مقدمة:
في سياق التحولات الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة، تبرز زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى نيويورك بين 21 و25 سبتمبر بوصفها لحظة مفصلية في مسار الانتقال السياسي السوري.
هذه الزيارة، التي ستتوج بخطاب رسمي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر، تعكس ديناميات فلسفية وسياسية عميقة تتعلق بإعادة تعريف الدولة السورية، موقعها الإقليمي، وعلاقاتها الدولية في ظل مرحلة انتقالية معقدة.
الفلسفة السياسية للانتقال السوري:
الانتقال السياسي في سورية لا يمكن فهمه إلا من خلال عدسة الفلسفة السياسية التي تدرس العلاقة بين السلطة، والشرعية، والمجتمع. فالرئيس الشرع، الذي يمثل تياراً إصلاحياً داخل النظام كما يبدو، يسعى إلى إعادة بناء سردية الدولة السورية على أساس التعددية، والسيادة، والانفتاح المدروس على الخارج، هذه الفلسفة تتحدى النموذج السلطوي التقليدي، وتطرح بديلاً يقوم على التفاوض، والتوازن الإقليمي، وإعادة تعريف مفهوم "الأمن الوطني" بما يتجاوز المنظور العسكري.
الزيارة إلى نيويورك: دلالات التوقيت والمضمون:
زيارة الرئيس الشرع إلى نيويورك جاءت في توقيت حساس، حيث تتقاطع الضغوط الدولية مع الحراك الداخلي لإعادة هيكلة الدولة، وإلقاؤه خطاب سورية في 24 سبتمبر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لن يكون مجرد عرض لمواقف رسمية، بل سيكون محاولة لتقديم رؤية جديدة لسورية ما بعد الحرب، تتضمن كما نعتقد دعوة إلى دعم خريطة طريق سياسية، وإنهاء التدخلات الخارجية، وتثبيت مبدأ السيادة الوطنية.
لقاءات مع القادة العرب..إعادة بناء الجوار:
لقاءات الرئيس الشرع مع عدد من القادة العرب بقمة الدوحة تعكس توجهاً نحو إعادة بناء العلاقات العربية-السورية على أسس جديدة، وقد علمنا أن هذه اللقاءات لم تكن بروتوكولية فحسب، بل ناقشت ملفات حساسة مثل دعم الانتقال السياسي، والتعاون الأمني، وإعادة دمج سورية في المنظومة العربية. من زاوية الفلسفة السياسية، يمكن اعتبار هذه اللقاءات جزءاً من عملية "إعادة الاعتراف"، حيث تسعى سورية إلى استعادة مكانتها كفاعل إقليمي شرعي.
المشاركة في المؤتمرات البحثية: المعرفة كأداة للشرعية:
هذا وستكون مشاركة الرئيس الشرع في مؤتمرات بحثية، أبرزها جلسة ينظمها الباحث تشارلز ليستر بمشاركة أكثر من 150 باحثاً في نيويورك، تشير إلى تحول في أدوات الدبلوماسية السورية، فبدلاً من الاكتفاء بالخطاب السياسي، يتم توظيف المعرفة الأكاديمية كوسيلة لتوليد الشرعية، وتقديم سردية سورية جديدة أمام المجتمع البحثي الغربي، هذا التوجه يعكس فلسفة سياسية ترى في الحوار المعرفي وسيلة لتفكيك الصور النمطية، وبناء جسور تفاهم مع النخب الفكرية الدولية.
لقاءات مع باحثين غربيين في دمشق.. الداخل كمركز للحوار:
وفي خطوة موازية، يلتقي الرئيس الشرع عدداً من الباحثين الغربيين في دمشق يوم الأربعاء 17/09/2025 الذي سيسبق زيارته لنيويورك، حيث تعكس هذه اللقاءات رغبة في جعل العاصمة السورية مركزاً للحوار، لا مجرد طرف متلقي، وإن هذه اللقاءات تعزز فكرة "السيادة المعرفية"، كما نرى، حيث تسعى الدولة إلى إنتاج خطابها الخاص، ومواجهة السرديات الخارجية من موقع القوة الفكرية.
خريطة الطريق للسويداء.. دعم أميركي أردني وتحولات محلية:
من أبرز نتائج الحراك السياسي الأخير، طرح خريطة طريق لسورية بدعم أميركي أردني، تركز على محافظة السويداء كمختبر للانتقال السياسي المحلي، هذه الخريطة تتضمن خطوات تدريجية نحو الحكم المحلي، وإصلاح المؤسسات، وضمان الأمن.
فلسفياً، تمثل هذه الخريطة نموذجاً لـ"الانتقال المتدرج"، الذي يوازن بين الحاجة إلى التغيير، ومتطلبات الاستقرار، ويعكس تحولات في مفهوم الدولة من المركزية المطلقة إلى التعددية الإدارية.
الاتفاق الأمني المقترح في نيويورك.. ضغط أميركي وتفاوض إقليمي:
تضغط الولايات المتحدة على سورية وإسرائيل لتوقيع اتفاق أمني في نيويورك، يتضمن ترتيبات لخفض التصعيد في الجنوب السوري. هذا الضغط يعكس فلسفة سياسية أميركية ترى في الأمن الإقليمي مدخلاً لإعادة تشكيل النظام السياسي السوري.
في المقابل، تسعى سورية إلى تفعيل اتفاق "فك الاشتباك" الموقع عام 1974، كخطوة نحو انسحاب إسرائيلي من الجنوب، دون المساس بالسيادة على الجولان.
المعادلة الإسرائيلية.. انسحاب مقابل التخلي عن الجولان:
الاقتراح الإسرائيلي الذي ينص على انسحاب من الجنوب السوري مقابل تخلي دمشق عن المطالبة بالجولان، يضع القيادة السورية أمام معضلة فلسفية وسياسية. فالتخلي عن الجولان يعني التخلي عن جزء من الهوية الوطنية، بينما القبول بالانسحاب قد يفتح الباب أمام تهدئة طويلة الأمد.
نعتقد أن هذه المعادلة تعكس صراعاً بين الواقعية السياسية والمبادئ السيادية، وهو ما يجعل القرار السوري معقداً ومحملاً بتبعات تاريخية.
سحب السلاح الثقيل من الجنوب.. رسالة مزدوجة:
إن قيام سورية بسحب السلاح الثقيل من الجنوب يمثل خطوة تهدئة، لكنها أيضاً رسالة سياسية تعكس استعداداً للتفاوض، دون التخلي عن المبادئ. هذه الخطوة تعزز من موقع سورية في أي مفاوضات أمنية، وتقدم نموذجاً لـ"القوة المرنة"، التي تجمع بين القدرة العسكرية والانفتاح السياسي.
خاتمة.. نحو فلسفة انتقالية جديدة:
يبدو أن طريق الرئيس أحمد الشرع من دمشق إلى نيويورك ليس مجرد رحلة دبلوماسية، بل هو تجسيد لفلسفة سياسية جديدة تسعى إلى إعادة تعريف الدولة السورية، وموقعها الإقليمي، وعلاقاتها الدولية، هذه الفلسفة تقوم على التوازن بين السيادة والانفتاح، بين المبادئ والواقعية، وبين الداخل والخارج. وفي ظل التحولات الراهنة، تبدو سورية أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء ذاتها، ليس فقط كدولة، بل كمشروع سياسي وفلسفي جديد.