السيادة المجزأة وإعادة تشكيل الهوية الوطنية في سورية

الملخص:

يشهد المشهد السوري تحولات جذرية منذ سقوط نظام بشار الأسد وتولي أحمد الشرع (المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني) قيادة المرحلة الانتقالية عبر هيئة تحرير الشام.
هذا التحول السياسي غير المسبوق يفرض إعادة نظر في المفاهيم التقليدية للدولة، وعلى رأسها السيادة والهوية الوطنية، يتناول هذا المقال مفهوم "السيادة المجزأة" بوصفه واقعًا استراتيجيًا جديدًا، ويحلل أثره على إعادة تشكيل الهوية الوطنية السورية، في ظل تعدد مراكز القرار وتداخل الفاعلين المحليين والدوليين.
يعتمد المقال على تحليل نوعي للمصادر السياسية والإعلامية، ويقترح إطارًا نظريًا لفهم الدولة السورية ككيان تفاوضي متعدد الأقطاب.

المقدمة:

منذ عام 2011، دخلت سورية في حالة من التفكك السياسي والمؤسساتي، نتيجة صراع داخلي معقّد وتدخلات إقليمية ودولية متشابكة، ومع سقوط النظام البائد لم تعد سورية دولة مركزية ذات سيادة تقليدية، بل تحولت إلى فضاء سياسي تتقاطع فيه مشاريع متباينة، تتراوح بين الإسلام السياسي البراغماتي، والنزعات القومية، والتوجهات الفيدرالية.
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف مفهومي السيادة والهوية الوطنية، ليس بوصفهما معطيين ثابتين، بل كنتاج لتفاعلات استراتيجية مستمرة.

أولًا، من مركزية قومية إلى براغماتية إسلامية:

اعتمد النظام السوري البائد على سردية قومية مقاومة، ارتكزت على مركزية الدولة، وعداء معلن للغرب وإسرائيل، وتحالفات مع محور المقاومة.
هذه السردية كانت تُوظف لتبرير احتكار السلطة، ورفض التعددية، وقمع الحركات السياسية المعارضة.
وفي المقابل، يتبنى النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع خطابًا براغماتيًا إسلاميًا، يسعى إلى تجاوز الأيديولوجيا الجهادية نحو بناء سلطة وظيفية قادرة على إدارة المناطق السورية المحررة من النظام البائد، والتفاوض مع القوى المحلية والدولية.
فالتحول من خطاب تعبوي إلى مشروع سياسي عملي يعكس إدراكًا بأن المرحلة الانتقالية تتطلب مرونة سياسية، وقدرة على بناء تحالفات عابرة للهويات التقليدية.

كما أن الانفتاح على قوى الأمر الواقع، مثل قوات سوريا الديمقراطية وبعض مكونات المعارضة، يشير إلى رغبة في تأسيس شرعية جديدة قائمة على الإنجاز لا على التاريخ.

ثانيًا، السيادة المجزأة كواقع استراتيجي:

في ظل التوازنات الجيوسياسية، لم تعد السيادة السورية مطلقة، بل أصبحت موزعة بين أطراف متعددة.
فهيئة تحرير الشام تمارس سيادة إدارية وأمنية في إدلب ومحيطها.
وقوات سورية الديمقراطية تدير مناطق واسعة في شمال شرق البلاد بدعم أميركي مباشر. تركيا تسيطر على مناطق في الشمال الغربي، وتديرها عبر فصائل محلية.
بينما روسيا تحتفظ بنفوذ عسكري في الساحل وقامشلي.
والولايات المتحدة تملك قواعد استراتيجية في الشرق، وتؤثر في القرار الأمني لقسد.

هذا التوزيع لا يستند إلى نص دستوري، بل إلى موازين القوة، وهو قابل للتغير مع كل تحول إقليمي أو دولي. السيادة في هذا السياق تتحول من مفهوم قانوني إلى أداة تفاوض بين الفاعلين المحليين والدوليين، تُستخدم لتثبيت النفوذ، أو شرعنة السيطرة، أو ضبط التوازنات.

ثالثًا، اتفاق آذار كأداة هندسة أمنية:

تمثل الاتفاقات الأخيرة، وعلى رأسها اتفاق آذار، أدوات هندسة أمنية تهدف إلى خفض التصعيد وتثبيت خطوط التماس، دون أن ترقى إلى مستوى التسوية السياسية.
إن زيارة المبعوث الأمريكي توم باراك إلى الحسكة، وتصريحات الخارجية الفرنسية بشأن اتفاق إيقاف اطلاق النار بين الدولة وقسد، ومواقف تركيا وروسيا، كلها تشير إلى أن هذه الاتفاقات تُستخدم لضبط الإيقاع السياسي، وليس لحل جذري.

ومن منظور استراتيجي، تتيح هذه الاتفاقات لكل طرف إعادة التموضع، وتُستخدم كورقة تفاوض في المحافل الدولية، لكنها لا تعني بالضرورة قبول الأطراف ببعضها كجزء من مشروع وطني مشترك، بل تعكس حالة من "السيادة الوظيفية"، حيث تُدار المناطق وفق تفاهمات أمنية واقتصادية مؤقتة.

رابعًا، الهوية الوطنية في ظل السيادة المجزأة:

إن الهوية الوطنية السورية، التي كانت تُبنى على وحدة الأرض والشعب، وسردية تاريخية مشتركة، ومؤسسات مركزية، تعرضت لتفكك عميق، فكل منطقة تُعيد إنتاج سرديتها الخاصة، وفقًا للسلطة المسيطرة عليها.
ففي إدلب، تتشكل هوية إسلامية براغماتية تسعى إلى تجاوز الانقسامات الطائفية والقومية.
وفي شمال شرق سورية، تتبلور هوية متعددة القوميات ذات طابع كردي، لكنها منفتحة على المكونات الأخرى. في مناطق النفوذ التركي، تظهر هوية سورية هجينة تتأثر بالمرجعية الأمنية التركية.
أما في مناطق نفوذ النظام السابق، فتبقى الهوية القومية منهكة، رمزية أكثر منها فعلية.

هذا التعدد لا يعني بالضرورة تفكك الهوية الوطنية، لكنه يخلق حالة من "الهوية المتنازعة"، حيث لا توجد سردية جامعة، بل سرديات متنافسة.
فالهوية الوطنية لم تعد أداة توحيد، بل أصبحت ساحة صراع بين مشاريع سياسية مختلفة، تتراوح بين الإسلام السياسي، والقومية الكردية، والليبرالية المدنية، والمرجعية القومية التقليدية.

خامسًا، إمكانيات إعادة بناء الهوية الوطنية:

إن إعادة بناء الهوية الوطنية السورية تتطلب أولًا إعادة تعريفها لتكون شاملة لا إقصائية، وهنا يجب أن نعترف بالتعددية كجزء من الهوية، لا تهديداً لها.
كما يجب بناء مؤسسات تمثيلية تعكس هذا التنوع، وصياغة عقد اجتماعي جديد يتجاوز مركزية ما قبل 2011.
هذا العقد يجب أن يقوم على الاعتراف المتبادل، والمشاركة السياسية، والعدالة الانتقالية، وليس على منطق الغلبة أو الهيمنة.
فالبراغماتية الإسلامية التي يتبناها النظام الجديد قد تكون مدخلًا لهذا العقد، إذا استطاعت أن تتحول من خطاب تعبوي إلى مشروع سياسي جامع. لكن هذا يتطلب شجاعة فكرية، وجرأة سياسية، واعترافًا بأن سورية ما بعد الحرب لن تكون كما قبلها.

خاتمة:
قبل الولوج بتوصياتنا، نؤسس لنظرة استشرافية متوقعة تقوم على:

  • استمرار السيادة المجزأة كواقع سياسي لعدة سنوات، مع احتمالات تفاهمات وظيفية بين الأطراف.
  • صعود نموذج الدولة التفاوضية، حيث تُدار السلطة عبر تفاهمات مرحلية بين قوى محلية ودولية.
  • إمكانية تحول هيئة تحرير الشام التي انحلت ولكن مع بقاء عصبها، إلى فاعل سياسي رسمي، إذا استمرت في تبني البراغماتية والانفتاح.
  • تراجع الخطاب القومي التقليدي، وصعود سرديات محلية وإسلامية وكردية، مما يستدعي صياغة هوية وطنية جديدة.
  • احتمال تدويل الحل السياسي عبر هندسة أمنية، تتطلب مشاركة سورية فاعلة في صياغة شروطها.

واستنادًا إلى التحليل الوارد في المقال والنظرة الاستشرافية حول السيادة المجزأة وإعادة تشكيل الهوية الوطنية فإننا نوصي في تيار المستقبل السوري بالآتي:
أولًا، توصيات للنظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع:

  1. الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية التمثيلية
    إذ ينبغي للنظام الجديد أن يباشر عملية تحول من شرعية الأمر الواقع إلى شرعية سياسية قائمة على التمثيل الشعبي والمؤسسات الدستورية، عبر خطوات ملموسة نحو بناء مؤسسات مدنية، وإشراك مكونات المجتمع السوري في صياغة المرحلة الانتقالية بما فيها الجزيرة والسويداء والساحل والشمال.
  2. إعادة تعريف مفهوم السيادة بما يتناسب مع الواقع التعددي
    السيادة لم تعد تعني السيطرة المطلقة، بل القدرة على التنسيق، والتفاوض، وضبط التوازنات بما لايصل للمحاصصة السلبية، وعلى العهد الجديد أن يتبنى مفهوم السيادة التشاركية، ويعمل على بناء تفاهمات مع القوى المحلية والدولية دون التفريط بالهوية الوطنية.
  3. ترسيخ قنوات تفاوض رسمية مع قسد، بدلًا من الاكتفاء بتفاهمات أمنية أو لقاءات غير معلنة، بل يجب فتح مسار تفاوض سياسي واضح مع قسد، يهدف إلى صياغة رؤية مشتركة لمستقبل الدولة، ويعترف بحقوق المكونات الكردية والعربية في شمال شرق سورية ضمن إطار وطني جامع.
  4. إطلاق حوار وطني شامل ومستدام غير مُزمن، حول الهوية والدستور، فالمرحلة الراهنة تتطلب حوارًا وطنيًا حقيقيًا حول شكل الدولة، وطبيعة النظام السياسي، والهوية الوطنية الجامعة.
    هذا الحوار يجب أن يشمل كل القوى الفاعلة، بما فيها المعارضة المدنية، والمجالس المحلية، والمكونات القومية والدينية

ثانيًا، توصيات لقوات سوريا الديمقراطية (قسد):

  1. الانتقال من مشروع محلي إلى رؤية وطنية ، فعلى قسد أن تعيد صياغة خطابها السياسي ليكون جزءًا من مشروع وطني سوري، لا مجرد إدارة محلية.
    وهذا يتطلب الانفتاح على القوى السياسية خارج مناطق سيطرتها، والمشاركة في صياغة مستقبل سورية ككل.
  2. التحرر التدريجي من الارتهان الدولي، رغم أهمية الدعم الدولي، فإن الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة أو فرنسا يضعف من شرعية قسد داخليًا.
    والمطلوب هو بناء تحالفات داخلية، وتقديم تنازلات مدروسة في سبيل اندماج سياسي أوسع.
  3. الاعتراف بالتعدد داخل مناطقها، فقسد تدير مناطق متعددة القوميات، ويجب أن تعكس هذه التعددية في بنيتها الإدارية والسياسية، عبر ضمان تمثيل حقيقي للعرب، والسريان، والآشوريين، وغيرهم، ضمن مؤسساتها.
  4. الاستعداد لتنازلات متبادلة في إطار تفاهم مع النظام، فأي تفاهم سياسي مع النظام يتطلب تنازلات من الطرفين، فعلى قسد أن تكون مستعدة للتفاوض حول شكل الحكم، توزيع الموارد، والتمثيل السياسي، ضمن رؤية تحفظ مكتسباتها وتضمن وحدة الدولة.

ثالثًا، توصيات للحالة السورية عمومًا:

  1. القبول بالمرحلة الانتقالية كواقع لا كاستثناء، فسورية تعيش مرحلة انتقالية طويلة ومعقدة، ولا يمكن تجاوزها بالقفز إلى الحلول النهائية.
    فالمطلوب هو إدارة هذه المرحلة بوعي، وتثبيت قواعد سياسية وأمنية تضمن الاستقرار وتمنع الانفجار.
  2. إعادة بناء العقد الاجتماعي السوري، العقد الاجتماعي القديم انهار، ويجب صياغة عقد جديد يقوم على التعددية، العدالة، والمشاركة.
    وهذا العقد يجب أن يُبنى من القاعدة، عبر المجالس المحلية، والنقابات، والمجتمع المدني، لا أن يُفرض من الأعلى.
  3. تحويل التعددية من تهديد إلى مصدر قوة، إذ التعدد القومي والديني والمناطقي في سورية يجب أن يُعاد تأطيره بوصفه ثروة وطنية، لا تهديدًا. المطلوب هو بناء نموذج دولة يستوعب هذا التعدد، ويمنحه تمثيلًا حقيقيًا ضمن مؤسسات وطنية جامعة.
  4. الاستعداد لتدويل الحل السياسي ضمن شروط وطنية ، رغم التخوف من هذا المسار، لكنه للأسف يبدو أنه المسار الواقعي، إذ الحل السياسي في سورية لن يكون محليًا بالكامل، لكنه يجب أن يُدار بشروط وطنية واضحة، تضمن تمثيل السوريين، وتحفظ وحدة البلاد، وتمنع تحويلها إلى ساحة نفوذ دائم للقوى الدولية.

تُظهر الحالة السورية أن مفهومي السيادة والهوية الوطنية لم يعودا ثابتين، بل أصبحا نتاجًا لتفاعلات استراتيجية معقدة.
فالسيادة المجزأة ليست غيابًا للسلطة، بل إعادة توزيع لها بين أطراف متعددة، محلية ودولية. والهوية الوطنية لم تعد سردية موحدة، بل مجموعة من السرديات المتنافسة التي تعكس تعدد المشاريع السياسية.
والنظام الجديد بقيادة أحمد الشرع يقدم نموذجًا مختلفًا، يتجاوز الأيديولوجيا نحو البراغماتية، ويسعى إلى بناء سلطة وظيفية قابلة للتفاوض. هذا النموذج قد يكون فرصة لإعادة بناء الدولة، إذا استطاع أن يستوعب التعدد، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد، ويعيد تعريف السيادة بما يتناسب مع الواقع الجيوسياسي المعقد.

المراجع:

  1. محفوض، ع. س. (2023). اللامركزية والهوية الوطنية في سورية. المركز الكردي للدراسات. https://nlka.net/archives/13138
  2. مركز حرمون للدراسات المعاصرة. (2020). الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس. حرمون. https://www.harmoon.org/researches/الهوية-الوطنية-السورية-بين-الإشكالية/
  3. موساوي، ع. ر. (2023). الديمقراطية القادمة: دريدا وتفكيك السيادة. مجلة تبين للدراسات الفكرية والثقافية، 43(1)، 107–139. https://tabayyun.dohainstitute.org/ar/issue043/Pages/art06.aspx
  4. العبد الله، ي. (2021). إعادة تعريف الدولة في سوريا: من المركزية إلى التعددية. مجلة السياسة الدولية، 224(4)، 55–72.
  5. الهاشمي، م. (2019). السيادة في ظل التدخلات الدولية: دراسة مقارنة بين سوريا والعراق. مجلة القانون والسياسة، 18(2)، 33–60.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع