المكتب العلميد. زاهر بعدرانيدراساتقسم البحوث و الدراساتمكتب الرئاسة

هيئة العدالة الانتقالية، ضرورةُ المرحلة

مقدمة:

لعل أفضل مقدمة يمكن قولها هنا هي أن سورية تحتاج اليوم وبشكل عاجل وفعال إلى تأسيس وتخليق هيئةٍ مهمتها تحقيق العدالة الانتقالية، خاصة في ظل الظروف الحالية بعد سقوط بشار الأسد وعدم الانتقال إلى حكومة شرعية ( يمكن اعتبار الإدارة الجديدة بمثابة حكومة تصريف للأعمال).
فالعدالة الانتقالية تعتبر ضرورية لتحقيق العدالة للضحايا، وكشف الحقائق عن الجرائم المرتكبة خلال سنوات الثورة، وكذلك لضمان عدم تكرار تلك الجرائم في المستقبل.

والعدالة الانتقالية تشمل مجموعة من الآليات مثل المحاكمات، لجان الحقيقة، برامج التعويضات، وإصلاح المؤسسات، وكلها الآليات تهدف إلى معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتعزيز المصالحة الوطنية، وبناء الثقة بين المواطنين والدولة.

وفي الحالة السورية، يمكن أن تلعب العدالة الانتقالية دورًا حاسمًا في تحقيق السلام المستدام، وإعادة بناء المجتمع على أسس العدالة والمساواة.

ومن المهم جداً أن تكون تلك الهيئة مستقلة تمامًا عن الإدارة السورية الجديدة، وجميع الفصائل، وأن تضم قانونيين ومحامين وأعيانَ سورية من المشهود بوطنيتهم وكفاءتهم وحيادهم ونزاهتهم.

أمثلة وتجارب:

هناك عدة تجارب لهيئات عدالة انتقالية في دول خرجت من حروب دون تأسيس دولة جديدة بشكل كامل، من أبرز هذه التجارب:

  1. جنوب أفريقيا: بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، تم إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة في عام 1995، تلك اللجنة كانت تهدف إلى كشف الحقائق حول الانتهاكات التي حدثت خلال فترة الفصل العنصري وتقديم توصيات للمصالحة الوطنية، ويمكن الاستفادة من تجربتها في سورية.
  2. ألمانيا الشرقية: بعد سقوط جدار برلين في عام 1989، تم دمج ألمانيا الشرقية مع ألمانيا الغربية، وخلال تلك الفترة، تم تطبيق العديد من آليات العدالة الانتقالية لمعالجة الانتهاكات التي حدثت خلال الحكم الشيوعي، رغم حصوله تجاوزات ثأرية، تجعل الواقع السوري أفضل منه من الواقع الألماني.
  3. إسبانيا: بعد وفاة الديكتاتور فرانكو في عام 1975، تم الانتقال إلى الديمقراطية دون إنشاء هيئة عدالة انتقالية رسمية، مما يُشبه الواقع الراهن بسورية، ومع ذلك، تم اتخاذ خطوات لإصلاح المؤسسات وضمان عدم تكرار الانتهاكات السابقة.
  4. الأرجنتين: بعد سقوط الديكتاتورية العسكرية في الثمانينات، تم إنشاء لجنة الحقيقة لتوثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الحكومة العسكرية، تلك اللجنة ساعدت في تقديم الجناة إلى العدالة وتعويض الضحايا¹.
  5. المغرب: أنشأ المغرب هيئة الإنصاف والمصالحة في عام 2004 للتحقيق في الانتهاكات التي وقعت خلال فترة حكم الملك الحسن الثاني، وقدمت الهيئة تعويضات للضحايا وأوصت بإصلاحات مؤسسية لمنع تكرار الانتهاكات.
  6. تونس: بعد الثورة التونسية في عام 2011، تم إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة للتحقيق في الانتهاكات التي وقعت منذ عام 1955 وحتى 2013، وتلك الهيئة ساعدت في كشف الحقائق وتقديم توصيات للإصلاحات المؤسسية وتعويض الضحايا.
  7. غواتيمالا: بعد انتهاء الحرب الأهلية في عام 1996، تم إنشاء لجنة التوضيح التاريخي للتحقيق في الانتهاكات التي وقعت خلال النزاع، تلك اللجنة ساعدت في كشف الحقائق وتقديم توصيات للمصالحة الوطنية.

فيما يتعلق بسورية، هناك جهود مستمرة لتحقيق العدالة الانتقالية، ولكنها تواجه تحديات كبيرة بسبب الوضع السياسي والاقتصادي المعقد.

ومن المهم دراسة هذه التجارب للاستفادة منها في السياق السوري لتأكيد ضرورة الإسراع في تأسيس هيئة للعدالة الانتقالية بعد سقوط الأسد، حتى ولو لم تتأسس حكومة شرعية كاملة الصلاحيات، فتجارب مثل جنوب أفريقيا وألمانيا الشرقية أظهرت أن العدالة الانتقالية يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تحقيق المصالحة الوطنية وكشف الحقائق عن الجرائم المرتكبة، حتى في ظل غياب حكومة شرعية كاملة.
وفي الحالة السورية، يمكن أن تساعد هيئة العدالة الانتقالية في معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتعزيز الثقة بين المواطنين والدولة، ووضع أسس لبناء مجتمع مستدام وعادل، ولكن نكرر القول بأنه من المهم أن تكون هيئة مستقلة تمامًا عن الإدارة الجديدة وجميع الفصائل، وأن تضم قانونيين ومحامين مشهود بكفاءتهم وحيادهم ونزاهتهم.

وأخيرا، يمكن القول في هذا الباب أن التجارب السابقة مع العدالة الانتقالية وقيام هيئة حاملة لها، تُظهر أن العدالة الانتقالية يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تحقيق المصالحة الوطنية وكشف الحقائق عن الجرائم المرتكبة، حتى في ظل غياب حكومة شرعية كاملة، لهذا من المهم دراسة هذه التجارب للاستفادة منها في السياق السوري.

آليات وخطوات:

إن تأسيس هيئة عدالة انتقالية في سورية في ظل الظروف الحالية يتطلب اتباع مجموعة من الآليات التي يمكن أن تساعد في تحقيق العدالة والمصالحة الوطنية، ولعل أهم تلك الخطوات والتي نراها أساسية ويمكن اتباعها:

  1. تشكيل لجنة مستقلة تضم قانونيين وخبراء في حقوق الإنسان وممثلين عن المجتمع المدني، ويجب أن تكون محايدة وغير مرتبطة بأي فصيل سياسي لضمان نزاهتها وشفافيتها.
  2. إنشاء آلية وطنية لتوثيق جميع الانتهاكات التي ارتكبتها جميع الأطراف خلال النزاع، ويمكن أن تشمل هذه الآلية جمع الأدلة والشهادات من الضحايا والشهود، وإنشاء أرشيف وطني شامل لتوثيق الانتهاكات.
  3. إنشاء آليات وطنية ودولية لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الجسيمة بحق السوريين، ويمكن أن تشمل تأسيس محاكم خاصة أو مختلطة للتحقيق في الجرائم الكبرى وفقًا لمعايير النزاهة والشفافية.
  4. جبر الضرر وتعويض الضحايا عبر تقديم تعويضات مادية ومعنوية للضحايا وأسرهم، وتوفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي لهم، وكذلك إعداد برامج إعادة التأهيل والتدريب المهني لتمكين الضحايا من استعادة حياتهم الطبيعية.
  5. الإصلاح المؤسسي من خلال صياغة دستور جديد يعكس القيم الديمقراطية ويضمن حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع المواطنين، وإصلاح القوانين والمؤسسات الحكومية لتعزيز الشفافية والنزاهة، ومنع تكرار الانتهاكات.
  6. إطلاق حوار وطني شامل يجمع جميع الأطراف لبناء توافق حول مستقبل البلاد، بما في ذلك إشراك النساء والشباب في تصميم وتنفيذ برامج العدالة الانتقالية، وإطلاق برامج للمصالحة المجتمعية لإعادة بناء العلاقات وتعزيز التفاهم بين الضحايا والجناة.

ولعل هذه الخطوات يمكن أن تساعد في تأسيس هيئة عدالة انتقالية فعالة في سورية، حتى في ظل الظروف الضبابية الحالية، ومن المهم أن تكون عملية شاملة، يشارك فيها جميع فئات المجتمع لضمان نجاحها.

حديث السلبيات والايجابيات:

إذا استمر الوضع على حاله، وتم تجاهل وجود هيئة العدالة الانتقالية، فإننا نرى أن ذلك سيؤدي إلى عدة سلبيات، أخطرها:

  1. استمرار الانتهاكات: بدون آلية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، قد يستمر ارتكاب هذه الجرائم دون رادع، مما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب.
  2. عدم تحقيق العدالة للضحايا: الضحايا وأسرهم قد لا يحصلون على العدالة أو التعويضات المناسبة، مما يزيد من معاناتهم ويعزز الشعور بالظلم.
  3. تأخير المصالحة الوطنية: عدم وجود هيئة للعدالة الانتقالية يمكن أن يعوق جهود المصالحة الوطنية، مما يؤدي إلى استمرار الانقسامات والتوترات بين مختلف الفئات والمجتمعات.
  4. ضعف الثقة في المؤسسات: غياب العدالة الانتقالية يمكن أن يؤدي إلى ضعف الثقة في المؤسسات الحكومية والقضائية، مما يعوق جهود إعادة بناء الدولة وتعزيز سيادة القانون.
  5. تأخير إعادة الإعمار: بدون معالجة الانتهاكات السابقة وتحقيق العدالة، قد يكون من الصعب جذب الاستثمارات والمساعدات الدولية اللازمة لإعادة إعمار البلاد.
  6. تكرار الانتهاكات: عدم محاسبة المسؤولين عن الجرائم يمكن أن يؤدي إلى تكرار هذه الانتهاكات في المستقبل، مما يعوق جهود بناء مجتمع مستدام وعادل.

ومن المهم أن تكون هناك هيئة للعدالة الانتقالية في سورية لضمان تحقيق العدالة والمصالحة الوطنية، وبناء مستقبل أفضل لجميع المواطنين، إذ عقد هذه الهيئة يمكن أن يحقق العديد من الإيجابيات أهمها:

  1. تحقيق العدالة للضحايا: يمكن للهيئة أن تساعد في تقديم العدالة للضحايا وأسرهم من خلال محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، وتقديم تعويضات مادية ومعنوية للضحايا.
  2. تعزيز المصالحة الوطنية: يمكن للعدالة الانتقالية أن تسهم في تعزيز المصالحة الوطنية من خلال كشف الحقائق عن الجرائم والانتهاكات، وإطلاق حوار وطني شامل يجمع جميع الأطراف لبناء توافق حول مستقبل البلاد.
  3. إعادة بناء الثقة في المؤسسات: يمكن للهيئة أن تسهم في إعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة من خلال إصلاح المؤسسات الحكومية وتعزيز الشفافية والنزاهة في عملها.
  4. منع تكرار الانتهاكات: من خلال محاسبة المسؤولين عن الجرائم، يمكن للعدالة الانتقالية أن تسهم في منع تكرار هذه الانتهاكات في المستقبل، وتعزيز سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
  5. جذب الاستثمارات والمساعدات الدولية: يمكن للعدالة الانتقالية أن تسهم في جذب الاستثمارات والمساعدات الدولية اللازمة لإعادة إعمار البلاد من خلال تعزيز الثقة في استقرار البلاد ومستقبلها.
  6. تعزيز الوحدة الوطنية: يمكن للعدالة الانتقالية أن تسهم في تعزيز الوحدة الوطنية من خلال معالجة الانقسامات والتوترات بين مختلف الفئات والمجتمعات، وبناء مجتمع مستدام وعادل.

هذه الإيجابيات تظهر أهمية عقد هيئة عدالة انتقالية في سورية لتحقيق السلام المستدام وإعادة بناء المجتمع على أسس العدالة والمساواة.

