نظرة إلى المؤتمر الوطني العام
مقدمة:
كنا قبل التحرير من الداعين لطاولة حوار وطنية مع سلطات الأمر الواقع وصولاً لحل سوري حقيقي طبيعي، حيث كان هدف هذه الطاولة أن يتم حفظ الخريطة السورية من التقسيم، وإعادة تجميع الشعب السوري ضمن بوتقة واحدة وتعاقد اجتماعي جديد.
وكنا في تيار المستقبل السوري ممن دفع بكل اقتراح حواري في سورية، بما فيها تجربة ألمانيا الغربية وتوحيد المناطق خارج سيطرة النظام البائد.
حتى تم التحرير والانتصار العسكري المُشرّف ودخول دمشق من قبل الفصائل العسكرية تحت غرف عمليات موحدة من الشمال والجنوب، لتستلم إدارة العمليات الجديدة السلطة بدمشق، وتقوم باستلام المسؤولية من حكومة النظام البائد وتسليم حكومة الإنقاذ بإدلب كل صلاحيات الحكومة الانتقالية المؤقتة، ضمن تصريف أعمال تنتهي بأول الشهر الثالث من العام القادم، لقيام مؤتمر وطني عام يُفرز حكومة شرعية كاملة الصلاحيات.
تاريخ المؤتمرات الوطنية في سورية:
شهدت سورية في تاريخها عدة مؤتمرات وطنية، من أبرزها:
- المؤتمر السوري العام (1919-1920)، والذي عُقد في دمشق بعد سقوط الدولة العثمانية، وكان يهدف إلى مناقشة مستقبل سورية الكبرى، حيث شارك فيه ممثلون من مختلف المناطق السورية، بما في ذلك لبنان والأردن وفلسطين، وفي ذاك المؤتمر، تم إعلان استقلال سورية باسم المملكة السورية العربية وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً عليها.
- مؤتمر حمص (1920)، عُقد لمناقشة الوضع السياسي في سورية بعد إعلان الانتداب الفرنسي، وكان يهدف إلى توحيد الصفوف السورية ضد الانتداب.
- مؤتمر حلب (1920)، والذي هدف لمناقشة نفس القضايا التي تناولها مؤتمر حمص، وكان يهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية ومقاومة الانتداب الفرنسي.
كانت هذه المؤتمرات محاولات لتوحيد الصفوف السورية وتحديد مستقبل البلاد في ظل التحديات السياسية والاحتلالات الأجنبية.
وبعد المؤتمرات الوطنية التي عُقدت في بداية القرن العشرين، شهدت سورية عدة مؤتمرات ومحاولات لجمع الأطياف السياسية والاجتماعية، خاصة خلال فترات الأزمات والتحديات. من أبرز هذه المؤتمرات:
- مؤتمر جنيف (2012-2014)، حيث عُقدت عدة جولات من المحادثات في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة بهدف إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، حيث شارك في هذه المحادثات ممثلون عن النظام السوري البائد والمعارضة، بالإضافة إلى ممثلين عن المجتمع الدولي.
- مؤتمر سوتشي (2018)، عُقد في مدينة سوتشي الروسية بمشاركة ممثلين عن النظام السوري والمعارضة وبعض الفصائل المسلحة، وكان الهدف من المؤتمر هو مناقشة مستقبل سورية ووضع دستور جديد للبلاد.
- مؤتمر أستانا (2017-2019)، وهي سلسلة من المحادثات التي عُقدت في العاصمة الكازاخستانية أستانا (نور سلطان حالياً)، بمشاركة ممثلين عن النظام السوري البائد والمعارضة والفصائل المسلحة، بالإضافة إلى الدول الضامنة (روسيا، تركيا، وإيران). ركزت هذه المحادثات على وقف إطلاق النار وإجراءات بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة.
هذه المؤتمرات كانت محاولات لجمع الأطراف السورية المختلفة والتوصل إلى حلول سياسية للأزمة المستمرة، وحاولت تكوين مؤتمر وطني بأيد خارجية ولكنها فشلت برسم حل شامل رغم بعض إيجابياتها.
المؤتمرات السورية الأصيلة:
في بداية الثورة السورية، عُقدت عدة مؤتمرات وطنية بعيدا عن نظام بشار الأسد بعد فقدان الأمل من التعاون معه، بهدف جمع الأطياف المختلفة ومحاولة إيجاد حلول سياسية للأزمة المتصاعدة، ومن أبرز هذه المؤتمرات:
- مؤتمر أنطاليا (يونيو 2011): والذي عُقد في مدينة أنطاليا التركية، وشارك فيه ممثلون عن المعارضة السورية من الداخل والخارج، حيث كان الهدف من المؤتمر هو توحيد صفوف المعارضة ووضع رؤية مشتركة لمستقبل سورية بعد سقوط النظام.
- مؤتمر إسطنبول (أغسطس 2011): حيث عُقد بمشاركة واسعة من المعارضة السورية، وتم خلاله الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري، الذي كان يهدف إلى تمثيل المعارضة وتنسيق جهودها على الساحة الدولية.
- مؤتمر القاهرة (يوليو 2012): نظمه جامعة الدول العربية في القاهرة، وشارك فيه ممثلون عن المعارضة السورية والمجتمع المدني، وقد كان الهدف من المؤتمر هو وضع خارطة طريق للمرحلة الانتقالية في سورية، وتم الاتفاق على وثيقة العهد الوطني التي تضمنت مبادئ أساسية لإدارة المرحلة الانتقالية.
هذه المؤتمرات كانت محاولات لتوحيد المعارضة السورية ووضع أسس لحل سياسي للأزمة، لكنها واجهت تحديات كبيرة بسبب الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية.
ما قبلية اجتماعات المؤتمر المزمع عقده بدمشق 2025:
المؤتمر الوطني السوري المزمع عقده في مطلع عام 2025 يهدف إلى جمع كافة الأطياف السياسية والاجتماعية في سورية، بما في ذلك ممثلي الفصائل العسكرية والثورية، لوضع خارطة طريق للمرحلة الانتقالية وإدارة شؤون الدولة في الفترة المقبلة، حاليا التحضيرات جارية بشكل مكثف، ومن المتوقع أن يشمل المؤتمر ممثلين عن المجتمع المدني والكفاءات العلمية والمستقلين.
ومما ظهر لنا أن عملية اختيار المشاركين في المؤتمر الوطني السوري ستكون شاملة ومتنوعة لضمان تمثيل كافة الأطياف السياسية والاجتماعية، وبحسب متابعتنا فإن كيفية اختيار المشاركين على النحو الآتي :
- الممثلون السياسيون: سيتم دعوة ممثلين عن الأحزاب السياسية المختلفة، بما في ذلك المعارضة وبقايا النظام السوري البائد ممن لم تتلطخ أيديهم بالدم السوري، لضمان تمثيل واسع للأطياف السياسية.
- الفصائل العسكرية والثورية: سيتم اختيار ممثلين عن الفصائل العسكرية والثورية التي لها تأثير على الأرض لضمان مشاركة فعالة في الحوار.
- المجتمع المدني: سيتم دعوة منظمات المجتمع المدني والنشطاء لضمان تمثيل القضايا الاجتماعية والإنسانية.
- الكفاءات العلمية والمستقلين: سيتم اختيار خبراء في مجالات مختلفة مثل الاقتصاد، القانون، والإدارة لضمان تقديم رؤى علمية ومهنية.
- التمثيل الجغرافي: سيتم مراعاة التمثيل الجغرافي لضمان مشاركة كافة المناطق السورية.
ومن المتوقع أن يكون هذا المؤتمر الوطني المزمع عقده في مطلع عام 2025 هو الأول من نوعه بعد فترة الثورة السورية. والهدف من هذا المؤتمر هو جمع كافة الأطياف السياسية والاجتماعية لوضع خارطة طريق للمرحلة الانتقالية وإدارة شؤون الدولة في الفترة المقبلة.
الاستفادة من التجارب السابقة:
لعل أبرز مثال تجريبي على عقد مؤتمر وطني هو مؤتمر صحارى الذي رعاه فاروق الشرع في عام 2011 والذي يُعتبر محاولة لعقد حوار وطني في بداية الثورة السورية، حين عُقد المؤتمر في فندق صحارى بدمشق، وشارك فيه عدد من الشخصيات السياسية والمثقفين وبعض ممثلي المعارضة الداخلية، وكان الهدف من المؤتمر هو مناقشة الأوضاع السياسية ومحاولة إيجاد حلول للأزمة المتصاعدة آنذاك.
ومع ذلك، لم يُعتبر هذا المؤتمر مؤتمرًا وطنيًا شاملاً بالمعنى الكامل، حيث لم يضم كافة الأطياف السياسية والاجتماعية في سورية، ولم يحقق نتائج ملموسة في وقف العنف أو التوصل إلى حلول سياسية شاملة. كان المؤتمر بمثابة محاولة من النظام لاحتواء الأزمة وإظهار استعداده للحوار، لكنه لم ينجح في تحقيق أهدافه بشكل كامل.
وبالتالي لتجاوز أسباب فشل مؤتمر صحارى وضمان نجاح المؤتمر الوطني الجديد، يمكن اتباع عدة خطوات مستفادة من التجارب السابقة:
- شمولية التمثيل، عبر ضمان مشاركة كافة الأطياف السياسية والاجتماعية، بما في ذلك المعارضة الداخلية والخارجية، الفصائل العسكرية، ومنظمات المجتمع المدني. هذا يضمن أن تكون القرارات المتخذة ممثلة لجميع السوريين.
- الشفافية والمصداقية، بمعنى أن تكون عملية التحضير للمؤتمر شفافة، مع توفير معلومات واضحة حول الأهداف والإجراءات، وهذا يعزز الثقة بين المشاركين ويضمن التزامهم بالنتائج.
- الاستقلالية، عن أي تدخلات خارجية أو ضغوط سياسية، لضمان أن تكون القرارات نابعة من إرادة السوريين أنفسهم.
- إجراءات بناء الثقة، بين الأطراف المختلفة.
- وضع آلية واضحة لمتابعة وتنفيذ القرارات المتخذة في المؤتمر، مع تحديد المسؤوليات والجدول الزمني للتنفيذ.
- التعلم من التجارب السابقة، حيث يمكن دراسة أسباب فشل مؤتمر صحارى وغيره من المؤتمرات السابقة لتجنب الأخطاء نفسها. على سبيل المثال، يمكن تجنب التركيز على الحوار الشكلي دون تحقيق نتائج ملموسة.
بتطبيق هذه الخطوات، يمكن تحويل تجربة مؤتمر صحارى إلى درس إيجابي يساهم في نجاح المؤتمر الوطني الجديد وتحقيق أهدافه في بناء مستقبل أفضل لسورية.
خاتمة:
لعل من نافل القول أن إنجاح هذه المرحلة قضية مصيرية ووطنية تقع على عاتقنا جميعا، ولهذا يجب الدفع بكل السبل لإنجاح عقد المؤتمر الوطني الذي سيُفرز دولتنا الجديدة ويرسم محدداتها المستقبلية.
لهذا من الضروري بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وأن يكون هناك التزام من جميع الأطراف بالحوار الصادق والمفتوح، حيث يتم الاستماع إلى جميع الأصوات والآراء بشكل جدي ومحترم. إضافة لالتزام جميع الأطراف بالاتفاقات التي يتم التوصل إليها خلال المؤتمر، مما يعزز الثقة ويؤسس لبيئة تعاون مستدامة.
على أنه من المهم إنشاء آليات فعالة لمراقبة تنفيذ القرارات والاتفاقات، لضمان الالتزام بها وتحقيق الأهداف المرجوة، وإن بناء الثقة هو الأساس الذي يمكن أن يقوم عليه أي تقدم حقيقي ومستدام في سورية، حيث يساهم في تجاوز الخلافات وبناء مستقبل مشترك لجميع السوريين.
ولنجاح المؤتمر الوطني في سورية، هناك عدة توصيات نراها في قسم البحوث والدراسات بالمكتب السياسي لـ تيار المستقبل السوري، والذي نرجو أن تكون مساهمة وطنية منا في توسيع حدقة الرؤية لدى صانع القرار السوري:
- التمثيل العادل، ويكون من خلال:
- أ. توزيع التمثيل، بمعنى أن يكون التمثيل داخل المؤتمر مبنيًا على معايير عادلة تراعي التوازن بين المناطق والمكونات السورية المختلفة، بما في ذلك الأقليات العرقية والدينية.
- ب. منع أي طرف من احتكار القرارات لضمان أن تكون مخرجات المؤتمر معبرة عن التوافق الوطني.
- جدول الأعمال، ويكون عبر:
- أ. تحديد الأولويات، وأن يتضمن جدول الأعمال قضايا أساسية مثل إعادة بناء المؤسسات، العدالة الانتقالية، حقوق الإنسان، وإعادة الإعمار الاقتصادي.
- ب. أن يكون جدول الأعمال مرنًا بما يكفي لاستيعاب القضايا الطارئة والتطورات الجديدة.
- اللجان المنبثقة، وتتمثل بـ:
- أ. تشكيل لجان متخصصة تتناول مختلف القضايا مثل الأمن، الاقتصاد، العدالة الانتقالية، والدستور الجديد.
- ب. اختيار أعضاء اللجان بناءً على الكفاءة والخبرة لضمان فعالية العمل وتحقيق النتائج المرجوة.
الشفافية والمشاركة، من خلال عملية اتخاذ القرارات بشكل شفاف ومفتوح للجميع لضمان الثقة والمصداقية. بالإضافة لإشراك المجتمع المدني والمواطنين في العملية لضمان أن تكون القرارات معبرة عن تطلعات الشعب السوري.
الدعم الدولي عبر العمل على بناء علاقات دولية تدعم المصلحة الوطنية السورية وتساعد في تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار.
نرى أن هذه التوصيات يمكن أن تساعد في ضمان نجاح المؤتمر الوطني وتحقيق أهدافه في بناء سورية جديدة تقوم على أسس الديمقراطية والعدالة والمشاركة الشعبية.
كما وندعو الباحثين المفكرين لمزيد تحقيق وتمحيص لها، للوصول إلى صيغة أقرب للمثالية الجمعية، لتعين صانع القرار على اتخاذ القرارات الصائبة، حتى لانُكرر تجاربنا الفاشلة السابقة، ونُنجح هذه المرحلة باعتبارها مخاض مرحلة جديدة لسورية.
المكتب السياسي
جمعة محمد لهيب
مدير قسم البحوث والدراسات
مقالات
تيار المستقبل السوري