13- فقه الموازنات والترجيح في القرآن: د.إحسان بعدراني
نقول: وَزَنَ الكلام، قدَّره. ونقول: وَزَنَ الرأي، كان راجحاً. والقولُ الأَوزَنُ: الأقوى والأمكن. ونقول: زان بين الأمرين، أي قابل بينهما ليعلم أيهما أرجح. ونقول: تَرَجَّحَ الرأيُ عنده، غَلَبَ على غيره.
والترجيح: تغليب رأي على غيره.
والترجيح: التفضيل ولا يكون إلا بما يقوِّيه وهو على أنواع ثلاثة:
1- الترجيح بين المصالح والمفاسد: إذا وجدتا معاً، بحيث نعلم متى نُرجِّح درء المفسدة على جلب المصلحة، ومتى يُتسامح بالمفسدة من أجل المصلحة من حيث الكم والكيف والبعد والزمن.
2- الترجيح بين المفاسد والمفاسد: من حيث كمّها وكيفها، ومن حيث بُعدها وأثرها، ومن حيث ديمومتها وزمنها، وأيها يقدم أو يؤجل أو يُرضى به، أو يعارض لدفعه. وإن كان لا بد من ارتكاب مفسدة فأيها أخف ضرراً، وأهون حملاً، والمفسدة الخاصة تُحتمل من أجل دفع المفسدة العامة، والمفسدة الأدنى يُصبر عليها، لرفع المفسدة الأعلى، وهكذا.
3- الترجيح بين المصالح والمصالح: ويكون بالحيثيات السابقة، وأيها يُلغى أو يُعتمد، وأيها يُسعى إليه، ويُصطفى أولاً، وأيها يُعجل أو يُؤجل.
فالمصلحة العليا مقدمة على المصلحة الدنيا، والمصلحة الخاصة تُفَوَّت وتُعَوَّض من أجل المصلحة العامة، والمصلحة الطارئة لا يُعتد بها أمام المصلحة الدائمة، والمصلحة التي تهتم بالمضمون راجحة على المصلحة التي تهتم بالهيئة والشكل، والمصلحة التي هي أقرب إلى اليقين على المصلحة التي هي أقرب إلى الشك والريبة، والمصلحة القريبة من حيث الزمن على المصلحة البعيدة الزمن، والمصلحة الحقيقية على المصلحة الموهومة.
وهذه بعض الأمثلة من القرآن الكريم:
- الترجيح بين المفاسد والمفاسد:
أ. قال تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا” [البقرة: 217]. ب. قال تعالى: “أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا” [الكهف: 79]. - الترجيح بين المصالح المعنوية والمصالح المادية:
قال تعالى: “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” [الأنفال: 67]. - الترجيح بين المفاسد والمصالح:
قال تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا” [البقرة: 219].
إن غيابنا عن فقه الترجيح والموازنات يسد علينا الكثير من أبواب الفسحة والسعة والرحمة بأنفسنا في أشد الأوقات وأصعب الأزمات، على مستوى الفرد والجماعة والأمة والإنسانية، وعلى مدى الحاضر والمستقبل، وعلى مساحة الوطن والإقليم والعالم، وما لا يتم أمر المسلمين إلا به فهو أمر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإلا فهو سنة مؤكدة أو مستحبة أو مباحة أو … .
ونبدأ بهذا البحث مستعينين بالله سبحانه:
إن الأفعال التي يُراد القيام بها من بني البشر، لا يمكن إعطاؤها حكم المشروعية أو عدم المشروعية إلا بعد النظر في النتائج التي تترتب عليها هذه الأفعال، والمسمى بـ (فقه الموازنات والترجيح)، الذي يعني النظر فيما تُفضي أو تؤول إليه الأفعال من نتائج، فإذا كانت النتيجة الحاصلة أو المترشحة من الفعل تشير إلى رجحان المصلحة بقي الفعل على مشروعيته، وإذا كانت النتيجة الحاصلة من الفعل الظاهر فيها رجحان المفسدة على المصلحة دلَّ الفعل على عدم المشروعية، ولو تساوى مقتضى الرجحان بين المصلحة والمفسدة، فالمعوّل عليه في هذه الحالة هو الإباحة، وهذا ما ذهب إليه علماء الأصول.
يقول الإمام الشاطبي: “ليس في الدنيا محض مصلحة ولا محض مفسدة والمقصود للشارع ما غلب منهما”.
فالأفعال من بني البشر إذا أدت إلى ما يُناقض قصد الشارع الحكيم، صارت غير مشروعة، ومبدأ الموازنات في الأحكام نراه جلياً في الخبر الذي رواه النعمان بن بشير عن النبي ﷺ قال: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً” [البخاري في صحيحه].
هذا القول عن رسول الله ﷺ يُلقي ضوءاً مهماً على الكيفية التي يتم بها بناء الأحكام في الشريعة (وهو من مقاصدها الأساسية) فالنظر بمآل الفعل (بنتيجة الفعل) عند من هم في أسفل السفينة لو أرادوا خرقها حتى لا يُؤذوا من فوقهم، رجحانُ المفسدة على المصلحة، ولذلك قال ﷺ: “فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً”. فما كان مشروعاً لمن في أسفل السفينة أصبح غير مشروع وممنوعاً لأن المفسدة تربو على المصلحة هنا، وهذا ما يسمى بـ (فقه الموازنات والترجيح).
وهذا القول يقودنا إلى الكثير من الأدلة والأمثلة في القرآن الكريم التي توضح فقه الموازنات والترجيح وهو مقصد من مقاصد الشارع الحكيم سبحانه:
- كما في قوله تعالى: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [الأنعام: 108].
قبل أن نأتي على ما في هذه الآية من فقه الموازنات والترجيح من خلال ما رواه بعض الصحابة الكرام من المناسبات الزمانية والمكانية والشخصية والجماعية التي نزلت فيها الآية القرآنية السابقة بياناً لحكم فيها، نقف عند لفظ “وَلَا” الناهية في قوله تعالى: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ” ودلالته من حيث المعنى على الوجوب، في رفض السبّ من حيث هو بذاته، ودعوته إلى المبدأ النابع من القيم التي يعتمدها النص القرآني في بناء الشخصية الإنسانية على أساس احترام ما يتبناه الآخر في القضايا الفكرية والاعتقادية.
قبل أن نستأنس بأخبار الصحابة الكرام فيما يتعلق بهذا النص، نقول: النهي هو ثاني عمودين تقوم عليهما الآيات القرآنية، وهما: الأمر والنهي، أرساهما تعالى في قوله: “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا” [الحشر: 7]. وفي قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” [النحل: 90]. ورأس الأمر هو الأمر بعبادة الله الواحد الأحد، قال تعالى: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللَّهِ” [التوبة: 31]. ورأس النهي هو النهي عن عبادة الأوثان، قال تعالى: “ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ” [الحج: 30]. والنهي هو ثاني نواظم السلوك الإنساني والقيم البشرية في القرآن الكريم.
نقف على سبيل المثال عند بعض النواهي ومنها:
- قوله تعالى: “لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا” [الإسراء: 22]، وهو النهي عن الشرك.
- قوله تعالى: “وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا” [الإسراء: 29]، وهو النهي عن التقتير والتبذير.
- قوله تعالى: “وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ” [الإسراء: 31]، وهو النهي عن قتل الأولاد، مع ملاحظة أن بيع الأولاد أو رميهم في الشوارع، وإهمالهم أو حرمانهم من الرعاية والعناية يدخل تحت عنوان القتل.
- قوله تعالى: “وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا” [الإسراء: 32]، وهو النهي عن تغليب الشهوات المحرّمة في العلاقات الجنسية الذي يؤدي إلى إفساد المجتمع.
- قوله تعالى: “وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ” [الإسراء: 33]، وهو النهي عن قتل كل ذي نفس إلا بالحق، مع ملاحظة أن هذا النهي لا يقتصر على قتل البشر، فإن الحيوان والنبات يدخلون تحت حكم الآية بمنظارها العريض.
- قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ” [الحجرات: 1]، وهو النهي عن تقديم القول من سائر البشر على قول الله ورسوله.
- قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ” [الحجرات: 2]، وهو النهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي.
- قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا” [الحجرات: 12]، وهو النهي عن التجسس والغيبة، وهي أشبه بأكل لحم الأخ لأخيه ميتاً وهو كاره له، وما في هذا النهي من دعوة إلى التقوى التي هي أُمُّ العبادات ورأسُ القيم.
نعود بعد هذا الاستطراد إلى الآية القرآنية: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [الأنعام: 108].
روى قتادة قائلاً: إن المسلمين كانوا يسبّون أوثان المشركين (الكفار) وآلهتهم، فيردُّ المشركون عليهم، بسبِّ الله سبحانه وتعالى – لأن المشركين قوم جهلة لا علم لهم بالله -، فنهى الله عن ذلك. يقول ابن عباس: إن المشركين قالوا: لتنتهين يا محمد عن سبِّ آلهتنا أو لنَهجُوَنَّ ربَّك. فنزل قوله تعالى: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ” فنهى النبي ﷺ عن ذلك بنهي الله سبحانه في الآية الكريمة السابقة. فالمصلحة الناتجة عن سبّ الأصنام والأوثان لا تتناسب مع المفسدة التي يؤدي إليها ذلك الفعل.
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال: “من الكبائرِ شَتْمُ الرجلِ والديهِ”، قالوا يا رسول الله: وهل يَشْتُمُ الرَّجُلُ والديهِ؟ قال: “نعم، يسبُّ أَبَا الرجلِ، فيسبُّ أَبَاهُ، ويسُبُّ أُمَّهُ، فيسبُّ أمه”.
- كما في قوله تعالى: “… فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” [النساء: 12].
لا بد لنا هنا قبل التكلم عمّا تحويه هذه الآية من تعريف الوصية، ومن بيان معنى ودلالة الوصية أيضاً فيها، فنقول:
الوصية لغةً: ما يُوصى به، وجمعها وصايا.
ونقول: أوصى إليه، وله، بشيءٍ، أي جعله له.
والوصية شرعاً: هي التمليك المستفاد منها بعد الموت.
والوصية معنى ودلالةً: هي التواصل الإنساني والترابط الاجتماعي.
أما الآيات التي ورد فيها لفظ (الوصية) فهي:
- قوله تعالى: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ” [البقرة: 180].
- قوله تعالى: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أنفسهنَّ بالمعروف ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” [البقرة: 234].
- قوله تعالى: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ” [البقرة: 180].
- قوله تعالى: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ” [البقرة: 240].
- قوله تعالى: “فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” [البقرة: 182].
- قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة: 62].
وقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ” [المائدة: 106].
أما الأخبار التي ورد فيها لفظ (الوصية) فهي المروية عن ابن عمر وجابر وأبي هريرة رضي الله عنهم. قال ابن عمر: (ما مرّت عليّ ليلةٌ منذ سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك إلا وعندي وصيتي).
والوصية من الأمور التي يصح فيها للموصي أن يغيّرها، أو يرجع عمّا شاء منها، أو يرجع عمّا أوصى به في حياته. وتستحق الوصية للموصى له بعد موت الموصي، وبعد سداد الديون، فإذا استغرقت الديون بأنواعها التركةَ فليس للموصى له شيء. وتصح الوصية المشروطة بشرطٍ ما لم يكن منهيّاً عنه، أو منافياً لمقاصد الشريعة.
وللموصي، والموصى له، والموصى به، شروطٌ لا بد منها حتى تصح الوصية، وهي مذكورة في مظانّها. والوصية هي هبة من الإنسان عيناً أو ديناً أو منفعةً لإنسانٍ آخر بعد موته.
ومشروعيتها من السنة ما رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ أنه قال: “ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده”.
ويروي أبو هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: “إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ستين سنة ثم يحضره الموت فيضر في الوصية فتجب له النار”، ثم قرأ أبو هريرة: “فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” [النساء: 12].
أما حكم الوصية، فيقول الأئمة والفقهاء المتقدمون بأن حكمها يختلف باختلاف الأحوال الخاضعة لطبيعة الظروف المكانية والزمانية الحافّة بها، فقد تكون واجبةً وقد تكون مستحبةً، وقد تكون مكروهةً حيناً وقد تكون محرمةً حيناً آخر، وقد تكون باطلةً.
- تكون واجبةً: إذا كان على الإنسان حقٌّ شرعي يخشى أن يضيع إن لم يُوصِ بهِ، كوديعةٍ بغير إشهادٍ أو دينٍ لله سبحانه عليه (زكاة لم يؤدها)، أو حجٍّ لم يقم به، أو دَيْنٍ عليه لإنسانٍ لا يعلمه غيره.
- وتكون مستحبةً: في القُرُبَاتِ والصدقات النافلةِ.
- وتكون مكروهةً: إذا كان الورثة يحتاجون إليها.
- وتكون محرمةً: إذا كان فيها إضرارٌ بالورثة، وتجاوزت الثلث، إلا إذا أجاز الورثة ذلك.
- أما الباطلة: فلا تصح لوارث (باطلة عند بعضهم وجائزة بقول آخرين ولكلٍ حُجَّتُهُ ودليلُهُ من القرآن الكريم).
والتصرف بثلث المال حقٌّ مشروع فإذا قصد به الموصي في حياته الإضرار بالورثة صار غير مشروع عند بعض الأئمة وفريق من الفقهاء. وهو قياس الأولوية في مذهب الإمام أحمد ورواية عن الإمام مالك واجتهاد الأئمة المتأخرين مثل (الشاطبي وهو مالكي) و(ابن تيمية وابن القيم وهما من الحنابلة).
ومن الأخبار قول أبي أمامة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في خطبته عام حِجَّةِ الوداع: “إن الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصية لوارث”. ولنا في الوصية لوارثٍ قولٌ يمكن الرجوع إليه تحت عنوان: (لا للتوسّع في محلِّ ومفهوم النسخ في الوصية).
وفي الخبر عن سعد بن أبي وقاص قال: مرضتُ عام الفتح مرضاً أشفيت على الموت، فأتاني رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله أفَأُوصي بمالي كله؟ قال: “لا”. قلتُ: فَثُلُثَيْ مالي؟ قال: “لا”. قلتُ: فالشَّطر – النصف -؟ قال: “لا”. قلت: فالثُّلُثُ؟ قال: “الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ. وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلى فِيِّ امْرَأَتِكَ” [متفق عليه].
وابن عباس يقول في الوصية: الإضرارُ في الوصية من الكبائر، لِقَوْلِ رسول الله ﷺ: “لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ”. ونلحظ في هذا الخبر نفي الضرر حتى المتصوّر منه، والضرر والضرار ضد النفع، وهو كُلُّ ما فيه مكروه أو أذى يلحق أو ينزل بالإنسان، واختلف العلماء في معنى ومدلول اللفظتين.
ونخلص إلى القول: بأن آية الوصية من سورة النساء/12/ وغيرها تبيّن بأن الوصية إذا خرجت إلى الإضرار بالآخرين من الورثة تصير غير مشروعة، عملاً بقاعدة (فقه الموازنات والترجيح).
- كما في قوله تعالى: “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۖ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” [البقرة: 233].
تُبيّن هذه الآية الكريمة بأن الرضاع حق طبيعي تقوم به الأم نحو وليدها رفقاً به، ولا يجوز انتزاع هذا الحق منها إضراراً بها، وذلك بانتزاع ولدها منها. يقول الإمام القرطبي: “ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع وهذا قول جمهور المفسرين”.
والرضاع مثلاً في المذهب الحنفي واجبٌ على الأمّ: “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ”. كما أنه على الأم أن لا تأبى الإرضاع إلا عن عجزٍ ولا تُجْبَرُ عليه حين يؤول إلى ضررها “لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا”. وكذلك لا تأبى الأم الإرضاع إضراراً بأبيه “وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ”، فالنظر بفقه الموازنات والترجيح في بناء الأحكام مقصد من مقاصد الشارع الحكيم سبحانه وهو واضح لا لَبْسَ فيه.
- كما في قوله تعالى: “وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ” [البقرة: 231].
محطُّ الشاهد في قوله تعالى: “وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا” حيث وضع سبحانه حق مراجعة الزوجة في يد الزوج بعد الطلاق الرجعي، ولكن الله منعه من أن يتخذ من هذا الحق وسيلةً للإضرار بالزوجة، ويكون آثماً إنْ فَعَلْ، فلا يحل له أن يُمسكها إلا إذا أراد الإصلاح، وهذا ما يسمى النظر بمآلات الأفعال في بناء الأحكام، وهو من مقاصد الشارع الحكيم سبحانه وتعالى.
- كما في قوله تعالى في قصة موسى وعبدٍ من عباده عليهما السلام:
“فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” [الكهف: 71-82].
نعود لنكرر ما قلناه في بداية بحثنا هذا قائلين: إنّ الأفعال التي يُراد القيام بها من بني البشر، لا يمكن إعطاؤها حكم المشروعية أو عدم المشروعية إلا بعد النظر في النتائج التي تترتب على هذه الأفعال، وهذا ما يسمى (فقه الموازنات والترجيح). وخلاصة المسائل الثلاث في الآيات الكريمة السابقة من سورة الكهف تبيّن بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ أنه حين يتعارض ضرران يجب تَحَمُّلُ الأدنى لدفع الأعلى. فلو لم يعب العبد الصالح تلك السفينة بالتخريق لغَصَبَها الملك وفاتت منافعها، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه في دينهم ودنياهم، ولأنَّ المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضرراً من سقوطه، إذ بالسقوط كان يضيع مال أولئك الأيتام، إذ الملاك في الآيات الثلاث حماية الإنسان.
ومُجمل الأمر في ذلك، أنَّ الله أطْلَعَ ذلك العبد الصالح من عباده على بواطن الأشياء وحقائقها في أنفسها، قال تعالى: “فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا” [الكهف: 81]. وهو سبحانه الذي علَّمه من بعض علمه بما ستفضي إليه وما ستؤول إليه أفعالهُ من نتائج ترجح فيها المصلحة على المفسدة، كما أخبرَ ذاك العبدُ نبيَّ اللهِ موسى عليه السلام أنَّ ما فعله لم يكن عن رأيٍ منه، ولا من تلقاء نفسه، بل فعله بأمرٍ من الله، لأنَّ تنقيصَ أموال الناس وإراقة دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنصِّ القاطع، قال تعالى: “وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي” [الكهف: 82]. أي: هذا الذي ذكره العبدُ الصالحُ لِنَبِيِّ الله موسى عليه السلام من الأسباب التي من أجلها فَعَلَ الأفعالَ التي استنكرها، هو بيانُ ما تؤول إليه الأفعال التي ضاقَ بها ذرعاً موسى عليه السلام، ولم يصبر حتى يُخبرهُ بها العبدُ الصالح ابتداءً.
نستطيع أن نقول ختاماً: إن الله سبحانه لم يُطلع ذاك العبد الصالح على مجمل بواطن الأمور والأشياء وحقائقها، إلا في هذه القضايا، التي كانت مثار تعجّبِ نبي الله موسى عليه السلام، لِعِلَّةٍ يطول شرحها الآن.