واقع الصناعة السورية ومحددات إنعاش هذا القطاع

مقدمة:

شكّلت الصناعة السورية على مدى عقود طويلة أحد أهم ركائز الاقتصاد الوطني، حيث اتسمت بتنوعها بين الصناعات النسيجية والغذائية والهندسية والكيماوية، وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالقطاعين الزراعي والتجاري.
وقد مثّل هذا التكامل حجر الزاوية في استقرار الاقتصاد السوري قبل عام 2011، قبل أن تتعرض البلاد لتحولات جذرية نتيجة الحرب الممتدة حتى التحرير عام 2024، التي أضعفت البنية التحتية الصناعية وأخرجت آلاف المنشآت عن الخدمة.

أولاً: الصناعة السورية قبل الثورة (ما قبل عام 2011)

كان الاقتصاد السوري يوصف حينها بالاقتصاد المتنوع والمكتفي نسبياً ذاتياً، حيث بلغت مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي نحو 23%، وحقق القطاع الصناعي التحويلي معدل نمو بلغ 14.8%، بينما تجاوزت الصادرات الصناعية 5 مليارات دولار أمريكي سنوياً.
تركّزت الصناعات الأساسية في المدن الكبرى (دمشق، حلب، حمص، حماة) وشكلت الصناعات النسيجية والغذائية والدوائية العمود الفقري للاقتصاد السوري، مستفيدة من اليد العاملة الرخيصة والبنية الإنتاجية المتوسطة التي وفّرت قيمة مضافة عالية.

ثانياً: الصناعة السورية خلال سنوات الحرب (2011–2024)
مع اندلاع الثورة السورية، دخل القطاع الصناعي مرحلة تدهور حاد على المستويين المادي والبشري، تمثلت في:

  1. خسائر كلية قُدّرت بأكثر من 2000 مليار ليرة سورية، أي أربعة أضعاف الناتج الصناعي لعام 2010.
  2. تراجع الإنتاج الصناعي من 355 مليار ليرة إلى نحو 61 مليار ليرة فقط وفق أسعار السوق عام 2014.
  3. انخفاض مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي من 23% إلى أقل من 8%.
  4. تدمير مباشر للمنشآت، خصوصاً في حلب وحمص وريف دمشق، وخروج آلاف المعامل عن الخدمة.
  5. نزيف الكفاءات والعمال المهرة نتيجة الهجرة والنزوح، وفقدان رأس المال الوطني المنتج.
  6. ارتفاع تكاليف التشغيل بسبب ندرة الطاقة وارتفاع أسعار المواد الأولية وصعوبة الاستيراد.
  7. خسارة الأسواق التصديرية التقليدية بسبب العقوبات وتراجع القدرة التنافسية.

هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تحوّل سورية من بلد صناعي ناشئ إلى اقتصاد يعتمد على الاستيراد والبضائع الرديئة، ما زاد من العجز التجاري وعمّق الأزمة المعيشية.

ثالثاً: الوضع الراهن للصناعة بعد التحرير (2025 وما بعد)
بعد سقوط النظام وبداية مرحلة الانتقال السياسي، واجهت الصناعة السورية واقعاً مركباً من التحديات والفرص، ومن أبرز الملامح:

  1. انتقال غير مدروس إلى اقتصاد السوق الحر دون تجهيز تشريعي أو مؤسساتي، مما أربك الصناعيين وفتح الباب أمام المنافسة غير العادلة.
  2. تراجع الطاقات الإنتاجية في عدد كبير من المعامل، وتوقف بعضها بشكل كامل، خاصة تلك التي تعتمد على حوامل الطاقة بشكل مكثف.
  3. ارتفاع تكاليف الإنتاج مقارنة بالدول المجاورة، بسبب غياب الدعم الهيكلي وليس المادي، وضعف البنية التحتية.
  4. غزو الأسواق السورية ببضائع منخفضة الجودة ورخيصة الثمن من الخارج، مما أضعف المنتج الوطني وأضر بالقدرة الشرائية.
  5. غياب التنظيم النقابي الفعّال والمؤسسات الداعمة للصناعيين في المرحلة الانتقالية.
  6. ضعف منظومة الجودة والمواصفات القياسية وعدم توحيد المرجعيات الإدارية في المناطق الصناعية.

رابعاً: محددات إنعاش القطاع الصناعي:
إن إنعاش الصناعة السورية يتطلب رؤية استراتيجية متكاملة تتعامل مع التحديات البنيوية والمرحلية على حد سواء.
ومن أهم المحددات الأساسية:

  1. الاستقرار السياسي والأمني:
    لا يمكن للصناعة أن تزدهر دون بيئة مستقرة توفر الأمان القانوني والاقتصادي للمستثمرين.
  2. إصلاح البنية التشريعية:
    ضرورة تحديث القوانين الناظمة للصناعة، وإزالة التعقيدات البيروقراطية، ووضع حوافز واضحة للاستثمار الصناعي.
  3. تأهيل البنية التحتية الصناعية:
    إنشاء مناطق صناعية جديدة في المحافظات الآمنة، وتأهيل المناطق المتضررة بشراكات وطنية ودولية.
  4. تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة:
    إذ تعد هذه المشاريع العمود الفقري لأي نهضة صناعية، لقدرتها على امتصاص البطالة وتحريك الأسواق الداخلية.
  5. إعادة الثقة بين الدولة والقطاع الخاص:
    من خلال إشراك الصناعيين في صياغة السياسات العامة وتقديم تسهيلات ضريبية وتشريعية واقعية.
  6. التركيز على الصناعات ذات الميزة النسبية:
    مثل الصناعات الزراعية والغذائية والنسيجية والدوائية التي تعتمد على الموارد المحلية.
  7. التحول نحو الاقتصاد الأخضر والصناعة المستدامة:
    عبر تشجيع استخدام الطاقات المتجددة وتكنولوجيا الإنتاج النظيف وتدوير النفايات الصناعية.

خامساً: توصيات المكتب الاقتصادي في تيار المستقبل السوري:

  1. تأسيس “المجلس الأعلى للصناعة السورية”
    يضم ممثلين عن الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وتكون مهمته صياغة السياسة الصناعية الوطنية ووضع برامج تنفيذية قصيرة ومتوسطة المدى.
  2. إطلاق “البرنامج الوطني لإعادة تأهيل المناطق الصناعية”
    يهدف إلى إعادة تشغيل المنشآت المدمّرة جزئياً أو كلياً، عبر شراكات مع مستثمرين سوريين في الخارج.
  3. إنشاء “صندوق تمويل الصناعات الصغيرة والمتوسطة”
    بدعم من الحكومة والبنوك التنموية والمؤسسات الدولية، مع تسهيلات ائتمانية ميسّرة.
  4. اعتماد سياسة “الإحلال الصناعي” تدريجياً
    أي تصنيع المنتجات المستوردة محلياً عبر نقل التكنولوجيا وتوطين الخبرات، بما يحقق الاكتفاء الذاتي ويقلل الاستيراد.
  5. إصدار “قانون حماية الصناعة الوطنية”
    يحدد آليات دعم تنافسية للمنتج الوطني، ويضع قيوداً تنظيمية على الإغراق التجاري، بما يتوافق مع التزامات سورية الدولية.
  6. إعادة ربط الصناعة بالزراعة والخدمات اللوجستية
    ضمن استراتيجية “التكامل الإنتاجي الوطني” لضمان سلسلة قيمة مضافة تبدأ من المادة الخام وتنتهي بالتصدير.
  7. تحفيز الصناعات التصديرية من خلال اتفاقيات تجارية ثنائية
    مع الدول الإقليمية المجاورة، وتحديد أسواق مستهدفة في إفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية.
  8. تفعيل التعليم المهني والتقني الصناعي
    بإعادة تأهيل المعاهد الصناعية وتطوير مناهجها بما يتماشى مع احتياجات سوق العمل الحديثة.
  9. تبني “التحول الرقمي الصناعي”
    عبر إنشاء قاعدة بيانات وطنية للصناعة، وربطها بمنصات إلكترونية لتسهيل الاستثمار والتسويق والتصدير.
  10. تعزيز الشراكة مع الجاليات السورية في الخارج
    من خلال مشاريع استثمارية مشتركة في قطاعات الصناعات التحويلية والخفيفة والمتوسطة.

سادساً: تحديات محتملة (الجانب السلبي)

  1. ضعف التمويل المحلي وعدم كفاية الموارد الذاتية.
  2. احتمال تضارب المصالح بين المستثمرين والجهات الحكومية في المرحلة الانتقالية.
  3. مخاطر إغراق السوق ببضائع أجنبية نتيجة ضعف الرقابة الجمركية.
  4. تأخر صدور القوانين التنفيذية والتشريعات التنظيمية.
  5. بطء البيروقراطية في تنفيذ المشاريع التنموية.

سابعاً: الفرص المتاحة (الجانب الإيجابي)

  1. وجود قاعدة صناعية قابلة لإعادة الإحياء في المدن الكبرى.
  2. توفر خبرات سورية مهاجرة يمكن استقطابها ضمن برامج العودة الطوعية للصناعيين.
  3. موقع سورية الجغرافي المميز الذي يجعلها محوراً تجارياً بين آسيا وأوروبا.
  4. انفتاح دولي متزايد نحو دعم مرحلة إعادة الإعمار.
  5. تنوع الموارد المحلية من مواد أولية وطاقة بشرية قابلة للتدريب.

خاتمة:

لقد كانت الصناعة السورية على مدى قرن عنواناً للهوية الإنتاجية السورية ومصدراً لفخرها الوطني، لكن سنوات الحرب الدامية (2011–2024) أفرغت هذا القطاع من محتواه وحولته إلى ركام.
اليوم، تقف سورية أمام مفترق تاريخي: إما أن تستعيد مجدها الصناعي عبر رؤية استراتيجية واضحة وإرادة تنفيذية صلبة، أو تفقد ما تبقى من قدراتها لصالح أسواق خارجية تملأ فراغها.
ويرى المكتب الاقتصادي في تيار المستقبل السوري أن إحياء الصناعة الوطنية هو بوابة النهضة الاقتصادية الحقيقية، وأن الطريق إلى ذلك يمر عبر:
الاستقرار السياسي، والإصلاح التشريعي، والتمويل الذكي، والشراكة الفاعلة بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص.

فقط عبر هذا النهج التكاملي يمكن للصناعة السورية أن تعود لتكون القلب النابض لاقتصاد سورية الجديدة.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع