أسس الديمقراطية الحقيقية: من الفكرة إلى الممارسة

تستند أي محاولة جادة لبناء مشروع ديمقراطي حقيقي إلى ضرورة تبني بناء معرفي ورؤية فكرية عقلانية. تعتبر هذه الرؤية المدخل الأساسي لأي نظام ديمقراطي، فالديمقراطية التي تفتقر إلى أساس فكري واضح، ولا تهدف إلى غايات كونية كالعدالة والمساواة، تبقى ناقصة ومشوهة، إن لم تكن مزيفة بالكامل.

فالديمقراطية الحقيقية ليست مجرد آلية انتخابية، بل هي نظام قائم على الفكر والوعي، مما يمكنها من تحقيق العدالة والمساواة في شتى المجالات: السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية. وبتحقيق هذه العدالة للشعوب، يتحقق التوازن للمجتمع بأسره، حيث تُلغى الاعتبارات الضيقة كالمذهبية والطائفية والقبلية والعشائرية، لتحل محلها معايير المواطنة والقيم الإنسانية المشتركة. بذلك، تنظر الديمقراطية الحقيقية إلى الجانبين العملي والذهني كركنين أساسيين في تقييمها.

الإرث التاريخي وتحدي الممارسة الديمقراطية

في كثير من المجتمعات، لم تكن الديمقراطية إرثًا تاريخيًا أو تقليدًا راسخًا في الثقافة العامة. بل بقيت في غالب الأحيان حبيسة مواقف ذهنية فردية، مرتبطة بشخصيات معينة، ولم ترتقِ أبدًا إلى حالة من الوعي الجمعي المؤسسي القائم بذاته. يعود هذا القصور إلى جملة من عوامل التخلف التي ميزت البيئة الثقافية، أبرزها إقصاء الآخر لمجرد اختلافه في المعتقد أو الرأي أو الخلفية الثقافية.

لذا، فإن أي مشروع ديمقراطي ناجح يجب أن يعمل على تجاوز هذه الإشكاليات من خلال تبني ركائز أساسية كالتشاركية وأخوة الشعوب، مما يمهد الطريق لبناء ثقافة سياسية جديدة.

مظاهر التشوه الفكري والذهني في المجتمعات

تتجلى حالة التشوه الفكري والذهني السائدة في العديد من المجتمعات من خلال الخلل العميق في العلاقات الاجتماعية على جميع الأصعدة. ويكفي لإدراك هذا الخلل أن نلقي نظرة على التجارب في بعض البلدان التي تُوصف بالديمقراطية. فبالرغم من تعدد الإيديولوجيات والأحزاب السياسية التي تتنافس وتطرح برامجها، إلا أن الفجوة شاسعة بين ما تُعلنه هذه القوى من مبادئ وبين ما تمارسه فعليًا في الحياة اليومية وفي الممارسة العملية.

هذه المفارقة تؤكد أن وجود هياكل ديمقراطية شكلية لا يكفي، بل يجب أن تكون الديمقراطية ثقافة راسخة في العقل والسلوك.

الديمقراطية كثقافة وسلوك

النتيجة التي تفرض نفسها هي أن النجاح الحقيقي لأي مشروع ديمقراطي مرهون بتحوله إلى ثقافة سائدة. أي أن تصبح الديمقراطية نمط حياة، مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالذهنية والسلوك اليومي للأفراد والمجتمعات. فقط من خلال نشر هذه الثقافة وترسيخها يمكن ضمان ممارسة ديمقراطية حقيقية تتجاوز الشكلية إلى الجوهر، وتحول القيم النبيلة من شعارات إلى واقع معاش للشعوب.

أنس قاسم المرفوع
باحث وكاتب سياسي

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع