الشيخ الدكتور إحسان بعدرانيالمكتب الدينيبحوثبحوث ودراساتدراساتسلسلة القراءة المطلوبة (6)

القَدَرُ، وفقه القَدَر د. إحسان بعدراني

كل شيء في هذا الكون يجري بقدر، والإنسان يدفع القدر بقدَر أحبّ إلى الله، والقدَر هو السنن (الثابتة) التي لا تتبدل والتي تحكم هذا الكون بما فيه، منها ما هو ضمن إطار معرفة الإنسان، ومنها ما هو خارج عن هذا الإطار، ومنها ما يدخل في استطاعة الإنسان، ومنها ما هو خارج من استطاعته، وهذه المعرفة وهذه الاستطاعة هي المتغيرة حسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص في هذه الحياة.
قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [ سورة القمر: 49].
ومن الفهم الخاطئ للقدر، أن كلّ ما يجري في الكون الماديّ والبشري والإنساني مقضيٌّ ومقدّر من عند الله، وعلينا أن نرضى به، وهذا ما أشاعه أصحاب الاستبداد، من أجل تسويغ حكمهم، وإلقاء ثوب المشروعية عليه، وهنا نستشهد بقول ابن تيمية: (ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله آية واحدة ولا حديث، يأمر العباد أن يرضوا بكلّ مقضيّ مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها، فهذا أصلٌ يجب أن يعتنى به، ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله).
وقوله يعني: الرضا بشرع الله أمر مطلوب، وعدم الرضا بأفعال العباد أمر مطلوب أيضاً، لأنها قابلة للدراسة والمراجعة والبحث والمناقشة.
والإيمان بالقدر لا يدعو صاحبه إلى ترك العمل بسنن الله في الكون والحياة، محتجّاً به، ومتخذاً إياه عذراً لقعوده وتكئة لتكاسله، وإنما عليه أن يتعامل معه بحسب معرفته وبحدود استطاعته وما يملكه من الأسباب، ولو وقع دون إرادته، لأنه يؤمن أنّ القوانين هي التي تحكم الكون، وأنها قابلة للتسخير بعد اكتشافها بإذن من الله سبحانه.
الإنسان المؤمن بالقدر هو الذي يبحث عن الأسباب التي أدت إلى وقوع القدر حتى يتجنبّها وحتى يتجنب آثارها.
((لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْن)) [رواه البخاري].
((اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ)) [رواه مسلم].
سئل رسول الله صلىالله عليه وسلم: أرأيت رُقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاٌ؟ قال: ((هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ)) [حديث مرفوع].
مما أورد الإمام النووي في كتابه “رياض الصالحين” عن ابن عباس حديث خروج عمر بن الخطاب إلى الشام، حين لقيه أبو عبيدة بن الجراح ومن كان معه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فاختلف الصحابة فيه، فنادى عمر في الناس: (إني مصبح على ظهر – أي دابة للنقل -فأصبحوا عليه)، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفِراراً من قدر الله؟ قال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة – وكان عمر يكره خلافه لمكانته الخاصة في الإسلام وعند رسول الله -، ثم قال: نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت وادياً له عدوتان -هضبتان-، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رَعَت الخصبة رعتها بقدر الله، وإن رعت الجدبة رعتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله يقول: ((إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارَاً مِنْهُ)) فحمد الله تعالى عمرُ وانصرف. [متفق عليه ].
إن مما نستنتج من هذا الحديث:
1- أن هذا الأمر من المشكلات الحياتية، وليس من الأمور الدينية، وهو خاضع للاجتهاد.
2- أن الخطأ في هذا الأمر لا ينتقص من إيمان المخطئ شيئاً، وإنما يصيبه ويصيب من معه في أمر دنياهم لجهلٍ في فهم حقيقته، وتنفيذِ ما يجب عمله تجاه هذه الحقيقة وما ينتج عنها من آثار سلبية، وهذا ما وقع لأهل المدينة عندما تركوا تأبير النخيل ظناً منهم أن قول رسول الله بعدم التأبير -التلقيح- حين سألوه وَحْيَاً؟، فتركوا التأبير، فكان تأثيره سيئاً، فقال: ((إِنَّا ظَـنَـنَّا ظَنَّاً فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَنِّ)) إلى أن قال: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)) [رواه مسلم من حديث عائشة وأنس ]، وهذا ما وقع لأصحاب رسول الله أيضاً وهو فيهم يوم أحد، حين ترك الرماة موقعاً أمرهم رسول الله أن يلتزموه، فهُزم الصحابة الكرام وفيهم رسول الله بدلالة قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَالله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140-141].
3- في العمل الدنيوي، وفي معالجة أمر من أمور الحياة التي تقوم على سنن الله في الكون يخضع له أبناء آدم مؤمنهم وكافرهم دون تمييز.

4- إن الخطأ في أمر من أمور الدنيا، عقوبته تصيب صاحبه، أو أصحابه، من أبناء آدم جميعهم على حد سواء، على مقدار ونسبة الجهل في هذا الأمر، قال تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) [النساء: 123].
يقول ابن تيمية: (كما أن الناس قد يُبتلون بمُطَاعٍ يظلمهم ويقصد ظلمهم، قد يُبتلون أيضاً بِمُطَاعٍ يجهل مصلحتهم الشرعية والكونية فيكون جهل هذا من أسباب عقوبتهم، كما أن ظلم ذاك من أسباب مضرتهم) [الفتاوى ج 14 ص 155].
ومما وردَ عن ابن تيمية في الرزق حين سُئِلَ عنه قوله: (الرزق نوعان: أحدهما، ما علمه الله أنه يرزقه فهذا لا يتغيّر. والثاني، ما كتبه وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب).
ومنها قوله: (الذي قدّره – أي الله – بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب. وما قدره له بغير اكتساب – كموت مُوَرِّثِه – يأتيه بغير اكتساب).
وقوله: (السعي سعيان: سعيٌ فيما نُصب للرزق، كالصناعة والزراعة والتجارة، وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك: ((وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيْهِ)) [صحيح مسلم ].
والإحسان إلى الخلق وهو نوعٌ من السعي يجعل الإنسان بعيداً عن مصلحته الفردية متجهاً نحو المصلحة العامة، وحينئذ يكون النفع مردوده للفرد كما يكون للجماعة على حدّ سواء.
نقول: القدر هو السنن التي خلقها الله، وهي ثابتة لا تتبدل:
قال تعالى: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2]. بخواصه وصفاته وهي مسخّرة للإنسان المؤمن وغير المؤمن، بدلالة قوله تعالى: ﴿ كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 20].
وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ [الأعلى: 3].
وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الطلاق: 3].
قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7].
قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَ يُوقَهُ)) [أخرجه الخطيب في تاريخه بإسناد حسن].
ونقول: المسلم يؤمن بالقدر ولا يحتج به تسويغاً لأخطائه وذنوبه، كما فعل إبليس : ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: 16]. وإنما هو على مذهب أبويه آدم وحواء حيث اعترفا بالذنب، ثم تابا واستغفرا: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الأعراف: 23].
القدر هو نتيجة حتمية للأسباب الواقعة المؤدية إليه، سواء أكان ذلك في الأمور المادية أو الأمور المعنوية النفسية، حتى الموت فإنّ له سبباً أو أسباباً. فإذا غابت الأسباب عن الإنسان وقَعَ العقل في التناقض وفقد المنطق.
وأما علمُ الله بالنتيجة الحتمية للإنسان أي بـ (القدر) فهو علم صفةٍ كاشفة لا مؤثرة ولا ملزمة.
قال تعالى: ﴿ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 28].
قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [المزمل: 19] د.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [فصلت: 40].
وأما لغير الإنسان فهو علم جبر، لا اختيار فيه، وذلك بما أودع الله فيها من خواص وصفات لا تخرج عما قدّره لها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى