المكتب السياسيالمكتب العلميجمعة محمد لهيبقسم البحوث و الدراساتمقالاتمقالات سياسية

“الأتراك في السوق السورية”

كانت العلاقة التركية السورية قبل الثورة في أوجها، متداخلة بدرجة كبيرة إلى مرتبة العلاقة الشخصية والعائلية بين أسرتي النظامين، الأمر الذي ظنه الأتراك عاملاً في تدخل مقبول لإنهاء حالة العنف من النظام السوري تجاه شعبه، لكنّ كذب النظام السوري على داود أوغلو آنذاك جعل الأتراك يغيرون سياستهم مع دمشق ولتدخل مرحلة جديدة، لم يختر الأتراك سياسة صفر مشاكل في سورية، فلقد كان ابتعادهم عن حرب العراق بعد صدام حسين عاملاً في خسارة استراتيجيةٍ ملأ فراغها الإيرانيون، لأجل هذا كان قرارهم بالاصطفاف ثم التدخل إلى جانب المعارضة السورية.
استقبل الأتراكُ السوريين عبر سياسة الانفتاح والأخوة والمهاجرين والأنصار، الأمر الذي كسب تعاطف السوريين الذين لم يظنوا أن هذه السياسة ستكون سلبية عليهم لاحقاً كون منطلقها مساندة عاطفية بحتة لا قانونية منهجية!! مما يعني بالتالي أن العلاقة ستُبنى معهم لاحقاً على المزاج التركي وحسب.
ومع تطور حالة المعارضة السورية من السلميّة إلى حمل السلاح ثم الأسلمة، كان الأتراك في مقدمة الدول التي تنسق مع كل ذلك التطور الميداني والأمني، فأمسك الأتراك بالملف السوري عبر عدة محاور:
1- المحور الإنساني، عبر فتح مخيمات واستقبال السوريين، وتيسير عمل البعثات الدولية والإغاثية.

2- المحور السياسي، عبر دعم المعارضة السورية بالتواجد والتحرك الحر على أرضها منذ قيام المجلس الوطني السوري2012م.

3- المحور العسكري، وذلك عبر دعم الفصائل العسكرية بالمال والسلاح، وفتح (غرفة الموم) التي دعمتها الدول الصديقة للشعب السوري قبل أن يتم إغلاقها فيما بعد.

وبعد إسقاط الطائرة الروسية، انقلبت العلاقة بين تركيا والناتو، والذي سحب الباتريوت وجعل تركيا وحيدة أمام هجوم روسي محتمل، زاد الأمر تعقيداً الانقلاب الفاشل ضد الرئيس التركي أردوغان، والذي تقول تقارير أن الذي سانده استخباراتياً روسيا أمام تآمر أمريكي واضح، ثم ما لبث أن قبل الجميع نتيجة خروج أردوغان من كل ذلك منتصراً، فسعى بدوره لقصقصة كل الأجنحة الموالية للغرب، إيذاناً بتغير استراتيجي من سياسة صفر مشاكل إلى الدخول في لعبة الأمم في سورية وليبيا وأذربيجان.

حملت سنة 2015م، واتفاق كيري لافروف مرحلة جديدة في سورية، حيث تم اطلاق يد الروس في الجنوب السوري، ولكن الشعور التركي بأهمية ورقة الشمال السوري من جهة، ودعم أمريكا وروسيا لقسد، سبَّب في تمسك الأتراك بالمنطقة الشمالية، الأمر الذي دعا أمريكا للبقاء في المنطقة الشرقية، لتصبح سورية بين مناطق نفوذ ثلاثة: روسيا وإيران من جانب، وأمريكا من جانب، وتركيا من جانب آخر.
شاركت تركيا في الاتفاقيات مع روسيا حول سورية من باب البراغماتية، فالأمريكان سمحوا للدول الثلاثة بالصراع في مناطقهم، الأمر الذي أسس لمؤتمر سوتشي وأستانة، ليفرز كل ذلك مناطق خفض التصعيد في المناطق المسيطر عليها تركيا.

عمدت تركيا لقضم مناطق قسد عبر السير في حقل ألغام خطيرة، فسيطرت على كوباني عين عرب، وثم لاحقا على تل أبيض، لتضمن بذلك قصقصة خريطة قسد التي كان من المفترض أن تضم الحدود الشمالية من الحدود العراقية إلى البحر المتوسط.
ظلت الاتفاقات التركية الروسية تغلي على نار هادئة حتى قيام الحرب الأوكرانية، وانتقال العلاقة الغربية مع روسيا إلى حالة العداء، الأمر الذي جعل تركيا ذات موقع جديد على الخارطة الدولية، تمثّل ذلك باتفاق تصدير الحبوب الأوكراني.

لعبت أمريكا في ورقة التدخل العربي عبر دعم الخليج لقسد، ولجماعة الجربا في المنطقة الشرقية، الأمر الذي فشل في إقناع الطرفين بالاتفاق على صيغة تعاقد! حيث ترفض قسد ألا تكون قيادتها هي المتحكمة فيها، الأمر الذي جعل الأمريكان يدخلون في الساحة السورية عبر طبخة “طائف سوري جديد” على نار هادئة، من خلال أفران جامعة الدول العربية.
ثم لتنطلق معركة طوفان الأقصى، والتي خلطت الأوراق كلها في انتظار لانكشاف الرؤية فيما خص الوضع السوري الذي ارتبط مصيره بمصير تسوية شاملة للمنطقة برمّتها، منتظرة صفارة انطلاقتها من المنطقة الجنوبية في سورية.

وضمن هذا المشهد تظهر تركيا في حالة من التمسك بالورقة السورية من زاويتين:
الزاوية الأولى، منع قسد من الاستيلاء على المنطقة الحدودية بالكامل.
الزاوية الثانية، الاستفادة من التواجد التركي في سورية استراتيجياً عبر القواعد العسكرية من جهة، واستخدام عناصر سوريين في حروب خارجية من جهة ثانية.

لأجل هذا رأينا وسنرى تراجعاً في معاملة الأتراك للسوريين كإخوة ومهاجرين، الأمر الذي زاد من التضييق على السوريين، وعمليات الترحيل للمناطق السورية الخاضعة للنفوذ التركي، فمن جانب يتم سحب ورقة المعارضة التركية من استغلال التواجد السوري، ومن جانب يتم وضع العرب كحائط صد أمام الأكراد على الحدود.

من هنا فإن الظاهر أن تركيا لن تتنازل عن سورية، لأنها تؤمّن ظهرها بعد فشل الروس في اقناع النظام السوري بمحاربة قسد واستلام المنطقة الحدودية كلها مع المعارضة السورية، ولأنها وجدت بالفصائل السورية ورقة عسكرية يمكن اعتبار أهميتها موازية لأهمية البيرقدار، من حيث استخدامهم في معاركها الخارجية دون استخدام جيشها.
وبالتالي سيكون التفريط بسورية من قبل الأتراك مقتلاً، وخطأً استراتيجياً تكتيكياً لتركيا، بل سيزداد تدخلها بتأمين منطقتها في سورية عبر إقامة مشاريع اقتصادية تمنع هجرة السوريين إليها، وعبر الاستمرار بتنسيق وإعادة فرز الفصائل السورية بمايخدم خططها الاستراتيجية، تجلى ذلك بمحاول إضعاف هيئة تحرير الشام التي أصبحت ورقة مهمة للغرب لاستقطاب الجهاديين في ادلب وحجرهم بها، إضافة لمحاولة تقسيم الجيش الوطني إلى قسمين من قبل الأتراك، قسم تستخدمهم خارجياً عند الطلب، وقسم تبقيهم حرس حدود أمام قسد.
ولعل هذا ما لم يعد يخفيه الأتراك في تصريحاتهم، وليس آخرها ما صرح به وزير الدفاع التركي يشار غولر حسب صحيفة “ديلي صباح التركية”، حيث قال: إن وجود القوات التركية ضرورة لمواجهة التهديدات الأمنية بما فيها تهديدات التنظيمات الكردية المتواجدة في سورية.

جمعة محمد لهيب
المكتب السياسي
مقال رأي

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى