العدالة الانتقالية في سورية: تحدياتٌ وآفاق
مقدمة:
شهدت سورية صراعًا داميًا على مدى سنوات طويلة، بعد استخدام النظام السوري للحل الأمني مقابل المظاهرات الشعبية التي كبرت وتعاظمت حتى انفلتت عن الطوق بعد تفلت العمل المسلح الذي جرّ إليه ذلك الحل الأمني، دخلت سورية في دوامة خلّفت دمارًا هائلاً وخسائر بشرية فادحة، في ظل هذا الواقع المرير، تبرز مسألة العدالة الانتقالية كأحد أهم التحديات التي تواجه المجتمع السوري في مرحلة ما بعد الصراع، خصوصاً والحديث الدولي اليوم عن تطبيع مع (الدولة) السورية بعد العمل على تقاسم الكعكة السورية من الدول الخارجية المتدخلة بالصراع.
العدالة الانتقالية:
العدالة الانتقالية هي مجموعة من الإجراءات والمبادرات التي تتخذها الدول التي تخرج من صراعات طويلة أو أنظمة استبدادية، بهدف معالجة الآثار السلبية لهذه الفترة والانتقال إلى مجتمع أكثر ديمقراطية وعدالة، وهي تشمل مجموعة من الآليات مثل كشف الحقيقة من خلال إنشاء لجان تحقيق وتوثيق الانتهاكات التي ارتكبت في الماضي، والمحاسبة من خلال محاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، والعدالة التعويضية من خلال تقديم التعويضات للضحايا، والإصلاح المؤسسي من خلال إصلاح المؤسسات الحكومية والقضاء لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل، والمصالحة الحقيقية -ليس ماتقوم به حكومة الأسد اليوم- من خلال بناء الثقة بين مختلف فئات المجتمع.
ومن هنا ستكتسب العدالة الانتقالية أهمية بالغة في السياق السوري لعدة أسباب:
1- وقف دوامة العنف: والتي تساهم بها العدالة الانتقالية عبر كسر حلقة العنف من خلال معالجة أسبابه ومعاقبة مرتكبي الجرائم.
2- بناء الثقة بين مختلف فئات المجتمع: والمساهمة في تحقيق المصالحة الوطنية.
3- تعزيز الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان: وبناء دولة المؤسسات.
4- منع تكرار الانتهاكات من خلال معالجة أسبابها: حيث تساهم العدالة الانتقالية في منع تكرارها في المستقبل.
التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية في سورية:
بحسب استبيان قمنا به في المكتب السياسي لِـ تيار المستقبل السوري في الداخل السوري (المحرر) شمل 200 شاب وشابة مناصفة, بين عمر الـ 20 – 30 أظهر مايلي:
1- 87% يوافقون على تطبيق العدالة الإنتقالية.
2- 45% يرون أن العدالة الانتقالية هي الحل الحقيقي الكافي للأزمة السورية، و30% يرون أنها غير مجدية لوحدها دون تدخل خارجي، و25% لا يرون بالعدالة الانتقالية أي فائدة وأي قدرة على النجاح.
3- 95% يرون أن العائق لتطبيق العدالة الانتقالية هي عقلية النظام السوري وحده!. و2% يرون أن العائق هي بعض الدول المتدخلة، و3% يرون العائق متمثل بسلطات الأمر الواقع.
بحسب هذا الاستبيان يظهر ما يواجه عملية العدالة الانتقالية في سورية من تحديات، إضافة إلى ما يلي:
1- تعقيد الصراع وتعدد الأطراف المتورطة في الصراع وتعقد الديناميكيات السياسية والميدانية يجعل عملية العدالة الانتقالية أكثر صعوبة.
2- نقص الإرادة السياسية وغيابها لدى الأطراف المتنازعة بشكل كامل وجاد.
3- استمرار ارتكاب الانتهاكات في بعض المناطق يجعل من الصعب التركيز على معالجة جرائم الماضي.
4- الانقسامات العميقة في المجتمع السوري كذلك تجعل من الصعب تحقيق المصالحة الوطنية.
5- تدمير البنية التحتية القضائية في سورية، وتشريد القضاة والمحامين، يجعل من الصعب إنشاء آليات قضائية فعالة للتعامل مع قضايا العدالة الانتقالية.
6- كما وتؤثر التدخلات الخارجية في الشأن السوري سلباً على عملية العدالة الانتقالية، حيث تسعى بعض الدول إلى حماية مصالحها الخاصة دون الالتفات إلى مصالح الشعب السوري.
7- النزاعات حول طبيعة العدالة الانتقالية, إذ توجد اختلافات كبيرة حول طبيعة العدالة الانتقالية المطلوبة في سورية، فبعض الأطراف تطالب بمحاكمة جميع مرتكبي الجرائم، بينما يرى آخرون أن الأولوية يجب أن تكون للمصالحة الوطنية.
آفاق العدالة الانتقالية في سورية:
رغم التحديات الكبيرة، إلا أن هناك بعض الآفاق الإيجابية لعملية العدالة الانتقالية في سورية، مثل تزايد الوعي بأهمية العدالة الانتقالية لدى المجتمع الدولي والأطراف السورية بأهمية العدالة الانتقالية، وتأسيس منظمات المجتمع المدني ودعمهت للعمل على توثيق الانتهاكات ودعم ضحاياها، إضافة لوجود إرادة شعبية واسعة لتحقيق العدالة والمساءلة.
كيف يمكن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا؟
تعتبر العدالة الانتقالية في سورية تحديًا معقدًا ومتعدد الأوجه، وذلك نظرًا لعمق الجروح التي خلفها الصراع ولتعدد الأطراف المتورطة فيه. ومع ذلك، هناك العديد من الخطوات والآليات التي يمكن اتباعها لتطبيق العدالة الانتقالية في سورية، من هذه الخطوات:
1- إنشاء آلية مستقلة ومحايدة للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت خلال الصراع، وتوثيقها، وتحديد المسؤولين عنها.
2- نشر تقارير تفصيلية حول الانتهاكات التي ارتكبت، بما في ذلك الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية.
3- محاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، سواء كانوا من النظام السوري أم من الجماعات المسلحة المعارضة.
4- تقديم التعويضات للضحايا، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي لهم.
5- إصلاح المؤسسات الحكومية والقضائية، وبناء مؤسسات جديدة قادرة على حماية حقوق الإنسان.
6- تشجيع الحوار والمصالحة بين مختلف فئات المجتمع، وبناء الثقة بينهم.
7- ضمان مشاركة المجتمع المدني والضحايا في جميع مراحل عملية العدالة الانتقالية.
العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي:
العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي هما وجهان لعملة واحدة في الدول التي تخرج من صراعات طويلة أو أنظمة استبدادية، مثل سورية، حيث ترتبط هاتان العملتان ببعضهما البعض بشكل وثيق، إذ تساهم العدالة الانتقالية في تهيئة الظروف الملائمة للانتقال الديمقراطي، وتقويض الأسس التي تغذّي الصراعات والانقسامات.
ولهذا يمكن أن تساهم العدالة الانتقالية في الانتقال الديمقراطي من خلال معالجة الماضي وكشف الحقيقة والمحاسبة, إضافى إلى بناء المستقبل من خلال تعزيز سيادة القانون وبناء مؤسسات ديمقراطية، مع توحيد المجتمع عبر بناء الثقة والمصالحة الوطنية.
وانطلاقاً من أهمية العدالة الإنتقالية فإننا في المكتب السياسي لِـ تيار المستقبل السوري نوصي بضرورة إيلاءها أهمية وطنية يحمل لواءها النخب والكايانات السورية، لنشر الوعي بين السوريين حول أهميتها، وللضغط على المجتمع الدولي والدول المتدخلة بألا يتساهلوا بها برحلتهم التطبيعية، حتى يكون مسارهم واقعي، وحتى يحصل الشعب السوري على جزء بسيط من حقوقه المسلوبة.
إلياس عبد المسيح
المكتب السياسي
قسم البحوث والدراسات
دراسات
تيار المستقبل السوري
المراجع:
- مجموعة مؤلفين, العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الأول حالات عربية ودولية, المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022م.
- ليلى الرطميات، العدالة الانتقالية في سياق الانتقال الديمقراطي تجارب ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، 2023م.
- محمد الشرقاوي، أولويات العدالة الانتقالية قوة القانون أم الأمن المجتمعي؟، مجلة لباب عن مركز الجزيرة للدراسات، 2021.
- حلقة نقاشية، العدالة الانتقالية، مقر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، 2013م.
- موقع المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ)
- موقع سوريون من أجل الحقيقة والعدالة