شروطٌ وضوابط:

لاشك أن انطلاق هيئة تستلم موضوع العدالة الانتقالية وتُرسخها في سورية بات أمراً ضروري، ونزعم أن غالب من ناقشناهم من السوريين مجمعون على أهميتها، ولكن، نرى أن قضية الوجود لا يستلزم النجاح، بمعنى، أنه ولقيام هيئة عدالة انتقالية ناجحة في سورية، لابد أن تتوافر عدة شروط أساسية، أهمها:

  1. الاستقلالية والحيادية: يجب أن تكون الهيئة مستقلة تمامًا عن أي تأثير سياسي أو فصائلي، وتضم قانونيين وخبراء في حقوق الإنسان مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.
  2. مشاركة المجتمع المدني: إشراك منظمات المجتمع المدني والضحايا في عملية العدالة الانتقالية لضمان شمولية العملية وتلبية احتياجات جميع الفئات المتضررة.
  3. توثيق الانتهاكات: إنشاء آلية وطنية لتوثيق جميع الانتهاكات التي ارتكبتها جميع الأطراف خلال النزاع، وجمع الأدلة والشهادات من الضحايا والشهود.
  4. محاسبة المسؤولين: إنشاء آليات وطنية ودولية لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الجسيمة بحق السوريين، وفقًا لمعايير النزاهة والشفافية.
  5. جبر الضرر وتعويض الضحايا: تقديم تعويضات مادية ومعنوية للضحايا وأسرهم، وتوفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي لهم، بالإضافة إلى برامج إعادة التأهيل والتدريب المهني.
  6. الإصلاح المؤسسي: إصلاح القوانين والمؤسسات الحكومية لتعزيز الشفافية والنزاهة ومنع تكرار الانتهاكات، وصياغة دستور جديد يعكس القيم الديمقراطية ويضمن حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
  7. الدعم الدولي: الحصول على دعم المجتمع الدولي والمنظمات الدولية لضمان تنفيذ العدالة الانتقالية بشكل فعال وتوفير الموارد اللازمة لذلك.

خاتمة:

في الختام، تُعد العدالة الانتقالية ضرورة ملحة لتحقيق السلام المستدام في سورية، حيث تساهم في جبر الضرر للضحايا، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وتعزيز المصالحة الوطنية.
إن إنشاء هيئة عدالة انتقالية مستقلة وفعالة يمثل خطوة حاسمة نحو بناء مستقبل مشرق لسورية، حيث يتمتع جميع المواطنين بحقوقهم وحرياتهم دون خوف أو تمييز، ومن خلال توثيق الانتهاكات، ومحاسبة المسؤولين، وتقديم التعويضات للضحايا، يمكن للعدالة الانتقالية أن تعيد الثقة بين المواطنين والدولة، وتمنع تكرار الجرائم والانتهاكات في المستقبل، كما أن إشراك المجتمع المدني وتوفير الدعم الدولي يعزز من فرص نجاح هذه العملية، ويضمن تحقيق العدالة والمساواة للجميع.

وإننا في المكتب السياسي لـِ تيار المستقبل السوري نرى أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوات جادة نحو تحقيق العدالة الانتقالية في سورية لضمان حفظ حقوق السوريين وبناء مجتمع قائم على العدالة والمساواة، ويجب أن تكون هذه العملية شاملة وشفافة، وتستند إلى مبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون، لتكون سورية نموذجًا يحتذى به في تحقيق العدالة والمصالحة بعد النزاعات.

مكتب الرئاسة
الدكتور زاهر بعدراني
قسم البحوث والدراسات
دراسات
تيار المستقبل السوري

المراجع:

  1. عن العدالة الانتقالية في سوريا – عنب بلدي.
  2. العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة.
  3. هل يصلح دستور 1950 لإدارة المرحلة الانتقالية في سوريا؟.
  4. العدالة الانتقالية في سوريا “حلول عملية” – المركز السوري للإعلام وحرية ….
  5. “لجان الحقيقة والمصالحة”.. كيف تحقق سوريا العدالة لجرائم نظام “الأسد”؟.
  6. بينها دعم العملية الانتقالية.. أبرز توصيات اجتماعات الرياض بشأن سوريا.
  7. من الواقع السوري: ما المرتكزات الملحة لاستراتيجية وطنية لإعادة الإعمار والتنمية؟.
  8. التقرير التمهيدي: العدالة الانتقالية وأهمية إنضاج المقاربة السورية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى