بعد التصريحات التي أدلى بها المبعوث الأمريكي، توماس جوزيف باراك، والتي أشار فيها إلى ضرورة التفكير في صيغة بديلة عن الدولة المركزية الشديدة، معتبراً أن النموذج الفيدرالي ليس هو الحل، بل صيغة أكثر عقلانية تحفظ كرامة المكونات السورية وهويتها الثقافية بعيداً عن تهديدات الإسلاموية.
فإن هذه الرؤية، على الرغم من كونها صادرة عن طرف خارجي، فإنها تتقاطع في كثير من النقاط مع الطرح الذي تبناه تيار المستقبل السوري منذ سنوات، والمتمثل في تغليب ما أسميناه: اللامركزية الخدمية.
إن التحولات التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأخيرة، مضافاً إليها الأشهر الأخيرة عقب إسقاط نظام الأسد أظهرت بوضوح أن النظام المركزي الصارم لم يعد قادراً على تلبية احتياجات مجتمع متعدد الأعراق والمذاهب، خاصة في ظل التراكمات التاريخية وانعدام الثقة بين المركز والأطراف، ناهيكم عن أن استمرار المركزية يعني استمرار حالة الاحتقان، وربما انفجارها في أي لحظة، وهو ما يجعل البحث عن بدائل أمراً مصيرياً وليس ترفاً سياسياً، وكم كنا نتمنى لو أنه كان من اجتراح العهد الجديد نفسِهِ لما يحمله ذلك من وعي للمرحلة، ومرونة لتدوير الزوايا، وقطع الطريق على المتصيدين في الداخل والخارج، بدل أن يأتي وكأنه توجيهٌ أمريكي لضرورة التفكير خارج الصندوق بحثاً عن الاستقرار السياسي المنشود.
ومع ما تطرحه بعض القوى الخارجية والداخلية من حلول للفدرلة في سورية، فإن تيار المستقبل السوري يرى أن هذا النموذج يحمل مخاطر التقسيم أولاً وتعميق الانقسام الوطني ثانياً.
وفي المقابل، طرحنا ودفعنا نحو "اللامركزية الخدمية التعاونية" بديلاً واقعياً، يحقق التوازن بين الحفاظ على وحدة الدولة، وضمان حقوق المكونات المحلية، بحيث يقوم على:
- إبقاء القرار السيادي والدفاعي والسياسي في يد الدولة المركزية.
- منح الإدارات المحلية صلاحيات خدمية واسعة في التعليم، الصحة، البلديات، وإدارة الموارد.
- ضمان مشاركة مكونات المجتمع في اتخاذ القرارات التنموية والخدمية، دون تحويلها إلى كيانات سياسية مستقلة.
منطلقين في ذلك من قراءتنا المعمقة للمشهد الحالي، والذي يكشف عن تحديات كبيرة في مناطق مثل السويداء، ومناطق الشمال الشرقي الخاضعة لإدارة قوات سوريا الديمقراطية، فضلاً عن الساحل السوري الذي يضم الغالبية العلوية.
فتلك المناطق لا تخفي توجسها العودةَ إلى وصاية مركزية صارمة، كما أنها تتعلل بتهديد خصوصياتها الثقافية والاجتماعية.
ومن هنا يأتي دور "اللامركزية الخدمية التعاونية" كصيغة طمأنة لتلك المكونات، من خلال:
- منحها القدرة على إدارة شؤونها المحلية.
- احترام هويتها الثقافية والدينية.
- دمجها في الإطار الوطني عبر شراكة عادلة لا هيمنة فيها.
إن اعتماد هذا النموذج يحقق برأينا عدة أهداف استراتيجية:
- تعزيز الاستقرار الوطني عبر تخفيف أسباب التوتر والاحتقان.
- إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع من خلال تقاسم المسؤوليات.
- تسهيل عملية إعادة الإعمار من خلال تفعيل السلطات المحلية في تقديم الخدمات.
- إضعاف المشاريع الانفصالية التي تغذيها مخاوف الإقصاء والهيمنة المركزية.
إننا في تيار المستقبل السوري أكدنا مراراً على ضرورة الانتقال من النظام المركزي الجامد إلى صيغة لامركزية خدمية تستند إلى مبادئ التعاون والتكامل الوطني، لا التقسيم أو الانعزال، وهذه الرؤية ليست مجرد طرح سياسي، بل هي خطة عمل مستقبلية، تهدف إلى:
- بناء دولة قوية بوحدة سيادتها.
- احتضان جميع المكونات ضمن مظلة واحدة تحترم التنوع.
- تحويل الخلافات إلى طاقات بنّاءة من خلال المشاركة لا المغالبة.
إن تصريحات توماس باراك ليست سوى مؤشر على أن المجتمع الدولي بدأ يدرك ما كنا نطرحه منذ سنوات وكررناه في الأشهر الأخيرة، أن سورية الجديدة لن تستقر إلا بنموذج حكم أكثر مرونة، أكثر شمولاً، وأقرب لروح العدالة التعاونية.
إن تبني اللامركزية الخدمية اليوم ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة وجودية لضمان وحدة الدولة واستقرارها في ظل التحديات الراهنة.