الاغتراب الداخلي ونفي الآخر – الجذور الفلسفية
حقيقة أن الدولة-الأمة قامت تاريخيا على منطق نفي كل ما هو مختلف، وتحويل الإنسان إلى كائن منفصل عن طبيعته المجتمعية. عندما تتبنى أي حركة تغييرية هذا المنطق نفسه داخل بنيتها، فهي تعيد إنتاج نفس الآلة التي تحاربها فحقيقة ان أي مشروع ديمقراطي تحرري لا يمكن أن يبنى على نفس المنطق الآلي والبيروقراطي الذي تمارسه الأنظمة السلطوية. إن تجاهل الشريك وإلغاءه هو الشكل الأولي للاستبداد لأن التجاهل هو هروب من المسؤولية ذاتها.
الديمقراطية كأخلاقيات مجتمعية وليست شكلا مؤسسيا
حقيقة الإدارة في جوهرها خدمة، لا سلطة،وهذا المبدأ هو لب فكرة الديمقراطية بدون دولة أو الكونفدرالية الديمقراطية فحقيقة الديمقراطية هنا ليست صناديق اقتراع وحسب، بل هي أخلاقيات المجتمع الحر، إنها الممارسة اليومية القائمة على الاعتراف المتبادل، والحوار، والتضامن وبناء جسور الثقة عبر الصدق، والوضوح، والتقدير المتبادل. ومن يعجز عن الحفاظ على هذه القيم في دائرة ضيقة من المقربين، فكيف له أن يوسعها ليشمل مجتمعا كاملا ينتظر العدالة، لا الإقصاء، والشفافية، لا التسويف؟ وهذا يذكرنا بمصطلح الزراعة الأخلاقية التي تشدد على أن التغيير الحقيقي يبدأ من الخلية الأولى، من نمط العلاقات الشخصية المباشرة بين الأفراد داخل المشروع. فإذا عجز المشروع عن إنتاج إنسان جديد تتحلى علاقاته بالصدق والتقدير المتبادل داخل دائرته الضيقة، فكيف له أن ينتج مجتمعا جديدا يتسع للجميع؟ فحقيقة الممارسة الديمقراطية هي مثل الحرفة، تتقنها بالتدريب اليومي في المساحات الصغيرة قبل أن تمارسها في المساحات الكبيرة. فالفيلسوفة حنة آرنت كانت ترى أن جوهر السياسة هو الكلام معا، والعمل معا. ولكن حين يسد باب الحوار، ويموت الكلام، تموت السياسة ذاتها، ويحل محلها التسيير البيروقراطي العاري. فإذا كان المسؤول لا يجد وقتا للقاء ولا مساحة للحوار ولا حتى كلمة رد على تحية، فكيف له أن يصغي لصرخة مواطن مجهول في زحمة الحياة؟
سقوط المشاريع: بالجفاف الداخلي لا بالعداء الخارجي
التاريخ يشهد أن كثيرا من المشاريع سقطت لا بسبب العداء الخارجي، بل بسبب الجفاف الداخلي الناتج عن الصمت المتعمد، واللقاءات العقيمة، والوعود الجوفاء. حين يعامل الفاعل السياسي أو الفكري كأنه عبء يجب تحييده، لا طاقة يجب تفعيلها، فإن المشروع كله يبدأ بالانزلاق نحو البيروقراطية، بعيدا عن روحه التحررية الأولى. فالديمقراطية الحقيقية لا تمارس في الأعياد والمناسبات، بل في التفاصيل الصغيرة: في احترام الموعد، في تقدير الرأي الآخر، في عدم استخدام الوظيفة كأداة ضغط أو رمز للولاء، وفي فهم أن العمل الجماعي التشاركي ليس ترفا، بل ضرورة وجودية لأي عمل جماعي. فحقيقة التجاهل والتهميش داخل أي مشروع ديمقراطي يعتبر شكل من أشكال الاستيعاب السلبي، الذي يجمد الطاقة النقدية ويحولها إلى سخط صامت.
الهروب من المسؤولية: نذير اغتراب أوسع
إذا كان بعض المسؤولين يلجأون إلى سياسة الهروب والتنصل من مسؤولياتهم ورفض العمل التشاركي، فهذه ليست خسارة لفرد أو مجموعة فحسب، بل هي نذير اغتراب أوسع بين المؤسسة والشعب. لأن من لا يرى قيمة في من يشاركه الفكرة، لن يرى في الناس سوى أرقام تدار، لا بشر يحترمون. وفي لحظة نحتاج فيها إلى كل قلب صادق، وكل عقل بناء، لا يجوز أن نبدد الطاقات بالتجاهل أو التهميش. فاللقاء الصادق، حتى لو انتهى إلى خلاف، يبقى أنبل من الاتفاق الصامت الذي يبنى على الخوف أو المصلحة. فالحياة الحرة التي نريدها هي حياة حرة شاملة فالديمقراطية فيها ليست آلية انتخابية فحسب بل هي منهج حياة متكامل، حيث تتداخل الوسيلة والهدف في نسيج واحد: بحيث لا يمكن بناء مجتمع حر عبر ممارسات قمعية، ولا يمكن فصل أخلاقيات النضال عن غاياته. لأن التحرر الحقيقي يبدأ من تحرير العلاقات الإنسانية ذاتها – داخل التنظيمات والأسر والمجتمعات المحلية – من منطق الهيمنة، لتصبح كل دائرة مجتمعية نواة لممارسة الإدارة الأفقية القائمة على المشاركة والتضامن. وبهذا المعنى تكون الديمقراطية هي البذرة والثمرة معا فهي ممارسة يومية للحرية في أدق التفاصيل، ورهان على قدرة البشر على تنظيم ذاتهم بشكل حر خارج إطار الدولة المركزية، في سعي نحو مجتمع تتحقق فيه الحرية كحالة وجودية، لا كمجرد حق سياسي.
النتيجة (من ثقافة المقاومة إلى أخلاقيات البناء)
فحقيقة إن أي مشروع تغييري ديمقراطي يفقد قلبه النابض وهو الثقة والاحترام بين أعضائه يصبح جثة هامدة تنتظر الدفن. فاللقاء الصادق، حتى مع الخلاف، هو شريان الحياة. إنه تأكيد على الإنسانية المشتركة، بينما الاتفاق الصامت القائم على الخوف هو شكل من أشكال الموت الأخلاقي. فالأمل ليس مجرد توقع، بل هو موقف أخلاقي والأمل الحقيقي يكمن في القدرة على خلق مساحات للثقة والاعتراف المتبادل، هنا والآن. فالمشاريع التي تبدأ بثقافة الاحترام والتقدير من الداخل، هي وحدها القادرة على أن تصل إلى الشعب بلغة الصدق، لا بلغة التسلط أو الزيف. وهي وحدها القادرة على تحويل الهم المشترك إلى واقع معاش يحترم جرح الناس ولا يزيده عمقا.
الأستاذ أنس قاسم المرفوع
المكتب العلمي
قسم الباحثين المستقلين