التحول الإداري في مدينة دمشق

مقدمة:

تُعد مدينة دمشق من أقدم العواصم المأهولة في التاريخ، وتحمل رمزية حضارية وثقافية وسياسية استثنائية في السياق العربي والإقليمي.
ومع ذلك، فإن النمو السكاني المتسارع، والتوسع العمراني غير المنضبط، وتزايد تعقيد الخدمات الحضرية، وكونها مقصد كبير للسوريين وغير السوريين بعد سقوط الأسد، قد فرض تحديات غير مسبوقة على نمط إدارتها التقليدي القائم على المركزية الشديدة.

وفي ظل التحولات العالمية في إدارة المدن الكبرى، بات من الضروري إعادة النظر في النموذج الإداري لدمشق، والانتقال نحو نموذج حديث قائم على الحوكمة الذكية، واللامركزية التنفيذية والمالية، والمشاركة المجتمعية الفاعلة.

أولاً: الإشكالية البنيوية في إدارة دمشق:
تعتمد دمشق منذ عقود على نموذج إداري مركزي، يتمثل في بلدية واحدة تتبع مباشرة لوزارة الإدارة المحلية، وتخضع في كثير من الأحيان لتداخل الصلاحيات مع محافظة ريف دمشق. هذا النموذج، الذي كان ملائماً في مراحل سابقة من تاريخ المدينة، أصبح عاجزاً عن مواكبة التحديات المعاصرة، مثل:

  • التوسع العمراني الأفقي والعمودي الذي تجاوز حدود التنظيم التقليدي.
  • الضغط المتزايد على البنية التحتية والخدمات العامة (المياه، الكهرباء، النقل، النفايات).
  • ضعف التنسيق بين الجهات الخدمية المختلفة، وغياب قاعدة بيانات موحدة.
  • محدودية الموارد المالية المحلية، واعتماد البلديات على التحويلات المركزية.
    وقد أظهرت تجارب المدن الكبرى أن الإدارة المركزية الأحادية تفقد فعاليتها في المدن التي يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة، وتحتاج إلى نماذج متعددة المستويات.

ثانياً: نماذج دولية ملهمة في إدارة العواصم الكبرى:
يمكن الاستفادة من تجارب دولية ناجحة في إدارة المدن الكبرى، مثل:

  • إسطنبول: تضم 39 بلدية فرعية، لكل منها مجلس منتخب وصلاحيات تنفيذية مستقلة، وتخضع لإشراف بلدية إسطنبول الكبرى التي تتولى التخطيط الاستراتيجي والتنسيق العام.
  • باريس: تنقسم إلى 20 مقاطعة، لكل منها عمدة ومجلس محلي، وتُدار عبر نموذج تشاركي يدمج المجتمع المدني في صنع القرار.
  • القاهرة: رغم التحديات، بدأت في تطبيق نموذج المناطق الحضرية الكبرى (Greater Cairo)، مع تقسيم إداري وظيفي يراعي التوزيع السكاني والخدمي.
    هذه النماذج تؤكد أهمية تفكيك المركزية، وتوزيع الصلاحيات، وتطوير أدوات الحوكمة المحلية، بما يضمن كفاءة الخدمات وعدالة التوزيع.

ثالثاً: مقترح هيكلي لإدارة دمشق الكبرى:
انطلاقاً من الواقع الحالي والتجارب الدولية، يمكن اقتراح نموذج إداري حديث لدمشق يقوم على المبادئ التالية:

  1. التقسيم الإداري إلى بلديات فرعية:
    تقسيم العاصمة إلى وحدات بلدية فرعية متوازنة من حيث عدد السكان والمساحة، مثل: دمشق القديمة، المزة، برزة، كفرسوسة، جوبر، التضامن، الميدان، القابون، وغيرها. ويُمنح كل قطاع صلاحيات تنفيذية في مجالات التنظيم العمراني، النظافة، الإنارة، الأسواق، وغيرها.
    حيث نرى أن هذا النموذج يتيح الاستجابة السريعة للاحتياجات المحلية، ويعزز المساءلة والشفافية.
  2. إنشاء مجلس بلدية دمشق الكبرى:
    تُشكّل هيئة عليا تُسمى "مجلس بلدية دمشق الكبرى"، تتولى التخطيط الاستراتيجي، والتنسيق بين البلديات الفرعية، وإدارة المشاريع الكبرى العابرة للقطاعات (النقل الجماعي، التخطيط العمراني، إدارة الكوارث).
    ويُفك الارتباط الإداري والمالي مع محافظة ريف دمشق، لضمان استقلالية القرار البلدي، كما هو معمول به في المدن ذات الطابع المستقل إدارياً.
  3. تطبيق اللامركزية المالية:
    يُسمح للبلديات الفرعية بتحصيل إيراداتها المحلية من رسوم الخدمات، والضرائب العقارية، والاستثمارات البلدية، وتُستخدم هذه الموارد مباشرة في تمويل المشاريع المحلية دون العودة إلى المركز.
    وقد أثبتت الدراسات أن اللامركزية المالية ترفع كفاءة الإنفاق، وتزيد من رضا المواطنين عن الخدمات (Smoke, 2003).
  4. إدخال مفهوم المدينة الذكية:
    تُعتمد تقنيات المدن الذكية في إدارة المرور، ومراقبة الخدمات، والدفع الإلكتروني، وربط البلديات بنظام بيانات مركزي يتيح التحليل اللحظي واتخاذ القرار المبني على البيانات، إذ وفقاً لتقرير McKinsey (2018)، فإن تطبيق تقنيات المدن الذكية يمكن أن يحسن جودة الحياة بنسبة تصل إلى 30% في المدن الكبرى.
  5. تعزيز المشاركة المجتمعية:
    يُنشأ في كل بلدية فرعية مجلس أحياء منتخب، يُشارك في صياغة أولويات الإنفاق، ومراقبة الأداء، وتقديم المقترحات. كما تُفعّل أدوات المشاركة الرقمية (استبيانات، تطبيقات تفاعلية).
    فالمشاركة المجتمعية تُعد ركيزة أساسية في الحوكمة الحضرية، وتُعزز الثقة بين المواطن والمؤسسة.
  6. بلدية خاصة للمدينة القديمة:
    تُخصص بلدية مستقلة لإدارة دمشق القديمة، نظراً لطابعها التاريخي والتراثي، وتُمنح صلاحيات خاصة في الترميم، وتنظيم السياحة، والحفاظ على الهوية المعمارية، بالتعاون مع جهات دولية مثل اليونسكو، فلقد نجحت مدن مثل فاس ومراكش في المغرب في تطبيق هذا النموذج، مما ساهم في الحفاظ على التراث وتطوير السياحة الثقافية (UNESCO, 2012).
  7. تطوير منظومة النقل الجماعي الذكي:
    يُخطط لربط دمشق الكبرى بشبكة نقل جماعي متكاملة تشمل المترو، والحافلات الكهربائية، ومواقف مركزية، وتطبيقات ذكية لإدارة الحركة، فالنقل الجماعي الذكي يُعد من أهم أدوات العدالة الحضرية، ويُقلل من التلوث والازدحام بنسبة كبيرة.

رابعاً: التحديات المحتملة وآليات المعالجة:
رغم أهمية هذا النموذج، إلا أن تطبيقه يواجه تحديات، منها:

  • مقاومة البيروقراطية التقليدية للتغيير.
  • ضعف الكوادر المحلية المؤهلة.
  • الحاجة إلى تعديل تشريعي في قانون الإدارة المحلية.
  • محدودية التمويل الأولي لتأسيس البنية التحتية الذكية.
    ولمعالجة هذه التحديات، نقترح:
  • إطلاق برامج تدريبية للكوادر البلدية.
  • إشراك الجامعات ومراكز الدراسات في صياغة السياسات.
  • التعاون مع الجهات الدولية المانحة لدعم التحول الرقمي.
  • تعديل قانون الإدارة المحلية بما يتيح اللامركزية التنفيذية والمالية.

خاتمة:

إن التحول من الإدارة المركزية التقليدية إلى نموذج الحوكمة الذكية متعددة المستويات يُعد ضرورة استراتيجية لمدينة دمشق، وليس مجرد خيار إداري. فالعاصمة التي تحمل عبء التاريخ، وتواجه تحديات الحاضر، وتطمح إلى مستقبل حضري مستدام، تحتاج إلى نموذج إداري مرن، وشفاف، ومبني على المشاركة المجتمعية والتقنيات الحديثة.
إن إعادة هيكلة إدارة دمشق وفق هذا النموذج، سيُعيد لها دورها كعاصمة حقيقية للدولة والمواطن، ويُعزز من قدرتها على الاستجابة للتحديات التنموية، ويُرسّخ مكانتها في مصاف العواصم العالمية الحديثة.

المراجع:

  1. Arnstein, S. R. (1969). A ladder of citizen participation. Journal of the American Institute of Planners, 35(4), 216–224. https://doi.org/10.1080/01944366908977225
  2. Bacqué, M.-H., & Gauthier, M. (2011). Participatory democracy in Paris: Between symbol and practice. Participations, 1(1), 36–55. https://shs.cairn.info/revue-participations-2011-1-page-36?lang=fr
  3. Kalaycıoğlu, S. (2017). Local government in Turkey: Structure and reform. In M. Kersting (Ed.), Local governance reform in global perspective (pp. 45–62). Springer. https://doi.org/10.1007/978-3-030-02047-7_3
  4. McKinsey Global Institute. (2018). Smart cities: Digital solutions for a more livable future. McKinsey & Company. https://www.mckinsey.com/~/media/mckinsey/industries/public%20and%20social%20sector/our%20insights/smart%20cities%20digital%20solutions%20for%20a%20more%20livable%20future/mgi-smart-cities-full-report.pdf
  5. OECD. (2015). The metropolitan century: Understanding urbanisation and its consequences. OECD Publishing. https://doi.org/10.1787/9789264228733-en
  6. OECD. (2019). Making decentralisation work: A handbook for policy-makers. OECD Publishing. https://doi.org/10.1787/g2g9faa7-en
  7. Smoke, P. (2003). Decentralisation in Africa: Goals, dimensions, myths and challenges. Public Administration and Development, 23(1), 7–16. https://doi.org/10.1002/pad.255
  8. United Nations Development Programme (UNDP). (2016). Decentralization and local governance in the Arab States. UNDP. https://www.undp.org/saudi-arabia/publications/recent-and-current-interventions-pa-lg-arab-states
  9. United Nations Human Settlements Programme (UN-Habitat). (2020). State of Arab cities report 2020: Financing sustainable urban development in the Arab region. UN-Habitat. https://unhabitat.org/state-of-arab-cities-report-2020-financing-sustainable-urban-development-in-the-arab-region
  10. United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO). (2016). Culture: Urban future – Global report on culture for sustainable urban development. UNESCO. https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000246291
  11. International Association of Public Transport (UITP). (2020). Public transport: The smart solution for cities. UITP. https://www.uitp.org/publications/public-transport-the-smart-solution-for-cities/
  12. World Bank Group. (2021). Greater Cairo urban development project. World Bank. https://documents.worldbank.org/en/publication/documents-reports/documentdetail/730531468235161396/egypt-greater-cairo-urban-development-project

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع