة لتدافع الفكر الإنساني! لأن الأصل أن يتصالح الفاعل السياسي الدولي مع إرادة المجتمعات، خضوعا لحرية الإنسان وحقه في أن يفكّر جماعيا ويعيش حضارته المنبثقة عن حراكه الفكري لا عن الحراك الفكري الذي ينظمه الفاعل السياسي بواسطة أدوات القمع والاستبداد العسكري والقانوني والإعلامي والتعليمي! وعليه إن مفهوم سلطة الأمر الواقع لا ينطبق على القوى السورية التحررية بل على القوى الدولية ذات النفوذ السياسي العابر لحدوده!

في النهاية على الإدارة السورية الجديدة كما أدركت سابقا أن المرحلة الثورية لا تقودها التيارات المتناقضة وتحتاج لاستراتيجية الانغلاق على الذات، إلا أن عليها أن تكون على ثقة بأن مرحلة البناء الوطني اللاحقة لانتصار الثورة مباشرة يجب أن تنطلق من استراتيجية تفعيل الشرعية الثورية الاجتماعية والانفتاح الواعي على التكنوقراط والنخب والمحيط السياسي ومحاربة فكرة المحاصصة الطائفية بذريعة طمأنة الأقلية، بالإضافة إلى ضرورة تحييد الكيانات السياسية التي لا وزن لها في الواقع الاجتماعي ويسعى الخارج لتحويلها لحصان طروادة مع ضرورة مشاركة نخبها المختطفة دون إقصاء لأحد!

المكتب السياسي
د. علاء رجب تباب
 قسم البحوث والدراسات
باحثون مستقلون
تيار المستقبل السوري

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى