المقدّمة:
تُعدّ الأسرة نواة البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع السوري، وهي الحاضنة الأولى للهوية والانتماء والاتزان القيمي.
فمن خلال أكثر من عقد من الحرب والعنف الممنهج، تعرّضت الأسرة السورية لاهتزازات عميقة طالت بنيتها ووظائفها ودورها الرمزي، فاختُلّ توازنها النفسي وتراجعت منظومة الثقة، وتصدّعت صورة الوطن والانتماء في أذهان الأجيال الشابة.
ومع انفتاح أفق التحرير في سورية وتحوّل الصراع إلى مرحلة إعادة البناء، تبرز الحاجة إلى مقاربة علمية تعالج الركيزة الأهم في التعافي الوطني، إلا وهي الهوية النفسية للأسرة السورية.
فلا يمكن أن تقوم دولة متوازنة ما لم تتعافَ الأسرة نفسيًا وتعيد بناء ذاتها لتكون مصدر أمانٍ معنى ومبنى، وولاءٍ مدني بحق.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم رؤية علمية متكاملة لصنّاع القرار حول سُبل إعادة بناء الهوية النفسية للأسرة السورية، عبر تحليل العوامل النفسية والاجتماعية المسببة للانكسار، واستعراض مقاربات التعافي، ثم اقتراح سياسات عملية تضمن الانتقال من الألم إلى التوازن، ومن التشظي إلى الوحدة الوطنية.
الإطار النظري، الهوية النفسية للأسرة بين النظرية والواقع:
يعرّف إريك إريكسون (Erikson, 1968) الهوية بأنها الإحساس المتكامل بالذات عبر الزمن، والذي يتكوّن من تفاعل الفرد مع بيئته الاجتماعية والثقافية.
ومن هذا المنطلق، تُصبح الأسرة المؤسسة الأولى لبناء هذا الإحساس بالاتساق الداخلي، لأنها تزوّد الطفل بمعايير القبول والولاء والانتماء.
وترى نظرية الهوية الاجتماعية (Tajfel & Turner, 1979) أن الانتماء إلى جماعة محددة هو عنصر أساسي في بناء الذات الاجتماعية، وأن اضطراب هذا الانتماء يؤدي إلى تشوّه الهوية الشخصية، فعندما تُصاب الأسرة السورية بتفكك في القيم والرموز، ينتقل هذا الاضطراب مباشرة إلى مستوى الوطن، فيتشظى الإحساس بالانتماء الجمعي
أمّا في التحليل السيكولوجي الجماعي، فيشير فولكان (Volkan, 1997) إلى مفهوم "الهوية الكبيرة Large Group Identity"، أي ارتباط الأفراد بجماعة قومية أو دينية أو تاريخية تُشكّل جزءً من شعورهم بالذات. وعندما تتعرّض الجماعة لصدماتٍ متكررة كالحروب أو الانقسامات، تتكوّن "جراح نفسية جمعية" تترك آثاراً طويلة الأمد، ولا يشفى منها المجتمع إلا عبر إعادة سرد جماعي للذاكرة بشكلٍ متوازن.
وفي السياق ذاته، يؤكّد دانييل بار-تال (Bar-Tal, 2003) أن الذاكرة الجمعية للمعاناة إذا لم تُعاد صياغتها بطرقٍ بنّاءة، فإنها تتحوّل إلى "ثقافة عنف" تُعيد إنتاج الكراهية والعزلة، وهو ما شهدته كثير من الأسر السورية في السنوات الماضية.
وبناءً على هذه المرجعيات النظرية، تصبح إعادة بناء الهوية النفسية للأسرة السورية مشروعًا مزدوج البعد: نفسيٌّ اجتماعيّ ووطنيٌّ سياسي في آنٍ واحد.
آثار الحرب على البنية النفسية للأسرة السورية:
أحدثت سنوات الحرب صدماتٍ مركّبة تركت أثرها على كل عناصر الهوية الأسرية.
أولها تآكل الشعور بالأمان، وهو أحد أعمدة البناء النفسي للأسرة (Herman, 1992). ففقدان الأمان يولّد اضطراباتٍ في الثقة والارتباط، ويؤدي إلى تراجع في الإحساس بالسيطرة الذاتية، خاصة لدى الأطفال والنساء.
ثانيها فقدان الدور والرمز الأبوي والأمومي، حيث تحوّل كثير من الآباء إلى مقاتلين أو نازحين أو ضحايا، فانهارت البنية المرجعية للأسرة. وتبيّن دراسات Miller and Rasmussen (2010) أن الضغوط اليومية بعد الحرب من فقر وتشريد وانعدام خدمات تصبح أحيانًا أكثر تأثيراً على الصحة النفسية من مشاهد العنف نفسها، إذ تكرّس الإحباط والعجز المستمر.
ثالثها تبدّل منظومة القيم الاجتماعية. فالحرب أدخلت أنماطًا من البقاء النفعي، وتلاشت الحدود بين "الصواب والخطأ"، مما ولّد أجيالًا تعيش في فراغ قيميّ حقيقي، ويؤدي هذا بدوره إلى صراع بين الأجيال داخل الأسرة! فجيلٌ عاش قيمَ ما قبل الحرب، وجيلٌ تربّى في واقع فوضويّ مضطرب.
ورابعها الاغتراب والانقسام النفسي. فكثير من الأسر السورية عاشت في بيئات لجوء أو نزوح، فانقسم أفرادها بين مجتمعات وثقافات متعددة، ما خلق تضاربًا في المرجعيات العاطفية والانتمائية. وهذا ما وصفه فولكان (1997) بـ "صدمة الهوية المزدوجة"، أي التوتر بين الهويات الجزئية والهوية الأصلية.
هذه العوامل تفسّر تحوّل الأسرة السورية من "بيئة أمان" إلى "بيئة قلق"، ومن "مؤسسة قيم" إلى "مساحة مقاومة وصراع رمزي"، لذلك، فإن أي مشروع لإعادة الإعمار يجب أن يبدأ من داخل هذه البنية النفسية المتضررة.
سيكولوجيا التعافي الأسري:
توضح جوديث هيرمان (Herman, 1992) أن مسار التعافي من الصدمة يمرّ بثلاث مراحل أساسية:
- استعادة الأمان – أي تأمين محيط ثابت يحمي الأفراد من إعادة التجربة المؤلمة.
- إعادة السرد والتذكار الواعي لتحويل الذاكرة المؤلمة إلى وعيٍ نقدي لا إلى ثأرٍ نفسي.
- إعادة الارتباط بالمجتمع، وهي ذروة التعافي، حين يجد الفرد معنى جديداً للانتماء.
وفي الحالة السورية، تتجلى هذه المراحل في ضرورة تحويل السرديات العائلية من "قصص المعاناة والضحية" إلى "قصص الصمود والمسؤولية والأمل"، فإعادة صياغة الذاكرة الأسرية بطريقة إيجابية تُعيد الثقة بالذات وتفتح الطريق نحو المواطنة الجديدة.
كما أظهرت دراسات Betancourt et al. (2010) حول الأطفال المتأثرين بالحروب أن برامج الدعم النفسي الجماعي والتربية على الأمل تُسهم في تحسين التكيّف النفسي والاجتماعي بصورة ملموسة.
ويدعم دليل منظمة الصحة العالمية (WHO, 2016) هذا التوجه من خلال التأكيد على دمج خدمات الصحة النفسية والدعم المجتمعي في برامج الإعمار والتنمية، وليس في برامج الإغاثة فقط. وهذا يعني أن التعافي النفسي ليس مهمة طبية ضيقة، بل سياسة وطنية شاملة.
الأسرة السورية كفضاء لتجديد القيم:
الأسرة بعد التحرير كما هي كيان علاجي، هي مشروع تربوي لإعادة بناء الإنسان السوري.
ومن منظور علم الاجتماع السياسي، تشكّل الأسرة "نظامًا مصغّرًا للسلطة والقيم" (Galtung, 1996). وعندما تُعاد صياغة هذه السلطة على أساس المشاركة والاحترام والعدالة، فإنها تصبح نموذجًا مصغّرًا للدولة الصحية التي يتطلع إليها السوريون.
وفي المقابل، إذا أعيد إنتاج التسلّط أو الخوف داخل الأسرة، فإنها ستنقل الأنماط السلطوية القديمة إلى الجيل الجديد.
وهنا تظهر أهمية "إعادة التربية النفسية على المواطنة" داخل الأسرة والمدرسة والإعلام، بما يكرّس مبدأ الانتماء الحرّ لا القسري، والانفتاح لا الانغلاق.
إذاً، التحدي الحقيقي في مرحلة ما بعد التحرير ليس فقط ترميم الأبنية، بل إعادة تشكيل الإنسان السوري بوصفه مواطناً متوازناً وفاعلاً في مجتمعه.
من الأسرة إلى الوطن.. الهوية الجامعة:
تتّسع الهوية النفسية من الأسرة إلى الجماعة، ثم إلى الوطن.
وإذا كانت الأسرة هي المرآة الأولى التي يرى فيها الطفل معنى الانتماء، فإن الوطن هو الامتداد الأكبر لذلك المعنى.
تؤكد أدبيات الذاكرة الجمعية (Bar-Tal, 2003) أن المجتمعات الخارجة من النزاعات تحتاج إلى "سرد وطني جديد" يعيد دمج المعاني المفقودة. ويقترح فولكان (1997) مفهوم "الجراح النفسية الجمعية" التي لا تلتئم إلا عبر طقوس رمزية وتربوية ومجتمعية تُعيد إنتاج الأمل المشترك.
من هنا، فإن دور الأسرة السورية بعد التحرير يتجاوز الرعاية اليومية إلى إنتاج خطاب وطني جديد داخل المنزل!
فحديث الأم عن الأمل، ونموذج الأب في احترام القانون، وحوار الأجيال حول معنى الوطن، تلك التفاصيل الصغيرة هي بذور الهوية السورية الجامعة.
ويؤكد جالتونغ (Galtung, 1996) أن السلام الإيجابي لا يتحقق بإسكات البنادق وفقط، بل بإرساء ثقافة داخلية من العدل النفسي والمجتمعي.
لذلك فإن تعافي الأسرة هو جزء من مشروع السلام الأهلي، وليس مكمّلًا ثانويًا له.
الخاتمة:
من خلال كل ماسبق، فإننا في مكتب الرئاسة لـ تيار المستقبل السوري يوصي بثمانية مقترحات خاصة لصنّاع القرار، وهي:
- إطلاق برنامج وطني لإعادة بناء الهوية الأسرية:
يُدار بشراكة بين خبراء علم النفس والاجتماع والإعلام، ويركّز على تمكين الأسر من تجاوز الصدمات وبناء قيم الثقة والانتماء. - دمج التربية النفسية والاجتماعية في المناهج المدرسية:
بحيث يتعلّم الطفل مهارات التعامل مع الخسارة، والتعبير عن المشاعر، والتسامح، والاحترام المتبادل. - تأسيس مراكز دعم نفسي مجتمعي للأسر:
على غرار النموذج الذي توصي به منظمة الصحة العالمية (WHO, 2016)، تُقدّم هذه المراكز خدمات الإرشاد الأسري، وبرامج تدريب للآباء والمعلمين. - إعادة توجيه الإعلام الأسري:
من الخطاب التهييجي إلى خطاب التعافي والتمكين.
فالإعلام هو أداة بناء وعي جمعي إذا وُظّف بذكاء ومسؤولية. - تفعيل البحث العلمي التطبيقي:
من خلال إنشاء وحدة دراسات لرصد المؤشرات النفسية والاجتماعية، وإجراء بحوث ميدانية تُرشد السياسات. - حملات وعي وطنية حول الهوية السورية الجامعة:
تُبرز القيم المشتركة وتُعيد الثقة بين المواطنين، على أساس التنوع الإيجابي والعدالة الاجتماعية. - تمكين المرأة كمحور للتعافي:
إذ أظهرت الأبحاث أن النساء غالبًا أكثر قدرة على نقل القيم الجديدة إلى الأطفال (Roberts et al., 2011)، فدعم النساء نفسياً وتعليمياً يُضاعف فرص التعافي الأسري. - تعزيز التعاون بين المؤسسات الحكومية والمدنية:
وذلك لضمان أن تصبح سياسات الأسرة جزءً من عملية الإعمار الوطني، لا مبادرات منفصلة أو مؤقتة.
إن إعادة بناء الهوية النفسية للأسرة السورية تمثّل حجر الزاوية في مشروع إعادة بناء سورية ذاتها.
فالتحرر الحقيقي لا يكتمل إلا بتحرر الوجدان من الخوف والضياع، واستعادة الثقة بالذات وبالمستقبل.
ولقد أثبتت تجارب الشعوب الخارجة من النزاعات (رواندا، البوسنة، العراق) أن التعافي النفسي هو الشرط الأسبق لأي استقرار سياسي أو تنمية اقتصادية، فالأسرة هي الفضاء الأول الذي تُزرع فيه قيم السلام الداخلي، والمواطنة، والتضامن.
من هنا، فإن الاستثمار في "الصحة النفسية الأسرية" ليس ترفاً إنسانياً، بل سياسة أمن وطني شاملة. فبقدر ما تتعافى الأسرة، يتعافى الوطن.
المراجع:
- Bar-Tal, D. (2003). Collective memory of physical violence: Its contribution to the culture of violence. In E. Cairns & M. D. Roe (Eds.), The Role of Memory In Ethnic Conflict. Palgrave Macmillan.
- Betancourt, T. S., Brennan, R., Rubin-Smith, J., Fitzmaurice, G., & Gilman, S. (2010). Longitudinal research on war-affected youth: Lessons from Sierra Leone. Conflict and Health, 4(2).
- Erikson, E. H. (1968). Identity: Youth and crisis. W. W. Norton.
- Galtung, J. (1996). Peace by peaceful means: Peace and conflict, development and civilization. Sage Publications.
- Herman, J. L. (1992). Trauma and recovery: The aftermath of violence—from domestic abuse to political terror. Basic Books.
- Miller, K. E., & Rasmussen, A. (2010). War exposure, daily stressors, and mental health in conflict and post-conflict settings. Social Science & Medicine, 70(1), 7–16.
- Roberts, B., Browne, J., Ocaka, K. F., Oyok, T., & Sondorp, E. (2011). Factors influencing the psychological health of conflict-affected populations: A systematic review. Global Public Health, 6(8), 843–859.
- Tajfel, H., & Turner, J. C. (1979). An integrative theory of intergroup conflict. In W. G. Austin & S. Worchel (Eds.), The Social Psychology of Intergroup Relations (pp. 33–47). Brooks/Cole.
- Volkan, V. D. (1997). Bloodlines: From ethnic pride to ethnic terrorism. Farrar, Straus and Giroux.
- World Health Organization. (2016). mhGAP Humanitarian Intervention Guide: Clinical management of mental, neurological and substance use conditions in humanitarian emergencies. WHO Press.
- Syrian Future Movement – Office of Family Affairs. (2025). Preliminary vision for family and identity reconstruction. Internal paper (unpublished).