المفاضلة الجامعية المركزية في سورية

الملخص التنفيذي:

أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي السورية عن إطلاق أول مفاضلة جامعية مركزية موحدة تشمل الجامعات الحكومية والخاصة، ابتداءً من العام الدراسي الجديد.

تأتي هذه الخطوة في سياق محاولات إصلاحية تهدف إلى تعزيز الشفافية، وتوحيد المعايير، وتخفيف الأعباء الإدارية على الطلاب.

السياق البنيوي للمفاضلة الجامعية في سورية:

تُعد المفاضلة الجامعية في سورية تقليديًا عملية متعددة المسارات، تتوزع بين الجامعات الحكومية والخاصة، وغالبًا ما تتسم بالضبابية، التفاوت في المعايير، وتدخلات غير رسمية تؤثر على العدالة في توزيع الفرص التعليمية.
وفي ظل سنوات الثورة، تفاقمت هذه الإشكاليات، حيث تراجعت الثقة في المؤسسات التعليمية، وتعمقت الفجوة بين المركز والأطراف، وبين التعليم الرسمي وغير الرسمي.
وفي هذا السياق، تأتي المبادرة الجديدة لتحويل المفاضلة إلى نظام مركزي موحد تحولًا بنيويًا في آلية القبول الجامعي، يُفترض أن يُعيد ضبط العلاقة بين الطالب والمؤسسة التعليمية على أساس من الشفافية والعدالة.

تحليل المبادرة من منظور الحوكمة التعليمية:

  1. العدالة الإجرائية:
    إن توحيد المفاضلة عبر منصة إلكترونية مركزية يُعد خطوة نحو تحقيق العدالة الإجرائية، حيث يُمنح جميع الطلاب فرصة متساوية للتقديم وفق معايير معلنة ومحددة سلفًا.
    وهذا التحول يقلل من احتمالات التلاعب، ويحد من تدخلات الوساطة والمحسوبية، التي لطالما شابت عمليات القبول في بعض الجامعات الخاصة.
  2. الشفافية المؤسسية:
    حيث تُتيح المنصة الإلكترونية إمكانية تتبع الطلبات، ومعرفة ترتيب الرغبات، والاطلاع على نتائج القبول بشكل علني، مما يُعزز من شفافية العملية ويُعيد جزءًا من الثقة المفقودة في مؤسسات التعليم العالي.
  3. التكامل بين القطاعين العام والخاص:
    من خلال دمج الجامعات الخاصة ضمن المفاضلة المركزية، تُعيد الوزارة ضبط العلاقة بين القطاعين، وتُحد من الفوضى التنظيمية التي كانت تسمح لبعض المؤسسات الخاصة بالتحايل على المعايير الأكاديمية.

التحديات البنيوية والوظيفية:
رغم الإيجابيات الظاهرة، تواجه المبادرة تحديات جوهرية قد تُعيق تحقيق أهدافها:

  • الفجوة الرقمية: ففي ظل التفاوت الكبير في البنية التحتية الرقمية بين المدن والمناطق الريفية أو المنكوبة، يُخشى أن يُحرم عدد كبير من الطلاب من الوصول الفعّال إلى المنصة، مما يُعيد إنتاج التهميش بطريقة تقنية.
  • غياب الرقابة المستقلة: حتى الآن، لم تُعلن الوزارة عن وجود جهة رقابية مستقلة تُشرف على سير المفاضلة، مما يُثير مخاوف من إمكانية التلاعب أو التحيز داخل النظام نفسه، خاصة في ظل غياب مؤسسات رقابية قوية.
  • ضعف المشاركة المجتمعية: حيث لم يُسجل حتى الآن إشراك فعلي للطلاب أو المجتمع المدني في تصميم المنصة أو وضع معايير المفاضلة، مما يُضعف من شرعية المبادرة ويُحولها إلى إجراء فوقي غير تشاركي.

مقاربة مقارنة – دروس من تجارب دولية:

1- تركيا – نموذج ÖSYM
تركيا تعتمد نظامًا مركزيًا صارمًا للقبول الجامعي عبر مؤسسة ÖSYM، التي تُنظم امتحان YKS وتُشرف على توزيع الطلاب. ويُعد هذا النموذج ناجحًا نسبيًا في تحقيق العدالة، لكنه يُنتقد أحيانًا لجموده وعدم مراعاته لميول الطلاب.
2- فرنسا – منصة Parcoursup
فَفرنسا تقدم نموذجًا أكثر مرونة عبر منصة Parcoursup، التي تسمح للطالب بتقديم رغبات متعددة، وتُراعي الأداء الأكاديمي والميول الشخصية، كما توفر المنصة دعمًا نفسيًا وإرشاديًا، مما يُعزز من تجربة الطالب.
3- مصر – مكتب التنسيق
في مصر يُعتمد على درجات الثانوية العامة فقط في توزيع الطلاب، مما يُنتج نظامًا مركزيًا لكنه غير تفاعلي، ويُنتقد لعدم مراعاته للمهارات الفردية أو التخصصات الحديثة.

ومن خلال تلك التجارب يمكن استخلاص دروس مستفادة لسورية تتمثل بـ:

  • الرقمنة يجب أن تُرافقها رقابة مستقلة ومشاركة مجتمعية.
  • العدالة لا تتحقق فقط عبر المعدل، بل عبر تقييم شامل للطالب.
  • الدعم التقني والنفسي يُعد جزءًا أساسيًا من نجاح أي منصة مركزية.

البعد السياسي والاجتماعي للمبادرة:

لا يمكن فصل هذه الخطوة عن السياق السياسي والاجتماعي الأوسع في سورية.

فالمفاضلة الموحدة ليست مجرد إجراء تقني، بل هي محاولة لإعادة بناء الثقة في المؤسسات الرسمية، وتوحيد المعايير في بلد يعاني من انقسامات حادة في البنية التعليمية والإدارية.

ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار المبادرة جزءًا من مشروع أوسع لإصلاح القطاع العام، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص بين أبناء المدن والريف، وبين الفئات المتضررة من النزاع وتلك التي حافظت على امتيازاتها.

توصيات:

  1. إنشاء هيئة رقابية مستقلة :
    ينبغي تأسيس لجنة وطنية مستقلة تُشرف على سير المفاضلة، وتُصدر تقارير دورية تُنشر للعموم، لضمان النزاهة والشفافية.
  2. إشراك المجتمع المدني والطلاب :
    يجب إشراك ممثلين عن الطلاب، والأكاديميين، ومنظمات المجتمع المدني في تصميم المنصة، وتحديد معايير القبول، لضمان التشاركية والشرعية.
  3. دعم المناطق المحرومة :
    ينبغي توفير مراكز دعم تقني في المناطق الريفية والمهمشة، لضمان وصول جميع الطلاب إلى المنصة، وتقديم مساعدات إرشادية لهم.
  4. تطوير معايير تقييم متعددة
    ينبغي ألا يُعتمد فقط على المعدل الثانوي، بل تُؤخذ بعين الاعتبار المهارات الشخصية، الأنشطة التطوعية، والميول الأكاديمية، لضمان توزيع أكثر عدالة.

خاتمة:

تمثل المفاضلة الجامعية المركزية الموحدة في سورية خطوة واعدة نحو إعادة هندسة العدالة التعليمية، لكنها لا تزال في طور التأسيس، وتحتاج إلى ضمانات مؤسسية، رقابية، ومجتمعية كي لا تتحول إلى واجهة رقمية تُعيد إنتاج الإقصاء بوسائل جديدة.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع