تسعى الحكومة السورية، في إطار خطة التحول الإداري الشامل، إلى إعادة هيكلة الوظيفة العامة عبر مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد، الذي يُعد أحد أبرز مكونات الإصلاح المؤسسي في البلاد، حيث يأتي هذا المشروع في سياق محاولة جادة لمعالجة الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها الإدارة العامة، والتي تراكمت بفعل عقود من البيروقراطية، المركزية المفرطة، وتضخم الجهاز الوظيفي دون إنتاجية مقابلة، كما ويُنظر إلى القانون الجديد بوصفه أداة استراتيجية لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة وموظفيها، وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، وتحسين جودة الخدمات العامة.
إن تحليل هذا القانون يتطلب مقاربة متعددة الأبعاد، تأخذ بعين الاعتبار السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يُطرح فيه، فضلاً عن تقييم مدى واقعيته في ظل التحديات البنيوية التي تواجه الدولة السورية في مرحلة ما بعد النزاع، وهذا ما تعمل عليه هذه الدراسة.
أولاً: الخلفية المفاهيمية للإصلاح الإداري:
تُعد الخدمة المدنية العمود الفقري لأي جهاز حكومي فعال، وهي تعكس مدى قدرة الدولة على إدارة مواردها البشرية بكفاءة وعدالة.
وفي السياق السوري، لطالما ارتبطت الوظيفة العامة بمفاهيم الاستحقاق السياسي والاجتماعي، أكثر من ارتباطها بالجدارة والكفاءة، وقد أدى ذلك إلى ترسيخ ثقافة وظيفية قائمة على الأقدمية، والتثبيت التلقائي، وغياب المحاسبة الفعلية، ما ساهم في خلق بيئة عمل غير محفزة، وذات إنتاجية منخفضة.
من هنا، فإن مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد يسعى إلى كسر هذا الإرث الإداري، عبر إدخال مفاهيم حديثة مثل التوصيف الوظيفي، الترقية النوعية، المسار المهني، والتقييم الدوري للأداء.
كما يهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة، من خلال مدونة سلوك إلزامية وآليات تظلم واضحة، تتيح للموظف الاعتراض على القرارات الإدارية المجحفة.
ثانياً: أبرز ملامح القانون الجديد:
يتضمن القانون مجموعة من المحاور التي تعكس توجهات إصلاحية واضحة، أبرزها:
- آليات الدخول إلى الوظيفة العامة: حيث يُشترط التنافس عبر اختبارات ومعايير موضوعية، بما يضمن تكافؤ الفرص ويحد من المحسوبيات.
- إدارة الموارد البشرية: إذ يتم اعتماد الترقية بناءً على الأداء والكفاءة، وليس الأقدمية فقط، مع توصيف دقيق للمهام والمسؤوليات.
- بيئة العمل: يشجع القانون على إدخال أنماط عمل مرنة، مثل العمل الجزئي وعن بعد، بما يتماشى مع التطورات العالمية في سوق العمل.
- المساءلة والانضباط: يُلزم القانون الموظفين بمدونة سلوك وظيفي، ويحدد ضوابط دقيقة للفصل والنقل التأديبي، مع ضمان حق التظلم.
- الحقوق الوظيفية: يشمل القانون نظام حوافز مرتبط بالأداء، ويوسّع من نطاق الإجازات، بما فيها إجازات الأمومة والأبوة، ويعزز من التغطية الصحية.
ثالثاً: البعد الاقتصادي والاجتماعي للإصلاح:
لا يمكن فصل إصلاح الخدمة المدنية عن الواقع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه سورية، فضعف القدرة الشرائية للرواتب، وغياب العدالة في توزيع الأجور، شكّلا أحد أبرز أسباب تدهور الأداء الوظيفي، وهجرة الكفاءات نحو القطاع الخاص أو الخارج.
من هنا، فإن ربط الرواتب بالإنتاجية والظروف المعيشية، كما ورد في مداولات ممثلي اتحاد نقابات العمال بتاريخ 24/09/2025م، يُعد خطوة ضرورية، لكنها تتطلب آليات دقيقة لتقييم الأداء، وتحديد مؤشرات موضوعية للإنتاجية.
كما أن تحويل العقود المؤقتة إلى دائمة، وتوسيع مظلة الحماية من التسريح التعسفي، يعزز من الاستقرار الوظيفي، ويحفّز الموظفين على الالتزام والابتكار.
إلا أن هذه الإجراءات، رغم أهميتها، تصطدم بواقع مالي هش، وبعجز في الموازنة العامة، ما يضع الحكومة أمام معادلة صعبة بين الطموح الإصلاحي والقدرة على التنفيذ.
رابعاً: التحديات البنيوية أمام التطبيق:
رغم الطابع الطموح للقانون، إلا أن تطبيقه يواجه مجموعة من التحديات البنيوية، أبرزها:
- المقاومة المؤسسية: إذ أن بعض الجهات الإدارية، التي استفادت من النظام القديم، قد تعرقل تنفيذ الإصلاحات، خوفاً من فقدان الامتيازات.
- ضعف البنية الرقمية: فغياب نظم معلوماتية متطورة لإدارة الموارد البشرية، يحد من قدرة الدولة على تطبيق مفاهيم التقييم الإلكتروني، والترقية الذكية.
- البيئة القانونية: يحتاج القانون إلى أنظمة تنفيذية واضحة، تصدر بالتزامن مع نفاذه، لتجنب الفراغ التشريعي، وضمان التطبيق السليم.
- الاستقلالية النقابية: إشراك التنظيم النقابي في تقييم أداء المسؤولين خطوة إيجابية، لكنها تتطلب استقلالاً فعلياً للنقابات، بعيداً عن التبعية السياسية.
خاتمة:
لضمان نجاح القانون وتحقيق أهدافه، يمكن طرح مجموعة من التوصيات التي نراها في تيار المستقبل السوري وهي:
- إصدار الأنظمة التنفيذية بالتوازي مع القانون، وتدريب الكوادر الإدارية على تطبيقها.
- تعزيز استقلالية النقابات، وتفعيل دورها الرقابي في تقييم الأداء الوظيفي.
- إطلاق منصة رقمية موحدة لإدارة الموارد البشرية، تتيح التقييم الآلي، وتقلل من التدخل البشري.
- إعداد ملحق مفاهيمي للقانون، يوضح المصطلحات الجديدة، ويمنع الالتباس في التطبيق.
- ربط الحوافز بالأداء الفعلي، وليس بالمؤشرات الشكلية، لضمان العدالة وتحفيز الابتكار.
إن مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد في سورية يُعد خطوة جريئة نحو إصلاح الجهاز الإداري، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة.
إلا أن نجاحه لا يتوقف على صياغته القانونية فقط، بل على الإرادة السياسية، والجاهزية المؤسسية، والقدرة على تجاوز التحديات البنيوية.
وفي ظل الظروف الراهنة، فإن هذا القانون يمكن أن يشكل نقطة تحول، إذا ما تم التعامل معه كجزء من رؤية شاملة للإصلاح، وليس مجرد إجراء تقني.
المراجع:
- موقع تلفزيون سورية – "إصلاح الرواتب وتقييم أداء الحكومة.. ممثلو العمال يناقشون قانون الخدمة العامة"
https://www.syria.tv/إصلاح-الرواتب-وتقييم-أداء-الحكومة-ممثلو-العمال-يناقشون-قانون-الخدمة-العامة - وزارة التنمية الإدارية السورية – وثائق مشروع قانون الخدمة المدنية (2023)
- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP – تقارير إصلاح الإدارة العامة في الدول الخارجة من النزاع