تُعد الحالة السورية نموذجًا مركبًا للانتقال من الثورة إلى الدولة، حيث لم يُفضِ انهيار النظام السلطوي إلى بناء مؤسسات حديثة، بل كشف عن فراغ بنيوي في التصور السياسي، وتفكك في العقد الاجتماعي، وصعود لأنماط من الطائفية والشعبوية أعاقت إمكانات التأسيس الوطني.
هذا المقال يحاول تحليل هذه الظواهر من منظور علم الاجتماع السياسي، مستندًا إلى أدبيات نظرية وميدانية، لفهم كيف ولماذا تعثرت الدولة، وكيف ساهمت الطائفية والشعبوية في إعادة إنتاج الانقسام بدلًا من تجاوزه.
يشير مفهوم "الدولة المتعثرة" إلى حالة من الانفصال بين السلطة والمجتمع، حيث تفشل الدولة في احتكار أدوات العنف الشرعي، وفي إنتاج رموز الشرعية الثقافية، في الحالة السورية، لم يكن سقوط النظام البائد أو تراجع سلطته كافيًا لولادة دولة جديدة، بل كشف عن هشاشة البنية المؤسساتية، وعجز القوى المعارضة عن تقديم بديل مؤسسي قادر على إدارة التنوع وضبط الصراع.
وقد أظهرت دراسة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2021) أن أكثر من 68% من السوريين في مناطق المعارضة لا يثقون بالمؤسسات المحلية، ما يعكس أزمة شرعية عميقة.
من منظور علم الاجتماع، فإن الدولة ليست مجرد جهاز إداري، بل هي تعبير عن توافق اجتماعي حول السلطة والشرعية.
وقد أشار تشارلز تيلي إلى أن الدولة الحديثة تنشأ من خلال عملية طويلة من بناء المؤسسات وضبط الصراع وتأسيس شرعية تستند إلى الأداء لا الانتماء، في سورية، لم تتم هذه العملية، بل تم استبدالها بمنطق المحاصصة، وتوزيع المناصب على أساس الولاء، مما أدى إلى ضعف المؤسسات وتآكل الثقة وتفكك المجال الرمزي الوطني.
فالطائفية، في هذا السياق، لم تكن مجرد خطاب تعبوي، بل تحولت إلى بنية توزيع سلطة وثروة، تُعيد إنتاج نفسها عبر مؤسسات التعليم، والإعلام، والأمن، وحتى الإغاثة.
وقد أشار برنارد لويس إلى أن الطائفية في الشرق الأوسط ليست ظاهرة طارئة، بل هي نتاج تاريخ طويل من التسييس الديني، حيث يتم استخدام الانتماء الطائفي كأداة للفرز السياسي والاجتماعي. في سورية، تم تكريس هذا المنطق منذ عهد حافظ الأسد، الذي بنى نظامًا يقوم على تمكين شخصيات من الطائفة العلوية في مواقع حساسة، مع استقطاب الأقليات الأخرى لتشكيل تحالف مضاد للأكثرية السنية.
هذا الترتيب كان نظامًا للهيمنة، يُعيد إنتاج نفسه عبر الولاء لا الكفاءة، والانتماء لا المواطنة.
وقد أظهرت دراسة ميدانية أجراها معهد كارنيغي للسلام الدولي أن الطائفية في سورية تُستخدم كأداة للتمييز في فرص العمل، والوصول إلى الخدمات، وحتى في توزيع المساعدات الإنسانية.
هذا التمييز يُعيد إنتاج الانقسام الاجتماعي، ويُضعف إمكانات بناء دولة جامعة.
كما أن الطائفية تُغذي منطق الثأر والانتقام، وتُعيق المصالحة الوطنية، حيث يُنظر إلى الآخر بوصفه تهديدًا وجوديًا، لا شريكًا في الوطن.
أما الشعبوية، فقد ظهرت كخطاب تعبوي يملأ الفراغ السياسي، لكنه يفتقر للرؤية المؤسسية.
وقد أشار إرنستو لاكلو إلى أن الشعبوية تقوم على بناء "العدو" بوصفه نقيضًا للشعب، وتُنتج سردية بسيطة تُحمّل الآخر مسؤولية الأزمة، دون تقديم حلول بنيوية.
ففي سورية، تصاعدت الشعبوية في خطاب بعض القوى السياسية والإعلامية، حيث تم تصوير الثورة بوصفها صراعًا بين "الشعب" و"النظام" فقط، رغم صحة هذه الدعوى، دون الاعتراف بتعقيدات المجتمع، وتعدد روافده، وتنوع مطالبه.
وهذا الخطاب، رغم جاذبيته اللحظية، ساهم في إقصاء فئات واسعة، وفي تكريس الانقسام، بدلًا من تجاوزه.
وقد أظهرت دراسة أجراها المركز السوري للدراسات الاجتماعية (2023) أن الشعبوية في السياق السوري لم تكن فقط ظاهرة سياسية، بل امتدت إلى المجال الثقافي والديني، حيث تم تبني خطاب تعبوي في المساجد، والمدارس، ووسائل الإعلام، يُعزز الانفعالات، ويُقصي العقل، ويُضعف المؤسسات. د
وهذا الخطاب يُغري الجماهير، لكنه يُعيق بناء الدولة، لأنه يُنتج ولاءات مؤقتة، لا مؤسسات دائمة.
من منظور علم الاجتماع السياسي، فإن بناء الدولة يتطلب عقلية مؤسساتية، لا شعارات أيديولوجية. وقد أشار فرانسيس فوكوياما إلى أن بناء الدولة لا يتم فقط عبر الانتخابات، بل عبر بناء مؤسسات قوية، قادرة على تقديم الخدمات، وضبط الصراع، وتأسيس شرعية مستدامة (Fukuyama, 2004).
وفي الحالة السورية، لم تتوفر هذه الشروط، بل تم تهميش المجتمع المدني، وتفكيك النقابات، وإضعاف الجامعات، مما أدى إلى غياب الفضاء العام الذي يُمكن أن يُنتج مشروعًا وطنيًا جامعًا.
كما أن غياب العدالة الانتقالية ساهم في تعميق الأزمة، حيث لم يتم الاعتراف بالانتهاكات، ولا محاسبة المسؤولين، ولا جبر الضرر.
وقد أشار ديفيد بلومفيلد إلى أن العدالة الانتقالية هي عملية مجتمعية تهدف إلى إعادة بناء الثقة، وتأسيس ذاكرة وطنية جامعة، وتحصين المؤسسات ضد التكرار.
ففي سورية، لم تتم هذه العملية، بل تم تجاهلها، مما أدى إلى استمرار منطق الإفلات من العقاب، وتكريس ثقافة الخوف.
إن الخروج من هذا المأزق لا يكون بإعادة تدوير النخب، أو تجميل المؤسسات، بل بإعادة تعريف الدولة نفسها أنها دولة لكل مواطنيها، لا دولة طائفة أو فئة أو حزب.
دولة تُبنى على العدالة، والمواطنة، والمشاركة، لا على المحاصصة، والولاء، والإقصاء.
وهذا يتطلب مراجعة جذرية للخطاب السياسي، وإعادة بناء المؤسسات، وتأسيس عقد اجتماعي جديد، يُعترف فيه بالتنوع، ويُدار فيه الصراع، وتُضمن فيه الحقوق.
في الختام، فإن الحالة السورية تُظهر أن سقوط النظام لا يعني بالضرورة ولادة الدولة رغم صدق النوايا، وأن غياب المشروع الوطني يُفضي إلى صعود الطائفية والشعبوية، وأن بناء الدولة يتطلب أكثر من مجرد تغيير في الأشخاص، بل تغييرًا في البنية، والمنطق، والرؤية.
ومن هنا، فإن علم الاجتماع السياسي يُقدم أدوات لفهم هذه التحولات، لكنه أيضًا يُلزمنا بمسؤولية التفكير في البدائل، والسعي نحو تأسيس دولة تُعبّر عن الجميع، وتُدار بالعقل، وتُبنى بالأمل.
المراجع:
- Bourdieu, Pierre. (1994). Structures, Habitus, Practices. In: The Logic of Practice. Stanford University Press.
- Tilly, Charles. (1985). War Making and State Making as Organized Crime. In: Evans, Rueschemeyer & Skocpol (Eds.), Bringing the State Back In. Cambridge University Press.
- Lewis, Bernard. (1997). The Multiple Identities of the Middle East. Schocken Books.
- Laclau, Ernesto. (2005). On Populist Reason. Verso.
- Fukuyama, Francis. (2004). State-Building: Governance and World Order in the 21st Century. Cornell University Press.
- Bloomfield, David et al. (2006). Reconciliation After Violent Conflict: A Handbook. International IDEA.
- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. (2021). المسح الميداني حول الثقة بالمؤسسات في سورية. الدوحة.
- Carnegie Middle East Center. (2022). Sectarianism and Governance in Syria. Beirut.
- المركز السوري للدراسات الاجتماعية. (2023). الشعبوية في الخطاب الديني والسياسي السوري. إدلب.