المكتب الاقتصاديالمكتب العلميدراساتقسم البحوث و الدراسات

ضعف البنية الاقتصادية في الشمال السوري (واقع وحلول)

مقدمة:
شهدت سورية خلال السنوات الأخيرة سلسلة من الأزمات المتشابكة على صعيد الطاقة والغذاء، ثم جاءت حرب أوكرانيا لتلقي الضوء على أوجه التفاوت الاقتصادي، وبينما تحقق الدول النفطية الخليجية أرباحها من النفط والغاز نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، تعاني سورية وغيرها من الدول المستوردة للغذاء والطاقة من تبعات هذا الارتفاع، إضافة لضعف الميزانية أو انعدامها في الشمال السوري على وجه الخصوص، حيث ارتفع الرقم القياسي العام لأسعار سلع المستهلك في سورية (وفق مؤشر باش 2021)، بمقدار 6 أضعاف، وارتفاع الأسعار الغذائية بمقدار 6.7 ضعفاً خلال الفترة (2019 – النصف الأول من عام 2022). وسجل الرقم القياسي العام للأسعار تضخماً سنوياً (Y-O-Y) بنسبة 113.5% و110.9% لعامي 2020 و2021م على التوالي، وتضخم نصف سنوي بنسبة 55.71% للنصف الأول من عام 2022م.
وتظهر تمايزات الأسعار ومستويات التضخم بشكل واضح بين مناطق سيطرة قوى النزاع المختلفة (النظام السوري، الإدارة الذاتية، الحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ)؛ فاتسمت مناطق النظام السوري بأعلى مستوى للتضخم العام والغذائي، تليها مناطق الإدارة الذاتية، ومن ثم مناطق المؤقتة والإنقاذ، وما تستتبعه الضغوط الاجتماعية أيضاً من تبعات تثُقل كاهل السوريين!..

تزامن كل ذلك مع أزمة غذاء لم تلحق بسورية فقط، بل بالدول غير النفطية أيضا، لترتفع أسعار السلع الأسياسية الغذائية، فقد ارتفعت سلة الغذاء المرجعية القياسية لشهر سبتمبر 2023 بنسبة 100 في المئة منذ يناير 2023، وتضاعفت ثلاث مرات مقارنة بالسنة السابقة، لتصل إلى 938,000 ليرة سورية (ما يعادل 81 دولارا أميركيا)، الأمر الذي ساهم بنقص تلك الموارد الغذائية، ما أجج مزيدا من التوترات الاجتماعية وضاعف انعدام الاستقرار الاقتصادي إضافة لانعدام الاستقرار السياسي في سورية.

يبقى أن من الايجابية بمكان، كون الشمال السوري ليس على قائمة الدول المديونة كما لبنان ومصر مثلاً، أو كمنطقة النظام السوري، حيث شهدت الأموال المخصّصة لصندوق الدين العام في الموازنات السورية زيادة كبيرة، إذ تجاوزت الزيادة 2300%.
وما تزال مخصّصات صندوق الدين العام في مشروع موازنة 2024 غير معروفة، هذا وقد اعتمدت سلطات الأمر الواقع في الشمال السوري على برامج ضارة تعتمد مبدأ العشوائية الاقتصادية، مركزين على بقائهم أطول فترة ممكنة، وإرجاء الحلول الطويلة الأجل إلى المستقبل، مستعيضين عنها بحلول قصيرة المدى، ومتعللين بالحرب وظروفها.

فاقمت هذه الأزمات وغيرها من المشاكل المالية في الشمال السوري، مما يضع سلطات الأمر الواقع أمام مسألة اختيار السياسات الاقتصادية المناسبة! والواقع أن هذه السلطات تُبدي غفلة عن تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الممكنة، نظرًا إلى التكاليف الاجتماعية والسياسية المترتّبة عنها التي قد تُفقِدها حاضنتها.
في نفس الوقت، لن يؤدّي الامتناع عن تنفيذ الإصلاحات الهيكلية إلا مفاقمةً للظروف المالية العصيبة التي تعيشها المنطقة، ونجد أن سلطات الأمر الواقع إنما تميل إلى تفضيل الحفاظ على الوضع الحالي على ما هو!

وعند الحديث عن هذه الأزمات من منظور جيوسياسي، سيتّضح ظهور إعادة ترتيبٍ للأوضاع الاقتصادية والجيوسياسية، بما يقوّي الدولة الحليفة تركيا، وفي الوقت نفسه يزيد تهميش الشمال السوري بموارد الطاقة بشكل أكبر، حيث أن اعتماد سلطات الأمر الواقع في الشمال السوري على تركيا لمساعدتها، قوَّضَ استقلاليّتها في كل المجالات الداخلية منها والخارجي، بسبب اضطرارها إلى الانصياع لمموّليها، أو تلبية مطالبهم.

أوجهُ الضعف في الشمال السوري هيكلياً:
لا يمكن أن تعود أزمات الغذاء والطاقة التي تواجهها المنطقة إلى تداعيات الصراع في أوكرانيا أو فلسطين، أو حتى في المنطقة الشرقية بين تركيا وقسد، وما لم تتم معالجة أوجه القصور هذه، فلن تتمكن المنطقة من تخطّي صعوباتها، هذه الخيارات الصعبة التي فُرِضَت على سلطات الأمر الواقع أفرزت نوعاً من الجمود، نجده لن يُفضي إلا إلى تفاقم الظروف المالية والاقتصادية خلال المرحلة المقبلة!.

إن أول المشاكل التي تعاني منها المنطقة هي انعدان الأمن الغذائي، والذي يعني عدم الكفاية من المواد الغذائية الضرورية، وقد كبرت هذه المشكلة بعد تخفيض المساعدات الغذائية من قبل البرنامج العالمي للغذاء للنصف، لتطال أكثر من مليوني سوري في المنطقة، بالمقابل فقد أسفر تضخم أسعار المواد الغذائية مضافاً لها انهيار العملة التركية والسورية، وانتشار كبيرٍ للبطالة، وقلة فرص العمل، لتراجع القدرة الشرائية للسوريين، وليعيش السوريون خصوصاً سكان المخيمات في أسوأ ظرف اقتصادي، حيث ذكر منسقو الاستجابة العاملة في مناطق شمال غرب سورية في تقرير لهم: “منذ بداية 2023م، ونسب الاستجابة الإنسانية في سورية في تناقص مستمر، بنسب عجز تجاوزت 70%، ولذا فإن العام القادم سيشهد نسب عجز مرتفعة للغاية، مما يفتح المجال أمام مستويات عالية من الفقر والجوع في المنطقة، بالتزامن مع ارتفاع متزايد في نسب البطالة، لعدم وجود فرص عمل حقيقية أمام المدنيين”.

يأتي في المرحلة الثانية من المشاكل التي يعاني منها الشمال السوري، الاعتماد الكبير على الاستيراد وتراجع إنتاج المواد الغذائية، حيث أن 79 في المائة من العائلات تعتمد على المساعدات الإنسانية لتأمين الاحتياجات، في حين يوجد لدى باقي العائلات شخص واحد يعمل ضمن الحدود الدنيا للأجور، الأمر الذي أثر على الاقتصاد المحلي وخصوصاً الزراعة التي تعاني جراء تبعات المواد المستوردة كما تعاني من تبعات الحرب.

المشكلة الثالثة تكمن في اللامساواة في المناطق التي تخضع لحكومة الانقاذ والمناطق التي تخضع للحكومة المؤقتة، مضافاً إليها اللامساواة بين المدن والأرياف، ما استتبع ذلك تحيزاً حضرياً واهمالاً للقطاع الزراعي في المناطق الريفية، مما أدى إلى تقليص المساحات المزروعة.

المشكلة الرابعة تكمن في الأزمة البيئية، حيث أدى الاستخدام غير المنظم للمواد الكيميائية الزراعية إلى تقويض انتاجية الأراضي الزراعية، ما استتبع ذلك تملحاً للتربة، وأضراراً صحية وبيئية، مما أدى إلى فقدان التربة مواد مغذّية أساسية، وخسارة التنوّع البيولوجي، ما زاد ويزيد من احتمال فشل المحاصيل.

خاتمة:
سيواجه الشمال السوري في السنوات المقبلة تحديًا أساسيًا يتمثّل في محاولة تحقيق التنمية الشاملة، خصوصاً بعد مشروع الاستثمار الذي أعلنت عنه الحكومة السورية المؤقتة في منطقة الراعي، ولكن، وفي ظروف التصعيد التركي على قوات سورية الديمقراطية، إضافة إلى استهداف منطقة حكومة الانقاذ من قبل الروس والنظام السوري، فإنه لن يكون سهلًا التعامل مع هذا التحدي! إذ تتطلّب هذه العملية (حكمًا) إعادة هيكلة النُظم القائمة، والحدّ من نفوذ مجموعات المصالح القوية لدى سلطات الأمر الواقع، حيث تحاول تلك السلطات تجنّب تأثيرات الضغوط الاجتماعية الاقتصادية من خلال اللجوء إلى استراتيجيات شعبوية وسلطوية، لكن يبدو أنه لم تنجح هذه الاستراتيجيات في معالجة الأسباب الهيكلية الكامنة خلف أزمات الغذاء والطاقة، ولم تتمكّن سياسيات الحكومتين برؤيتها (المقتصرة على المدى القصير) بمقاربتها البرامجية غير السياسية، والتي لا تعطي الأولوية إلى الأسباب الرئيسية التي تعيق التنمية الاقتصادية، من تطبيق أي تغيير هيكلي.

وأما معالجة أزمة الغذاء، فلا بدّ من إعادة النظر في النُظم الغذائية، والسعي نحو بلورة نُظم أكثر مساواة وديمومة، وتنطوي هذه العملية على الربط بين الأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ما يقتضي في المقام الأول إعادة النظر في النمط السائد القائم على إنتاج الغذاء على نطاق واسع في الشمال السوري، وذلك من خلال توجيه ودعم المواطنين لزراعة ما يكفيهم ويُغنيهم، والإنتاج الزراعي على نطاق صغير من أجل الاستهلاك المحلي.

ويمكن أن يترافق ذلك مع دعم المزارعين وتعزيز قدرتهم، هذه العملية ملحة لتنويع مصادر الإمدادات الغذائية، وتقليص احتمالات التأثّر بايقاف المساعدات.

ومن أجل تخفيف تأثير ارتفاع الأسعار على الشمال السوري، ينبغي إصلاح أنظمة الدعم وتسريع وتيرة انتقالها إلى مصادر الطاقة المتجدّدة، وتبنّي حلولٍ منخفضة الكربون، هذا الإجراء الإصلاحي يفرض فرض إجراءات ضريبية تصاعدية ومباشرة وموجّهة بشكل جيد ومدروس، وإنهاء حالة المكوس والتغول الضريبي، وانعدام الشفافية، ومن المهم أيضاً إعادة النظر في سياسات الإعفاء الضريبي التي تصبّ في الغالب في صالح الأثرياء من أفراد ومنظمات وفصائل!.

إن الترتيبات السياسية في الشمال السوري ضعيفة للغاية نظرًا إلى مشاعر اليأس والخيبة السائدة في أوساط السوريين، فسلطات الأمر الواقع ضعيفة، والحيّز المدني آخذٌ في التقلّص، ومظاهر انعدام المساواة تزداد قوة وتمدداً، إضافة إلى الهوة بين المناطق الريفية والحضرية والتي لا تنفكّ تتسّع، بينما المجتمعات تزداد انقسامًا، في حين أن العقد الاجتماعي القديم القائم على توفير السلطات للمنافع المادية مقابل الحصول على الولاء السياسي من مواطنيها ليس موجوداً في الشمال السوري حالياً بسبب حالة اللاحوكمة الحالية.
وفي ظل ارتفاع مستويات القمع والرقابة، والمعاناة الاجتماعية والاقتصادية، التي تقاسيها المنطقة، تتأجّج مشاعر الغضب ويتلاشى الأمل، ويلوح في الأفق القريب احتمال اندلاع ثورة جياع قادمة.
لهذا يجب على هذه الحكومتين “الانقاذ والمؤقتة” بلورة ترتيبات سياسية جديدة تستند إلى عقود اجتماعية جديدة وآليات حوكمة حديثة قائمة على “شبه دولة” القانون والتنمية السياسية والاقتصادية الشاملة للمنطقة.

أخيراً فإننا في تيار المستقبل السوري نوصي حسب رؤيتنا ومنهجنا، أن تأتي القرارات بشأن التغييرات الهيكلية الأساسية وتبنّيها من داخل الحكومتين مباشرة، دونما انتظار تدخل خارجي! فالجار منشغلٌ بفك شيفرة قسد في الشمال الشرقي!

كما ونوصي في تيار المستقبل السوري الاهتمام بدعوة المؤسسات المالية الدولية لكي تؤدّي دورًا مهمًّا في المساعدة على التكيف مع التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي، وتغيّر المناخ، والتحوّل في مجال الطاقة، كما يجب أن تحظى هذه البرامج بقبولٍ اجتماعي، وأن تنطلق من حوارٍ مجتمعي واقتصادي شاملٍ، لضمان قدرة الحكومتين على احتضان عملية التحوّل وتحقيق التنمية الشاملة، حتى الوصول إلى حل سياسي كامل لكل الخريطة السورية.

عمار العموري
المكتب الاقتصادي.
قسم البحوث والدراسات
دراسات
تيار المستقبل السوري

المراجع:
مع توقف «برنامج الأغذية العالمي»… هل يكون 2024 عام الجوع في سوريا؟ (aawsat.com)
دليل المركز السوري لبحوث السياسات لأسعار المستهلك في سوريا للفترة (تشرين الأول 2020-حزيران 2022) – Syrian Center for Policy Research SCPR (scpr-syria.org)
سوريا: موازنة 2024 تعكس عمق الأزمة الاقتصادية | مجلة المجلة (majalla.com)
تخفيض دعم الأغذية العالمية.. مليون نازح شمال سوريا في قبضة شتاء بارد | سياسة | الجزيرة نت (aljazeera.net)
North-west Syria | تقارير عن الوضع (unocha.org)
سكان الشمال السوري بلا مساعدات وعلاج سوء التغذية غائب (alaraby.co.uk)

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى