1 مقدمة
أثارت الأحداث الأخيرة في سورية، وخصوصا المؤتمر الصحفي الأخير مع اللجنة العليا للسلم الأهلي، موجات من ردود الفعل الشعبي تتسأل حول جدية مسار العدالة الانتقالية، ومنهجه، وكيفية تنفيذه؛ خاصة مع غياب الشفافية كما تجلى في المؤتمر حيث لم تصل أي إجابات واضحة للشارع السوري وخاصة حول أحد أشهر المشاركين بالمجازر الجماعية في سورية وهو فادي صقر، الذي لم يحظَ فقط بالعفو عنه لأسباب ما زالت مجهولة، بل أيضا حافظ على ثرواته ومكانته وحمايته الشخصية.
صعوبة الحال السورية حقيقة لا يمكن إنكارها، لكن هناك حقائق لا يمكن تجاهلها أيضا وأهمها أن الانتقال السياسي في سوريا ليس اختيارًا، بل ضرورة، لكنه يحتاج إلى شجاعة وتصميم؛ وهذا الانتقال يشترط تحقيق العدالة الانتقالية، التي بدورها ستكون الأساس الذي لا غنى عنه لإطلاق مسار المصالحة الشعبية. فسورية تحتاج إلى نموذج انتقالي يوازن بين العدالة والمصالحة والمصلحة الوطنية العليا، ويأخذ الدروس من التجارب التاريخية، وليس تقليدها. لا يمكن بناء دولة مستقرة دون معالجة جراح الماضي، ولا يمكن تحقيق العدالة دون مراعاة الواقع السياسي والاجتماعي.
الدرس الأكبر من التاريخ الحديث هو أن الصفقات السياسية يمكن أن توقف الحرب، لكنها لا تبني السلام الحقيقي. والسلام الحقيقي لن يُبنى إلا عبر الشفافية، العدالة، والمشاركة الحقيقية من الشعب السوري نفسه.
تواجه سوريا اليوم تحديات هائلة في بناء مستقبل ما بعد الحرب، خاصة بعد أكثر من عقد من الصراع الذي أودى بمئات الآلاف من الضحايا، وشرد الملايين، ودمّر البنية التحتية للدولة. إلا أن السؤال الملح يبقى:
كيف يمكن تحقيق استقرار حقيقي في دولة ممزقة، دون العدالة الانتقالية وهي الشرط الأساسي للمصالحة؟
في هذا السياق، تبرز قضايا كبيرة خلفها نظام بشار الأسد البائد، مثل مسؤولية المتورطين في القتل الجماعي، ورجال الأعمال المتهمين بالفساد والاستفادة من غلو النظام الأسدي وعنفه الدموي ضد السوريين؛ لكن غياب آليات المحاسبة الدولية كعناصر رئيسية لفهم التعقيدات التي تواجه أي عملية انتقال سياسي، فإن النظر إلى حالات تاريخية مشابهة قد يساعد في فهم الخيارات الممكنة، والدروس المستفادة، والتحديات المرتبطة بها.
2 ما هي العدالة الانتقالية؟
العدالة الانتقالية transitional justice ليست نظامًا قضائيًا تقليديًا ولا عقوبة جزائية فقط، بل هي مجموعة من الإجراءات والسياسات التي تهدف إلى مواجهة آثار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الماضي، ومعالجة ضحاياها، وتعزيز المصالحة الوطنية، ومنع تكرار هذه الانتهاكات. وتختلف العدالة الانتقالية عن العدالة الجنائية التقليدية بأنها لا تركز فقط على معاقبة الفاعلين، بل أيضًا على استعادة حقوق الضحايا وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة.
2.1 أهداف العدالة الانتقالية
تنصبّ أهداف العدالة الانتقالية في عدة مجالات رئيسية، منها:
- كشف الحقيقة: توفير معلومات دقيقة وشاملة حول ما حدث خلال النزاع.
- إحقاق العدالة للضحايا: من خلال المحاكمات أو تعويضات الدولة.
- المصالحة الوطنية: إعادة بناء العلاقات بين أطراف النزاع.
- منع تكرار الانتهاكات: وضع آليات رقابية وتشريعية لضمان عدم تكرار الماضي.
2.2 أدوات تنفيذ العدالة الانتقالية
تتنوع أدوات العدالة الانتقالية حسب طبيعة النزاع والمجتمع، ومن أهم هذه الأدوات:
- محاكمات جرائم الحرب: محاكمة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة.
- لجان الحقيقة والمصالحة: لجمع الشهادات وتوثيق التاريخ المشترك.
- العفو المشروط: في حالات تعاون المتورطين لكشف الحقائق.
- الاعتذار الرسمي والاعتراف بالمسؤولية: من قبل الدولة أو القادة.
- تعويض الضحايا: مادياً ومعنويًا.
- إعادة الإدماج المجتمعي: للمقاتلين السابقين وغيرهم ممن لم يتورطوا بجرائم النظام السابق ومن المتأثرين بالنزاع.
3 الحالات التاريخية ذات الصلة
سنتناول في هذا المبحث بعض التجارب التاريخية في العصر الحديث التي مرت بتجارب مريرة في الانتقال من نظام إلى نظام مختلف جدا؛ وسنقوم بفرزها لمجموعتين، الأولى عملت على إنهاء بقايا النظام السابق بشكل شبه جذري، والثانية حاولت التوفيق أو المساومة مع النظام السابق.
3.1 إنهاء بقايا النظام السابق بشكل شبه جذري
3.1.1 ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية – إسقاط النازية (1945)
بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، احتل الحلفاء (بريطانيا، أمريكا، الاتحاد السوفيتي، فرنسا) البلاد. وتم حينها تفكيك النظام النازي تمامًا، وعُقدت محاكمة كبار المسؤولين النازيين في محاكمات نورمبرغ، كما تم إلغاء الحزب النازي وجميع مؤسساته. و قد تم منع الكثير من الموظفين والمسؤولين السابقين إبان المرحلة النازية من العمل العام عبر سياسة "الإعادة التربوية Denazification". بالمحصلة تمت إعادة بناء الدولة الألمانية من الصفر، مع تعيين قادة جدد غير مرتبطين بالنظام القديم، لكن في ألمانيا الغربية؛ لكن ألمانيا الشرقية سمحت لبعض المسؤولين السابقين بالاستمرار ضمن الطبقة الحاكمة الجديدة الشيوعية.
ما حدث في ألمانيا كان ممكنًا لأن النظام النازي لم يكن لديه دعم شعبي حقيقي، والحلفاء كانوا متحدين في هدفهم، والجرائم كانت واضحة وبشعة.
3.1.2 اليابان بعد الحرب العالمية الثانية – إنهاء الإمبراطورية اليابانية (1945)
بعد قصف هيروشيما وناجازاكي، استسلمت اليابان للحلفاء، وبدأ احتلال أمريكي طويل لليابان، وقامت اليابان الجديدة التي قامت بإبعاد الإمبراطور هيروهيتو عن السلطة التنفيذية الفعلية، كذلك تم حل الجيش والمخابرات اليابانية، ومحاكمة مجرمي الحرب اليابانيين في محاكمات طوكيو. وتم ترسيخ الدولة اليابانية الجديدة من خلال دستور جديد ينهي النظام الإمبراطوري القديم. بالمحصلة اختفى النظام القديم، لكن بعض الشخصيات السابقة عادت لاحقاً للحياة السياسية في خمسينات القرن الماضي.
لم تتمكن اليابان من محو كل آثار النظام القديم. لكنها استطاعت تحويل المؤسسات الرئيسية وإعادة تشكيل الدولة.
3.1.3 يوغوسلافيا بعد سقوط ميلوشيفيتش (2000)
في عام 2000، تمت الإطاحة بالرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش بعد احتجاجات شعبية واسعة، والذي كان متهمًا بجرائم حرب خلال حروب البلقان، فتم تسليم ميلوشيفيتش للأمم المتحدة ومحاكمته في لاهاي. كذلك جرى حل العديد من مؤسسات الأمن والاستخبارات المرتبطة به، وإعادة هيكلة الجيش والحكومة.
رغم أن ميلوشيفيتش تمت الإطاحة به من قبل ثورة شعبية، إلا أن محو كل آثار النظام القديم كان صعبا، فقد بقي بعض الأجهزة الأمنية والمصالح الاقتصادية المرتبطة بالنظام القديم، وكذلك عاد عدد من السياسيين والضباط السابقين لاحقًا.
3.2 المساومة مع بقايا النظام السابق
3.2.1 تشيلي (1990):
حكم بينوشيه تشيلي ديكتاتوريا بعد انقلاب عسكري عام 1973 حتى 1990، وكان حكمه ديكتاتوريا عسكريا ظالما، قام خلاله بقمع معارضيه بمختلف الأساليب بما فيها الاعتقال والتعذيب بشكل واسع، وزادت خلال حكمه معاناة الغالبية الفقيرة في البلاد.
بعد سنوات من الاحتجاجات ضد نظام بينوشيه، سقط النظام الديكتاتوري عام 1990، حيث تم منح عفو عام للمسؤولين العسكريين مقابل تسليم السلطة، ونجح الانتقال السلمي للسلطة، لكنه خلف جروحا غير مداواة أدت لاستمرار الاحتجاجات لاحقا. خلال مسيرة طويلة من الملاحقة عبر المحاكم الدولية، توفي بينوشيه عام 2006؛ وكذلك فإن كثيرا من ضباط الاستخبارات العسكرية DINA المتورطين في جرائم نظام بينوشيه لم تتم محاسبتهم.
3.2.2 رواندا (1994):
حصلت في رواندا مجزرة جماعية، نفذها مقاتلو الهوتو، من الأسوء في القرن العشرين، حيث أدت إلى مقتل حوالي 600 ألف شخص، غالبيتهم من التوتسي، خلال 100 يوم، وحصل خلالها اغتصاب حوالي 350 ألف امرأة.
مثلت العدالة الانتقالية في رواندا تحديا كبيرة بسبب بشاعة الجريمة، التي تجاوزت بمعدل القتل مجزرة الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية وما حصل في سورية من مجازر، وبسبب العدد الهائل الذي كان متورطا في عمليات الإبادة الجماعية، حيث قُدر عدد المتورطين بمئات الآلاف واكتظت السجون بهم. وقد فشلت بالنهاية هذه المحاكم العادية، ومحاكم "غاكاكا" العرفية في تحقيق ما كان يأمله الروانديون من عدالة.
استطاع العديد من القادات المسؤولين عن المجزرة الهروب خارج رواند، ولولا التعاون الدولي لما تم القبض على تيونيست باجوسورا، القائد الرواندي المسؤول المباشر عن المجزرة. وبمحصلة المحكمة الدولية عام 2011 حُكم بالسجن لمدة 35 سنة.
بالمحصلة ترسخ الاستقرار نسبيا في رواندا، لكن مرارة التجربة، وظلم تجربة العدالة الانتقالية ما زالت قائمة في المجتمع الرواندي، وما زال الحكم فيها شموليا بشكل ديمقراطي خارجي. وبطريقة ما انتقلت الأزمة إلى زائير وتداخلت من جمهورية الكونغو وبروندي.
3.2.3 جنوب إفريقيا (1994):
بالمقارنة النسبية تمكنت جنوب إفريقيا من اتباع أفضل سياسات "ما بعد الأزمات الكبرى"، عبر لجنة الحقيقة والمصالحة TRC المستقلة وذات الموثوقية المقبولة. وقد مُنح عفواً مشروطاً للمجرمين الذين اعترفوا بما ارتكبوه خلال حكم الفصل العنصري. حقق هذا الأسلوب نجاحاً معقولا في المصالحة الشعبية وتجنب الحرب الأهلية، رغم وجود انتقادات ما زالت قائمة لغياب العدالة الجنائية.
3.2.4 العراق (2003):
مارس صدام حسين سلطة واسعة منذ 1968، رغم أنه لم يكن الرئيس وقتها في نظام البعث العراقي، وركز اهتمامه على تدعيم الحكم العراقي أمنيا من خلال الأجهزة الأمنية والعسكرية؛ ثم استولى على السلطة كرئيس للعراق عام 1979. وقد عانى العراقيون من ذاك الوقت الأمرين تحت حكم صدام حسين، وكان مسؤولا عن قتل مئات آلاف العراقيين من الأكراد ومن العرب أيضا. بعد إسقاط نظام صدام حسين ودخول الدولة في حالة فوضى، تمت محاكمة صدام حسين، بشكل أساسي بسبب الضغط الدولي، وإعدامه؛ لكن أيضا حصلت عدة صفقات مع ضباط ومسؤولين سابقين مقابل العفو والحماية في الصدامات التي تلت مع عدة تنظيمات متطرفة.
حصل تحسن أمني مؤقت، لكن مع عودة الفساد والنظام القديم باسم جديد، وما زال العراق داخل نفق من فشل الدولة واستمرار معاناة الشعب العراقي رغم غنى العراق بالمصادر الطبيعية والبشرية.
4 مقارنة الوضع السوري وتجارب آخرين
التاريخ لا يكرر نفسه، وقراءة تجارب الدول الأخرى التي قد تشبه الحالة السورية يفيد في قراءة الواقع السوري، وفي الوصول لحل أفضل للتحديات التي تواجه سورية، وأكبرها وأصعبها تحقيق المصالحة الشعبية السورية، وإعادة بناء العقد الاجتماعي السوري، وتحرير المستقبل السوري، قدر الإمكان، من الآثار المريرة الشديدة لما حصل خلال حكم نظام الأسدين، وخلال الأربعة عشر سنة الماضية.
- يمكننا ملاحظة أن الحالة السورية تشبه رواندا من حيث عمق وضخامة الجرح الإنساني الذي أصاب الشعب؛ وكذلك تتشابه مع حالة تشيلي في وجود رغبة لدى الحكومة الجديدة بعدم وجود رغبة حقيقية في معاقبة المسؤولين الكبار من نظام الأسد البائد، لكنها تختلف عن الحالة التشيلية من حيث توجه تشيلي مباشرة لحكم ديمقراطي بينما ما زال مصير الديمقراطية ضبابيا في سورية.
- يتشابه أسلوب الحكم العراقي بعد سقوط صدام حسين مع أسلوب الحكومة السورية الجديدة، من حيث استخدام بعض العناصر من النظام السابق أمنيا وعسكريا. لكن بالحالة السورية يجري أيضا إقحام قوة عسكرية أجنبية في عمق البنية العسكرية السورية.
- كما في حالة جنوب إفريقيا فهناك حاجة سورية لإنشاء آلية ولجان مستقلة وشفافة للكشف عن الحقائق، وإعادة بناء الثقة بين المكونات الشعبية، وبناء الثقة بين الشعب وبين السلطة الجديدة في سورية.
- تتشابه حالة سورية مع الحالة اليوغسلافية من حيث ثبوت جرائمية الحاكم السابق، وعمق الآلام والجراح التي سببها بين مكونات الشعب. لكن في سورية على ما يبدو أن غالبية كبار مسؤولي النظام السابق قد تمكنوا من الإفلات من العقاب، وربما ضمن بعضهم، مثل بشار الأسد، ملاذا آمناً.
5 تحليل الوضع السوري، واقع ما يحصل وخيارات المستقبل
تواجه سورية تحديات كبيرة جداً، حيث يصعب تحديد الأولويات فيما بين التحدي الاقتصادي، والسياسي، والأمني، وتحدي المصالحة الشعبية وتحقيق العدالة بشكل معقول ومقبول. هذه التحديات ناتجة عن غياب توافق دولي حول سورية المستقبل، خلال وبعد الحرب المريرة خلال الأربعة عشر سنة الماضية؛ وعن عدم وجود جهة مركزية موثوقة تقود عملية الانتقال، تلتزم بالشفافية والحيادية وبحماية استقلال آليات المحاسبة والعدالة الانتقالية.
5.1 واقع ما قامت به الحكومة السورية الانتقالية
تأخرت الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع في العمل على إطلاق عملية العدالة الانتقالية، بعد إسقاط نظام بشار الأسد؛ كذلك للآن لا يوجد سعيٌ حقيقيٌ لتشكيل جهة تشريعية معبرة عن الشارع السوري قدر الإمكان لتكون الجهة الرقابية والمرجعية في اتخاذ القرارات الكبرى مثل العدالة الانتقالية. كذلك فإن الجهاز القضائي ما زال متهالكاً، وبنفس الوقت لا يتمتع بالاستقلالية عن السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية.
رغم الإعلان عن أن قوات الأمن العام تلاحق فلول نظام بشار الأسد، وأنها تمكنت من قتل العديد منهم، إلا أن البيانات الرسمية لم تحدد العدد، ولا الأسماء، ولا كشفت كيف تم الحكم عليهم ووفق أية آلية قانونية. بينما لم يتم القبض على غالبية الشخصيات القوية التي كانت مسؤولة عن المجازر الجماعية التي ارتكبها النظام الأسدي بعد العام 2011.
بل إن المفاجئ كان الإعلان عن العفو عن بعض هذه الشخصيات المتورطة بشكل مباشر بارتكاب مجازر جماعية، مثل فادي صقر، وإقرار حرية حركة عدد من كبار داعمي النظام الأسدي من أغنياء سورية مثل محمد حمشو. والأكثر إحباطاً للشارع السوري أن عدداً من هذه الشخصيات ما زالت تتمتع بما جنته من ثروات ومن سلطة اجتماعية، بل وسياسية وأمنية. وقد حدث كثيرا في تجارب الدول الأخرى عقد صفقات بسبيل التخفيف من آلام الانتقال السياسي القاسي، وقد اتخذ منحنيين: الأول، ضمان أمن وسلامة الشخصية التي يتم التعامل معها، وضمان عدم محاكمتها بشرط الاختفاء من الساحة العامة؛ الثاني، لا يشترط اختفاء الشخصية من الساحة العامة، بل يضمن لها مراكز مهمة ضمن الدولة مع النظام الجديد. وقد ثبت أن المنهج الأول، أي اشتراط اختفاء الشخصيات المتعاونة من الساحة العامة مقابل تجنيبهم المحاكمة والعقاب، هو الأسلوب الأفضل والأنجح على المدى البعيد؛ لكن مع ذلك في الحالات المشابهة للحالة السورية، فلا يوجد مبرر بأي شكل للتعامل مع كبار الشخصيات المسؤولة عن المأساة. وواقع رواندا ويوغسلافيا يؤكد أن نجاة القادة الكبار للمذابح الجماعية، أو عقابهم بما يتناسب مع حجم الجريمة ترك آثار اجتماعية ساهمت لاحقا بهشاشة الواقع السياسي.
إذاً ما يجري الآن يبدو وكأنه يسير لحالة تتجاوز حالات الدول التي تم ذكرها سابقا ضمن هذه الورقة، وحصر تطبيق العدالة الانتقالية على عدد غير محدد من صغار المتورطين بجرائم نظام بشار الأسد، بل وتطبيق هذه العدالة بشكل تعسفي خارج أي إطار قانوني عادي، أو إطار قانوني استثنائي.
والنقطة الأهم بالحالة السورية هو غياب كامل للشفافية حول ما حصل في سورية، وما يحصل، وما يتم التخطيط لعمله في المستقبل. ليس فقط في مجال تطبيق العدالة الانتقالية، بل في كل سياسات الحكومة الجديدة. ومع غياب أي توجه لحالة ديمقراطية صحية فهذا الغموض والسرية يحول نتائج المأساة التي عاشها السوريون، مرة أخرى، إلى براكين تستعر تحت السطح.
5.2 ما الخطأ في مشابهة ما جرى في دول أخرى؟
ما حصل في الدول التي ذكرناها ليس بالضرورة التصرف الأفضل والأمثل، ولا يقدم حجة أو برهانا على أن ما يحصل في سورية بعد إسقاط نظام الأسد هو المسار الأفضل والأكثر ضمانا للمستقبل.
بالواقع إن استمرار إحساس المظلومية في رواندا، والعراق، ولبنان التي لم تجرِ بها أي إجراءات عدالة انتقالية، وتشيلي، وحتى جنوب إفريقيا ما زال أحد عوامل عدم الاستقرار. وبالتوازي مع عدم بناء سياسات حكيمة لإعادة بناء الدولة والعقد الاجتماعي ما زالت رواندا، والعراق، ولبنان، ويوغسلافيا السابقة تعاني من صعوبات كبيرة في إيصال هذه الدول إلى مرحلة الدولة المستقرة التي تضمن استمرار تحسن أوضاع الغالبية الشعبية بها، مع غياب للديمقراطية والعدالة الاجتماعية واضح في هذه الدول.
5.3 ماذا يمكن فعله، وخيارات المستقبل في سورية؟
يجب أن تتوازى عملية العدالة الانتقالية مع غيرها من إجراءات إعادة البناء على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وضمن مسار المصالحة الشعبية-الشعبية السورية. وهنا بناء على توازي عملية إعادة البناء الشاملة، يجب أن يتم في مسار العدالة الانتقالية:
- ضمان استقلال السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية
- العمل على استعادة مكانة الجهاز القضائي والقانوني
- حماية بنية الدولة عبر السير باتجاه الديمقراطية
- بناء آلية للكشف عن الحقيقة
- يمكن العمل على تأسيس هيئة وطنية مستقلة (ربما برعاية أممية) لتوثيق الجرائم وجمع شهادات الضحايا.
- تجنب التركيز على الانتقام، بل على إعادة بناء ذاكرة وطنية مشتركة.
- تعزيز دور المجتمع المدني
- يمكن للمجتمع المدني أن يكون ركيزة أساسية في بدء عمليات مصالحة محلية، خاصة في المناطق التي تعافت نسبيًا.
- دعم المنظمات الحقوقية والمبادرات الإنسانية المحلية.
- يجب أن تكون العملية محايدة، شاملة، ومتعددة الطوائف.
6 الخاتمة:
إن عملية إعادة البناء في سورية على المستوى الاقتصادي والأمني والسياسي تشترط أن يتم إطلاق مسار العدالة الانتقالية على التوازي مع إجراءات إعادة البناء، والعدالة الانتقالية هي الشرط اللازم الذي لا يمكن تجاوزه لإطلاق عملية المصالحة الشعبية-الشعبية، والتي تمثل أساسا لا غنى عنه لتحقيق الأمن والاستقرار السياسي، والذي بدوره يشكل أهم عوامل جذب ونجاح الاستثمارات في الدولة.
حسب النماذج التي ناقشناها باختصار، فمن النتائج المهمة التي توصلنا لها هو أن الشفافية في عملية العدالة الانتقالية، وضمان حياديتها واستقلاليتها هو شرط لا غنى عنه لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية. وثبت تاريخيا أن كل الحجج التي قُدمت كمبرر لتجاوز العدالة الانتقالية مثل حجج "الأمن القومي" أو "المصلحة الوطنية العليا" أو غيرها لم تكن مبرراً صادقا وعادلا، بل زادت من صعوبات المرحلة الجديدة.
- المراجع المقترحة
- United Nations, Rule of Law and Transitional Justice in Conflict and Post-Conflict Societies , UN Document S/2004/616.
- Hayner, P. B. (2011). Fifteen Truth Commissions – 1974 to 1994 . Human Rights Quarterly, Vol. 16, No. 4.
- Teitel, R. G. (2000). Transitional Justice . Oxford University Press.
- Rotberg, R. I., & Thompson, D. F. (Eds.). (2000). Truth v. Justice: The Morality of Truth Commissions . Princeton University Press.
المكتب السياسي
علاء الدين الخطيب
باحثون مستقلون
دراسة
تيار المستقبل السوري