إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

واقع التهميش والنظام المُدمِّر

من خلال دراستي وتحليلي للواقع في الشرق الأوسط وخاصة الواقع العربي، لم أتعلم من هذا الواقع العربي المدمر درساً جديداً، وإنما ازددت يقيناً أن الإنسان في بلادنا بدءاً من سوريا – والتي أصبحت بمثابة مختبر دموي يعاد فيه اختبار كل نموذج من نماذج التوحش، سواء كان باسم الدين، أو العروبة، أو الدولة، أو حتى الثورة – لا قيمة له: لا ككائن ذاتي، ولا كمواطن، ولا حتى كضحية. بل هو مجرد وسيلة: وسيلة للسلطة لتثبت نفسها، وسيلة للخطابات لتروج أوهامها، ووسيلة للآخرين ليتاجروا باسمه.

هذا التهميش ليس عارضاً، بل هو نظام متكامل، قائم على إلغاء الإنسان ككل، ليس فقط حريته، بل وجوده كذات قادرة على التفكير، على الاختيار، على أن تكون سببا في ذاتها. ومن هنا، لا يمكننا أن نكتفي فقط بالغضب أو بالحزن، بل يجب أن نسأل: كيف نعيد تكوين الإنسان العربي؟ ليس كمشروع إصلاحي من الأعلى، بل كولادة جديدة من الداخل، من الأعماق، من رحم المعاناة نفسها.

أزمة الذات العربية: جذر الإشكالية

حقيقة أن أصل كل أزمة في المجتمعات الشرق أوسطية ومنها العربية لا يكمن في السياسة فقط، ولا في الاقتصاد فقط، بل في أزمة الذات. فنحن حقيقة لم ننتج ذاتاً حرة، بل أنتجنا ذاتاً خاضعة: خاضعة للسلطة الأبوية، للخطاب الديني السلطوي، للهوية القبلية أو الطائفية، خاضعة لما يروجه الآخرون ولدولة تحولت إلى كيان عدو لشعبها.

الإنسان العربي، في هذا السياق، لم يولد سيداً لذاته، بل وجد في شبكة من العلاقات غير المتكافئة: الأب يهيمن على الابن، الرجل على المرأة، الطائفة أو العشيرة على الفرد، الحزب على المواطن، والدولة على الكل. حقيقة كل هذه العلاقات ليست طبيعية، بل هي إنتاج تاريخي لمشروع سلطوي يسمى "الحداثة السلطوية": حديثة شكلياً، بمؤسساتها وزيها الرسمي الموحد وخطابها، لكنها في العمق تعيد إنتاج الهمجية باسم التقدم.

فلننظر لسوريا على زمن حزب البعث: في الوقت الذي كان يتغنى فيه بالقومية العربية والوحدة والحرية والاشتراكية، كان يفرخ سجونا ويسجل أرقاماً قياسية في تعذيب وقتل البشر، ويحول المدن إلى ساحات للخراب والتنكيل. لم تكن الدولة هنا وسيلة لحماية الإنسان، بل أداة لاستعباده. ولم يكن الخطاب العربي التحرري الاشتراكي سوى قناع لمشروع استبدادي عميق الجذور.

البديل الأمثل: مشروع الحداثة الديمقراطية

ولذلك هناك البديل الأمثل وهو مشروع "الحداثة الديمقراطية"، وهذا حقيقة ليس مجرد نظام سياسي، بل طريقة حياة جديدة، تقوم على ثلاثة محاور جوهرية: المرأة، الطبيعة، والديمقراطية التشاركية.

المرأة كمقياس للتحرر

لماذا المرأة؟ لأن تحرر المرأة هو مقياس تحرر المجتمع بأكمله. ففي مجتمع تسجن فيه المرأة وتستعبد وتمنع من التعليم، لا يمكن أن يولد إنسان حر. فالحرية حقيقة لا تبنى على نصف المجتمع فقط.

الطبيعة كامتداد للعلاقة الإنسانية

أما الطبيعة؟ لأن العلاقة الاستغلالية بالطبيعة – قطع الأشجار وحرق الغابات، تلويث الأنهار، تحويل الأرض إلى سوق عقاري – هي امتداد للعلاقة الاستغلالية بالإنسان. من لا يحترم الأرض لا يحترم الإنسان.

الديمقراطية التشاركية كضمانة للحرية

أما الديمقراطية التشاركية؟ لأن السلطة المركزية، سواء كانت باسم الله أو العروبة أو الحزب أو حتى الثورة، لا تخلق سوى العبودية. أما السلطة التي تنبثق من الأسفل، من مجالس الأحياء، والتعاونيات، ومن قدرة الناس على إدارة شؤونهم بأنفسهم، فهي وحدها القادرة على توليد إنسان واعٍ، مسؤول، حر.

الإنسان العربي المنشود: من التبعية إلى الفاعلية

حقيقة الإنسان العربي الذي ننشده ليس ذلك الكائن الذي يردد الشعارات، بل ذلك الذي يسائل ذاته أولاً. وليس من يستطيع أن يحرر غيره وهو لا يزال مستعبداً في داخله؟ وليس من يستطيع أن يبني دولة ديمقراطية وهو لا يزال يرى في الآخر عدواً؟ وليس من يستطيع أن ينادي بالحرية وهو لا يزال يكبل زوجته أو ابنته؟

فالتغيير الحقيقي لا يبدأ بمظاهرة في الشارع، بل بمحادثة في البيت. لا يبدأ بسقوط نظام، بل بسقوط الخوف من القلب. لا يبدأ بتحرير الأرض، بل بتحرير العقل. وهذا ما يجعل مشروع الحداثة الديمقراطية ثورة وجودية قبل أن تكون سياسية، لأنه يدعونا إلى أن نعيد قراءة تاريخنا لا كسلسلة هزائم، بل كفرص ضائعة لإعادة تكوين الذات الجماعية.

التاريخ العربي: من سردية الهزائم إلى سردية المقاومة

فالتاريخ العربي ليس فقط تاريخ حروب وانقسامات، بل أيضاً تاريخ مقاومة: مقاومة المرأة في قريش، ومقاومة المعتزلة للخطاب الديني السلطوي، ومقاومة الفلاحين ضد الإقطاعيين، ومقاومة المثقفين ضد الاستبداد. كلها شرارات يمكن أن تعيد إشعال النار.

لقد عشنا قروناً نعلم أبناءنا أن يطيعوا، لا أن يفكروا. أن يكرروا، لا أن يبتدعوا. أن يخافوا، لا أن يتحدوا. وحين ثار بعضهم، حوّلنا الثورة نفسها إلى سلطة جديدة، لأننا لم نغير الإنسان الموجود داخلنا.

الواقع الراهن: من الانهيار إلى إعادة البناء

واليوم، بعد أن سُحقنا جميعاً في سورية، في العراق، في لبنان، في اليمن، في السودان، في ليبيا، وفي فلسطين، لم يعد أمامنا خيار سوى العودة إلى الجذور. ليس جذور الماضي الأسطوري الذي نتغنى به، بل جذور الإمكان البشري: إمكان أن نكون مختلفين، أن نعيش معاً دون أن نذبح بعضنا، أن نبني دون أن نهدم.

هذا هو التحدي الحقيقي: ليس تغيير الحاكم، بل تغيير العلاقة بين البشر. وليس بناء دولة، بل بناء مجتمع متماسك يتشارك أبناؤه فيما بينهم إدارة شؤونهم. وليس مطالبـة بالحقوق، بل ممارسة للواجبات تجاه الذات والآخر.

التعلم من الألم لا من الأوهام

لذا، حين أقول "لم أتعلم"، فإنني أعني أنني لم أتعلم من الأوهام. لم أتعلم من خطابات النهضة والعروبة والحرية والاشتراكية والتي حقيقة كانت أقنعة للاستبداد. لم أتعلم من القومية التي حولت الإنسان إلى وقود للحروب. لم أتعلم من الدين الذي استخدم كسلطة وليس كرحمة.

لكني تعلمت من الألم. من وجع الأم التي فقدت ابنها. من الطفل الذي يتسول في الشارع بعد أن قصف بيته. من الشاب الذي يحلم بالهجرة لأنه لم يعد يرى نفسه إنساناً في وطنه. ومن هذه المدرسة المؤلمة، أرى أن التحرر الوحيد الممكن هو أن نعيد اختراع الإنسان العربي: لا كمستهلك للخطابات، بل كمنتج لوجوده. لا كاتباع، بل كمبادر. لا كفرد معزول، بل كذات جماعية واعية.

طريق التحرر الداخلي

وهذا بالضبط ما نريده، وهو ليس جواباً جاهزاً، بل طريقاً للسؤال. طريق لا ينتهي عند السلطة، بل يبدأ منها. طريق لا يعلمنا كيف نطيح بالحاكم، بل كيف نعيد بناء أنفسنا كأحرار.

حقيقة قد يكون هذا الطريق طويلاً، وقد يبدو مستحيلاً في زمن الانهيار. لكنه الوحيد المستدام والذي لا يعيد إنتاج الكارثة من جديد. لأن الإنسان الحر، عندما يولد، لا يقبل أن يذل. ولا يقبل أن يذل غيره.

وهذا هو الأمل الحقيقي: ليس في أن نغير الآخرين، بل في أن نغير أنفسنا. لأن التغيير، في النهاية، لا يأتي من الخارج. بل يأتي من الداخل. من القلب. من الفكرة. من الإرادة. من اليقين بأن للإنسان قيمة. قيمة لا تشترى ولا تباع. قيمة تبنى يوماً بعد يوم، في كل فعل صغير نختار فيه الحرية على الخوف، والوعي على الجهل، والحب على الكراهية.

شاركها على:

اقرأ أيضا

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

الزكاة التمكينية في الفقه الاسلامي وتطبيقاتها المقاصدية في سورية خلال المرحلة الانتقالية

الزكاة التمكينية في الفقه الاسلامي وتطبيقاتها المقاصدية في سورية خلال المرحلة الانتقالية

4 ديسمبر 2025

جمعة محمد لهيب