المقدمة:
في 27 نوفمبر 2025 وجَّه الرئيس أحمد الشرع دعوة متلفزة مباشرة إلى الشعب السوري للخروج في اليوم التالي «للاحتفال بالذكرى الأولى لمعركة ردع العدوان، وإظهار اللحمة الوطنية في وجه محاولات التقسيم».
استجاب مئات الآلاف في جميع المحافظات تقريباً، من الجامع الأموي في دمشق إلى ساحة السبع بحرات في إدلب، ومن قبتان الجبل في حلب إلى ساحات قلب اللاذقية.
لكن هذه الدعوة لم تكن مجرد احتفال تذكاري. جاءت في توقيت بالغ الحساسية بعد أقل من أسبوع من مظاهرات علوية طالبت بالفدرالية، وفي ظل تصعيد إعلامي حكومي غير مسبوق ضد قوات سوريا الديمقراطية، وإعلان توقف المفاوضات مع الإدارة الذاتية.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل هذه الدعوة كأداة سياسية لقياس شعبية الرئيس الشرع وتعبئة الرأي العام في مرحلة انتقالية هشة، مع التركيز على دلالاتها الطائفية والإقليمية.
السياق التاريخي المباشر:
انطلقت معركة «ردع العدوان» في 27 نوفمبر 2024 وسقط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر من العام نفسه. تولى أحمد الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية في 29 يناير 2025 ووقّع في 10 مارس 2025 اتفاق دمج مؤسساتي مع قائد قسد مظلوم عبدي، وأصدر دستوراً انتقالياً لخمس سنوات.
لكن التوترات عادت سريعاً! من أحداث الساحل ثم السويداء وإلى أحداث حمص في نوفمبر 2025 (مقتل زوجين في حي زيدل وحرق جثة أحدهما) مما أشعل موجة عنف طائفي، ثم جاءت مظاهرات الساحل في 28 نوفمبر بدعوةٍ من الشيخ النصيري غزال غزال مطالبة بالفدرالية.
الدعوة الرئاسية، نصُّها ودلالاتها:
قال الشرع حرفياً في خطابه مساء 27 نوفمبر:
«أدعوكم يا أبناء سورية الأحرار… إلى النزول غداً إلى الساحات… لنقول للعالم إن سورية واحدة موحدة، شعباً وجيشاً ومصيراً، ولن نسمح لأي كان أن يفرّقنا».
يبدو أن اختيار هذا التوقيت واللغة يحمل ثلاث رسائل متداخلة:
- تعبئة وطنية ضد «محاولات التقسيم» (إشارة مباشرة إلى مطالب الفدرالية العلوية وقوات الشيخ الدرزي حكمت الهجري).
- اختبار قدرة الرئيس على الحشد خارج قواعده التقليدية (إدلب وحلب الغربية).
- تحويل ذكرى الانتصار العسكري إلى رأسمال سياسي شخصي. الاستجابة الشعبية، قراءة كمية ونوعية:
قدرت وكالة سانا مشاركة أكثر من مليوني شخص في عموم سورية بينما قدّرت مصادر مستقلة الرقم بين 800 ألف و1.5 مليون (الجزيرة مباشر 2025).
والأهم من العدد هو التوزيع الجغرافي-الطائفي:
- دمشق وريفها:
450-550 أكبر تجمع من الجامع الأموي إلى ساحة الأمويين - حلب:
300-400 بداية رمزية من قبتان الجبل. - إدلب:
250-300 قاعدة تقليدية قوية. - درعا:
150-200 أول خروج جماهيري كبير منذ 2024. - اللاذقية:
40-60 مشاركة علوية ملحوظة لكن أقل من المتوقع. - طرطوس:
30-50 حضور رمزي مع إجراءات أمنية مشددة.
هذه الأرقام تؤكد نجاح الحشد في المناطق السنية الغالبة، واستجابة محدودة لكن موجودة في الساحل، ما يعني أن الدعوة نجحت كاختبار شعبية عام، لكنها كشفت في الوقت ذاته حدود الثقة الطائفية.
التصعيد ضد قسد، التوقيت ليس صدفة:
في اليوم نفسه (28 نوفمبر)، قال وزير الإعلام حمزة مصطفى في مقابلة مع «الإخبارية السورية»:
«هناك جهات متهورة تتصرف كأنها إمبراطورية صغيرة في الشمال الشرقي… رهاناتها خاطئة وسيكون لها عواقب».
وفي اليوم التالي، أكد القيادي الكردي آلدار خليل لـ«المونيتور» توقف المفاوضات تماماً بعد لقاء الشرع-ترامب في واشنطن، مشيراً إلى «محاولات دمشق كسب الوقت والالتفاف على الاتفاق».
هذا التصعيد المتزامن مع الحشد الشعبي يوحي باستراتيجية مزدوجة! تعبئة الرأي العام داخلياً كغطاء لضغط عسكريٍّ سياسي محتمل على قسد.
تحدي الساحل والمطالب الفدرالية:
مظاهرات 25 نوفمبر في اللاذقية وطرطوس وجبلة وحمص رفعت شعارات «فيدرالية… فيدرالية» و«العلوي ما بينذل». على أن مشاركة أبناء الساحل في مسيرة 28 نوفمبر، رغم محدوديتها، تُظهر أن جزءاً من الطائفة العلوية لا يزال يراهن على «الدولة المركزية» كضمانة، بينما يرى جزء آخر في الفدرالية الحل الوحيد.
خاتمة:
في ضوء نظرية ماكس فيبر، يعتمد أحمد الشرع حتى الآن على الشرعية الكاريزمية (منقذ الأمة من الأسد). ويبدو أن دعوة 28 نوفمبر كانت محاولة لتحويل هذه الكاريزما إلى شرعية قانونية-عقلانية عبر إثبات القدرة على الحشد الشعبي الواسع. وقد نجحت جزئياً، لكن استمرار التوترات الطائفية والإقليمية يعني أن هذه الشرعية لا تزال هشة ومشروطة.
وقد نجحت دعوة الرئيس الشرع في 28 نوفمبر 2025 كاختبار شعبية كبير، لكنها كشفت في الوقت ذاته عمق التحديات الطائفية والإقليمية، ولتحويل هذا النجاح المؤقت إلى استقرار دائم.
وعليه فإننا نوصي في تيار المستقبل السوري بما يأتي:
- استئناف فوري للمفاوضات مع الإدارة الذاتية على أساس اتفاق مارس 2025 مع جدول زمني واضح.
- فتح حوار وطني شامل يضم ممثلي الساحل والشرق والوسط حول شكل الدولة (لامركزية موسعة دون تقسيم).
- إصدار عفو عام مشروط عن المعتقلين من جميع المكونات مع ضمانات.
- تشكيل لجنة دستورية متوازنة طائفياً وإقليمياً قبل نهاية 2026.
ومما يبدو أنه إذا نجح الشرع في ترجمة الحشد الشعبي إلى إصلاحات سياسية حقيقية، فقد يصبح مهندس سورية الجديدة.
وإن فشل، فقد تتحول ذكرى «ردع العدوان» إلى مجرد لحظة عابرة في تاريخ بلد لا يزال يبحث عن وحدته.
المراجع:
- تلفزيون سورية. 2025. «خطاب الرئيس أحمد الشرع 27 نوفمبر».
- وكالة الأنباء السورية (سانا). 2025. «ملايين السوريين يحتفلون بالذكرى الأولى لمعركة ردع العدوان». 28 نوفمبر.
- الجزيرة مباشر. 2025. «تغطية خاصة: مظاهرات الذكرى الأولى».
- فرانس برس. 2025. «مظاهرات علوية تطالب بالفدرالية في الساحل السوري». 26 نوفمبر.
- DW عربي. 2025. «توتر طائفي في حمص والساحل بعد مقتل زوجين علويين».
- المونيتور. 2025. «قيادي كردي: المفاوضات مع دمشق توقفت تماماً». 29 نوفمبر.
- عنب بلدي. 2025. «حمزة مصطفى يهاجم قسد».
- Weber, Max. 1978. Economy and Society. University of California Press.