الأساس والسطح والاقتصاد السياسي للتطرف في سورية

مقدمة:

في قلب المشهد السوري الممزق، تتقاطع معانٍ متعددة: فقدان العمل، انهيار الخدمات، شبكات تهريب، خطابات أيديولوجية تطمح لملء الفراغ.

هذه العناصر لا تتراكم صدفة؛ بل تتفاعل في شبكة من العلاقات التي تربط الأساس الاقتصادي بما يُسمى البنية الفوقية من أفكار ومؤسسات.

هذه الورقة تسعى إلى قراءة فلسفية-سياسية تربط بين المال والأيديولوجيا في السياق السوري، وتعرض آليات تحويل الموارد والفراغات الاقتصادية إلى حوافز للتجنيد أو إلى قواعد شرعية بديلة، مع أمثلة تطبيقية وتوصيات عملية.

الإطار النظري، من ماركس إلى نقد معاصر:

المقاربة المركزية هنا تستند إلى مفهومَي الأساس والسطح كما طوّره ماركس: الأساس يشمل علاقات الإنتاج والملكية والموارد الاقتصادية، والسطح يشمل المؤسسات القانونية، والخطاب الثقافي، والأيديولوجيا التي تبرر أو تُخفي ترتيب القوى الاقتصادية.
لكن هذه العلاقة ليست أحادية الاتجاه؛ فالبنية الفوقية تمتلك درجة من الاستقلالية النسبية وتستطيع أن تعيد تشكيل الأساس عبر إنتاج شرعيات جديدة أو تحفيز تحولات اجتماعية وثقافية. النقد المعاصر يذكّرنا بأن تبسيط العلاقة إلى حتمية اقتصادية يُغفل الديناميكيات التاريخية والثقافية التي تُدخل تعديلات جوهرية على مسار التحول الاجتماعي.

التحولات الاقتصادية في سورية، خلفية مادية للتطرف:

أحدث الصراع السوري تدميراً واسعاً في البنية الاقتصادية: خسائر هائلة في الناتج، ونزوح جماعي، وتدمير للبنية التحتية.
يقدر تقرير البنك الدولي الخسائر الاقتصادية والاجتماعية للصراع ويعرض أرقاماً تعكس مدى الانكماش والدمار الذي أصاب الاقتصاد السوري، ما خلق بيئة خصبة لاقتصاد الحرب والاقتصاد غير الرسمي.
وفي مثل هذه الظروف، يصبح فقدان الدخل والفرص عامل ضغط يومي يدفع الأفراد للبحث عن بدائل للبقاء، سواء عبر الانخراط في شبكات إجرامية أو الانضمام إلى تشكيلات مسلحة تقدم دخلاً وحماية.

آليات الربط بين المال والأيديولوجيا:
يمكن تمييز عدة آليات عملية تربط الواقع الاقتصادي بالميل نحو التطرف:

  1. الحوافز المادية للتجنيد
    عندما تقدم جماعات مسلحة أو شبكات إجرامية دخلاً فورياً أو حماية مادية، فإن القرار الفردي بالانخراط يتأثر مباشرة بتكلفة الفرصة البديلة.
    حيث أظهرت دراسات ميدانية على عناصر تنظيمات متطرفة أن الدافع الاقتصادي كان عنصراً بارزاً في مسارات الانضمام، إلى جانب عوامل نفسية واجتماعية أخرى.
  2. الاقتصاد غير الرسمي كمسار بديل:
    في غياب الدولة الفاعلة، تنمو أسواق سوداء وعمليات تهريب وخطف وابتزاز، ما يخلق طبقة من الفاعلين الذين لا يحتاجون إلى مشروع أيديولوجي سوى الربح.
    هذه الشبكات تُضعف سلطة القانون وتُكرّس منطق الربح السريع على حساب الاستقرار الاجتماعي.
  3. تحويل الموارد إلى شرعية محلية:
    التحكم في موارد محلية (معابر، أسواق، حقول) يتيح لفاعلين محليين تمويل إعلام محلي، ومؤسسات خدمية بديلة، أو شبكات حماية تُنتج شرعية عملية.
    هذه الشرعية قد تُستند إلى خطاب ديني أو قومي أو حتى وعود اقتصادية، فتتحول السيطرة الاقتصادية إلى نفوذ رمزي وسياسي.
  4. اقتصاد الحرب كمصلحة مستدامة:
    هناك فاعلون محليون وإقليميون يستفيدون من استمرار حالة عدم الاستقرار؛ الاستقرار قد يهدد مصادر دخلهم، لذا قد يقاومون جهود السلام أو التعافي.
    وهذا البُعد يجعل الاقتصاد جزءاً من ديناميكية استمرار الصراع وليس مجرد نتيجة له.

أمثلة تطبيقية من الواقع السوري:

1- تجنيد تنظيمات متطرفة
في مناطق شهدت انهيار الخدمات وارتفاع البطالة، استغلت تنظيمات متطرفة الفراغ الاقتصادي لتقديم رواتب، وظائف إدارية أو عسكرية، وحوافز مادية للشباب. المقابلات مع عناصر سابقين في تنظيمات مثل داعش تشير إلى أن الوعود الاقتصادية كانت جزءاً من مزيج دوافع الانضمام، إلى جانب عوامل أيديولوجية واجتماعية.
2- شبكات الخطف والتهريب:
في مناطق انحلال الدولة كمؤسسات فاعلة حقيقية، أصبحت عمليات الخطف والابتزاز وتهريب الوقود والسلع مصدراً رئيسياً للدخل لفاعلين محليين.
هذه الظاهرة لا تتطلب مشروعاً أيديولوجياً؛ الدافع مادي بحت، لكنها تُنتج بنى فوقية وظيفية (حماية، علاقات مع فواعل مسلحة) تُبقي على مناخ عدم الاستقرار.
3- تشكيلات مسلحة ذات طابع قومي/إقليمي:
بعض التشكيلات اعتمدت على تمويل خارجي أو سيطرة على موارد محلية لبناء مؤسسات محلية (إدارة، خدمات، إعلام) تُبرر مشروعها السياسي.
وهنا يتحول المال إلى أداة لبناء شرعية محلية، ويُستخدم الخطاب القومي أو المحلي لتعبئة الدعم وربط مصالح اقتصادية بهوية سياسية، وهو ما يوضح كيف يمكن للأساس أن يُعيد تشكيل السطح.

قراءة نقدية، حدود الاختزال الاقتصادي:

من المهم التأكيد أن القول بأن "المال يقرر كل شيء" هو اختزال مخل.
فالعلاقة بين الأساس والسطح جدلية ومعقدة؛ البنى الثقافية والدينية والسياسية تمتلك قدرة على التأثير المتبادل، وفي بعض الحالات قد تُحرّك أفكاراً قوية تحوّل قواعد الاقتصاد أو تُعيد تشكيلها.
يُذكرنا النقد الثقافي بأن البنية الفوقية ليست مجرد انعكاس سلبي للأساس، بل يمكن أن تكون قوة فاعلة في إعادة إنتاج الواقع أو مقاومته. كذلك، دراسات مقارنة حول دوافع الانضمام إلى حركات مسلحة تُظهر أن العوامل الاقتصادية تتداخل مع عوامل الهوية، والانتقام، والضغط الاجتماعي، والتجارب ةلشخصية، ما يستدعي مقاربة متعددة الأبعاد في التحليل والتدخل.

توصيات سياسية واستراتيجية:
نرى في تيار المستقبل السوري أنه ولمواجهة قابلية التطرف الديني أو القومي أو المصلحي في سورية لا يكفي النهج الأمني البحت، بل المطلوب هو مزيج من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على رأسها:

  • برامج تشغيل مستهدفة: مشاريع تشغيل محلية قصيرة ومتوسطة الأمد تركز على الشباب والنساء في مناطق عالية المخاطر لتقليل سوق التجنيد الاقتصادي.
  • استعادة الخدمات الأساسية: إعادة تأهيل البنية التحتية والخدمات العامة لإعادة ثقة المواطنين بالمؤسسات وتقليل الاعتماد على بدائل غير رسمية.
  • تفكيك الاقتصاد غير الرسمي تدريجياً: سياسات مالية وقضائية متدرجة تستهدف شبكات الخطف والتهريب مع توفير بدائل اقتصادية للعاملين فيها.
  • بناء خطاب مدني بديل: دعم مبادرات مجتمعية وإعلامية تربط بين العدالة الاقتصادية وحقوق المواطنة وتفكك رواسب الشرعية التي تستغلها الحركات المتطرفة.
  • برامج إعادة إدماج: تأهيل مهني ونفسي للناجين والمفرّطين من الجماعات المسلحة لتقليل العودة إلى العنف أو الجريمة.

خاتمة:

الاقتصاد في سورية عامل مركزي يحدد تكوين الفرص والحوافز التي تواجه الأفراد والجماعات.
والمال يمكن أن يكون محركاً للتطرف عندما يقترن بفراغ سياسي وهووي، لكنه أيضاً يمكن أن يكون مدخلاً للسلام عندما يُستخدم لإعادة بناء المؤسسات وتوفير فرص عادلة.
إن قراءة ماركسية-نقدية متوازنة تسمح بفهم هذه الديناميكية دون الوقوع في اختزال مادي ساذج، وتدفع نحو سياسات متكاملة تعالج جذور المشكلة لا أعراضها.

المراجع:

  1. Anne Speckhard & Molly D. Ellenberg, ISIS in Their Own Words: Recruitment History, Motivations for Joining, Travel, Experiences in ISIS, and Disillusionment over Time (تحليل مقابلات مع عائدين ومنشقين)، ورقة بحثية متاحة عبر قواعد بيانات الأبحاث.
  2. Kerem Övet, James Hewitt, Tahir Abbas, Understanding PKK, Kurdish Hezbollah and ISIS Recruitment in Southeastern Turkey، دراسة مقارنة عن آليات التجنيد في مناطق حدودية.
  3. World Bank, The Toll of War: The Economic and Social Consequences of the Conflict in Syria (2017)، تقرير يقدّم تقديرات الخسائر الاقتصادية والاجتماعية للصراع السوري.
  4. "Base and superstructure", Wikipedia (مقال مرجعي يشرح مفهومَي الأساس والسطح في الماركسية).
  5. Raymond Williams, Base and Superstructure in Marxist Cultural Theory (نقد وتحليل للعلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية)، ورقة نقدية كلاسيكية تناقش حدود الاختزال الاقتصادي.

شاركها على:

اقرأ أيضا

مؤسسة إكثار البذار تؤمّن احتياجات المزارعين في سورية

مؤسسة إكثار البذار تؤمّن احتياجات المزارعين في سورية من خلال نظام القرض الحسن والمبادرات الوطنية.

17 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

وصول شحنات المساعدات الإنسانية الأمريكية إلى ميناء طرطوس

وصول شحنات المساعدات الإنسانية الأمريكية إلى ميناء طرطوس يساهم في دعم الأفران العامة وتحسين الأمن الغذائي.

17 ديسمبر 2025

إدارة الموقع