البحوث والدراساتالمكتب العلميباحث متخصصباحثون مستقلوند. باسل معراوي

مستقبل المساعدات الإنسانية في الشمال السوري

لم يكن الشعب السوري مُعتاداً على تلقي مساعدات خارجية ولم يكن يتبادر لذهنه مفهوم السلّة الغذائية…وكانت كل المساعدات الدولية والعربية تأتي حصراً لنظام الأسد وذلك ثمناً لتأديته أدواراً وظيفية تُطلب منه …
وقد اعتاد نظام الأسد على لَعِب دور البلطجي في المنطقة فقد كان يَكَلّف بأدوار قذرة أو هو يخلق الأزمات والأخطار والتهديدات ويُقدّم نفسه القادر على حَلّها أو ضبطها…
ومن أدواره الوظيفية القذرة دوره على مدى ثلاثين عاماً في الحرب الأهلية اللبنانية وحربه على منظمات المقاومة الفلسطينية وغيرها الكثير ..أما اختلاقه للأخطار فيعود إلى إتجاره بالمخدرات وتسهيل عبورها ودعم الحركات الإرهابية في العالم وتوفير ملاذ آمن لها في سوريا….
وبسبب سياسة نظام الأسد الأب المبنية أساساً على إفقار الشعب لتطويعه وسرقة موارده ونشر الفساد المالي والإداري…. كان أغلبية السوريين يحتاجون لدعم بعض السلع الأساسية عن طريق حكومة النظام ومجانية قطاعات مُهمّة في التعليم والصحة وغيرها وكان يُحارب أي تجمع مدني سوري غايته مساعدة السوريين عبر مساهمات من هم في داخل البلد أو المغتربين الميسورين منهم أو منظمات عربية أو دولية تَهتمّ بهذا المجال…
كانت سوريا التي حكمها آل الأسد واعتبروها مزرعةً لهم تُعاني قبل إنطلاق الثورة السورية مشاكل إقتصادية جَمّة..فاقم ذلك سوء إدارة الملف الإقتصادي والإجتماعي وتَخبّط الأسد الإبن بسياسات ماأنزل الله بها من سلطان وتَشكّل طبقة رأسمالية طُفيلية احتكارية تتألف من تحالف السلطة الأمنية والعسكرية مع التجار وإستباحة البلد وجعل إقتصادها وسيلة للإثراء السريع وغير المشروع عبر الإحجام عن بناء إقتصاد إنتاجي حديث يلزمه بالتأكيد بُنية تحتية لتكون الأساس له…بالطبع لم يتمّ ذلك وكان يُكتفى بإنشاء بعض الجسور والمولات والوكالات التجارية لإستيراد البضائع …ونتيجة سوء الحالة الإقتصادية ( وبعض الظروف الجوية كالجفاف في منطقة الجزيرة عامي 2007—2008 ) تَمّت اهجرة كثيفة من الريف للمدينة للبحث عن راتب شهري من الحكومة أو أي عمل لسدّ الرمق وتشكّلت أحزمة البؤس حول المدن الكبيرة ..دون إعطاء أيّ إهتمام من حكومة النظام لمعالجة هذه الحالة الكارثية…ولاشكّ أنّ لسوء الأحوال الإقتصادية والإجتماعية دور هام في الثورة على النظام وإنتشارها كالنار في الهشيم في أحزمة الفقر والبؤس في المدن ومعظم الأرياف السورية وبقاء حلقات التجار الصلبة في المدن الكبرى موالية للنظام نظراً لمصالحها المتشابكة معه…
واجه نظام الأسد جموع المنتفضين ضِدّه بوحشية مُفرطة وكان هدفه الأول تدمير الحاضنة الشعبية للثورة وبُعدها المدني وذلك بتدمير أسباب صمودها وتمسّكها بأرضها وذلك عبر تدمير كل البنى التحتية الخدمية والإنتاجية ..ودفٌع جموع المواطنين للهجرة إلى الخارج أو الإحتماء بمناطق سيطرته وحرمان الثورة من جمهورها
ساعد السوريون بعضهم في البدايات لتأمين إعالة من نزح من أرضه وترك عمله ..وساهمت دول عربية عبر منظمات في ذلك الدعم الإغاثي والإنساني وأيضاً كانت مساعدات دولية تتدفق للمناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام ..وكانت في أغلبها وفق التعريف الأممي للمساعدات هي الإستجابة الطارئة والمُنقذة للحياة وتَتَضمّن الإيواء في مخيمات أقيمت على عَجَل والرعاية الصحية والسلة الغذائية وتأمين مياه شرب نظيفة وبعض الخدمات البسيطة الأخرى…وكان ذلك إعتبارا من النصف الثاني من عام 2011….وبالطبع لم ترقَ تلك المساعدات للشكل الآخر المُتعارف عليه أممياً وهو ما يُسمّى بالإنعاش المبكر أو التعافي المبكر والذي من شروطه الرئيسية تجميد النزاع وليس حَلّه وهو لم يحصل لحدّ الأن في سوريا حيث لم يَتمّ وضع خارطة طريق للحل السياسي ولأن خطوط القتال لاتَحكمها هُدن رسمية إنما تفاهمات وقتية مصلحية وغير مكتوبة في أغلب الأحيان بين اللاعبين الرئيسيين الإقليميين والدوليين ..وهذه الخطوط عُرضة للإنزياح وتَجدّد الحرب بأيّ لحظة تَتَغيّر فيها موازين القوى على الأرض التي أفرزت تلك الحدود المؤقتة وهي جبهات حقيقية تَسخُن وتَبرُد وتُرسل عَبرها الرسائل بين كلّ الأطراف…
أفرزت سنوات الحرب ال12 مناطق أمر واقع مُتعدّدة ما يَهمّني هنا الحديث عن منطقة شمال غرب سوريا وهي الحاضنة الحقيقية للثورة السورية ومَعقِلها الرئيس والوحيد وأمل إنتصارها في المستقبل وهي سوريا المُصغّرة ويَسكنها كُلّ من ثار على الأسد ورفض الرضوخ له فيما عُرف بالمصالحات فيما بعد.ومنهم من خرج بالترحيل القسري ( بالباصات الخضراء ) …وتَمّتد مناطق شمال غرب سوريا على مساحة 20 ألف كيلومتر مربع( وهي ضعف مساحة لبنان ) ويَقطنها أكثر من 5 ملايين نسمة أكثر من نِصفهم نازحون إليها من مناطق أخرى .. وحسب التصريحات والخطط التركية المُعلنة مُرشّح أن يعود إليها مليون لاجىء سوري من تركيا …
لاتتوفّر في هذه المنطقة أي موارد طبيعية حقيقية بل وفقيرة بالمياه والأراضي الزراعية الخصبة الواسعة وتَنعدم فيها فُرص العمل بسبب غياب أيّ مشروعات إقتصادية حقيقية ولا تَتِوفّر فيها بنية تحتية حقيقية إنما تقوم المجالس المحلية وبدعم من الحكومة التركية وبعض المانحين العرب والدوليين بِشقّ وتعبيد بعض الطرق وتأمين القليل جداً من الحوكمة وعدم إستقرار الحالة الأمنية …
وبشكل عام لايزال 90% من القاطنين فيها تحت خط الفقر ويحتاجون للمساعدة الإنسانية الطارئة للبقاء على قيد الحياة في ظروف سيئة للغاية…
وبسبب طول فترة المأساة السورية والتي سًتدخل في الربيع القادم عامها الثالث عشر ..وهي من أطول فترات المعاناة الانسانية التي عرفها العالم في هذا القرن حتى إنّه لايوجد في الأفق ما يُؤشّر لقرب نهايتها والدخول في مرحلة التعافي المبكر كمرحلة إنتقالية قبل الوصول لمرحلة قُدرة الفرد والمجتمع عن التخلي عن أجزاء كبيرة من تلك المساعدات….ويوجد في عالم المنظمات الإغاثية والدول المانحة ظاهرة تُعرف بملل الداعم أو إنهاك الداعم….حيث يَفتر الحماس لتقديم المساعدة ويَتولّد قناعة تُرضي الضمائر الإنسانية بأنّه قام بما يَتوجّب عليه بل وأكثر …وإنّه توجد مناطق منكوبة أخرى لم تَحظَ بتلك الرعاية التي تَمّ تقديمها للسوريين وهي بحاجة للمساعدة فعلاً…وعلى الغير أن يَتقدّم للحلول مكانه…
وبالطبع واجه السوريون نقصاً في كمية ونوعية المساعدات المقدمة لهم من المانحين الغربيين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا حيث أدّت تلك الحرب إلى نزوح أكثر من 7 ملايين أوكراني خارج بلادهم وهم بحاجة للرعاية وحاجة الكثيرين ممن بقوا في بلدهم للمساعدة ..وهم نفس المانحون الغربيون ونعلم ماذا تُمثّل أوكرانيا للدول الغربية فهي خَطّ الدفاع الأول عنهم وهم بالتالي حريصون على رعايتهم في خارج بلدهم وتقديم الدعم لمن بقي في أوكرانيا لدعم أسباب صموده بأرضه وبالتالي تقوية الحاضنة الشعبية الداعمة للجيش الاوكراني
وبما أنّ الغرب هو أحد طرفي الصراع الدائر حالياً والمتمثل في الحرب على غزة…فمن المعروف أنّ الحقيقة والبشر هم الضحايا الأُوَل للحروب….وبدأت بالظهور للعلن حجم الكارثة الإنسانية التي حَلّت في القطاع …وبما أنّ الدول الغربية حريصة على سُكّان دولة الإحتلال أولاً حيث سَبّبت الحرب وسَتُسبّب الكثير من الأضرار الإقتصادية للدولة العبرية وهناك أكثر من 70 ألف نازح من المستوطنات المحاذية للحدود اللبنانية تركوا منازلهم ويعيشون كنازحين في أماكن أكثر أمناً وهم بحاحة لمساعدة غربية حيث أنّ جُلّ إقتصاد دولة الإحتلال مُوجّه لإكمال العدوان على غزة…
وأيضاً سيقوم المانحون الغربيون بدعم المدنيين في غزة الباقين منهم في القطاع المُدمّر أو الذين مُمكن أن يَتمّ تهجيرهم إلى سيناء أو غيرها ..وتقديم العون للسلطة المحلية التي سينوط بها إدارة القطاع بعد الحرب لأنها ستستلمه مُدمراً بالكامل …
كلّ تلك الأعباء تقع على عاتق المانح الغربي الذي سوف يجد نفسه مُضطراً للتقليل كثيراً من المُخصّصات التي كانت تُقدّم للسوريين …وهي بالأصل لم تكن كافية ويَنخرها الفساد الإداري المحلي…وما على السوررين سوى تَوقّع نقصاً حاداً في كمية ونوعية تلك المساعدات…
وبالطبع لايُمكن إغفال الدور السياسي الذي يَحكم تَدفّق تلك المساعدات…
ففد كان مِلفّ المساعدات الأممية لسورية والذي تمّ إقرار قرارين في مجلس الأمن لقوننتها وهما القرار 2585 و القرار 2672……حيث تَمّ البدء بتلك الآلية لتقديم المساعدات الأممية منذ العام 2014….
وكان السوريون يضعون أيديهم على قلوبهم عند إنتهاء مُدّة صلاحية القرار والبدء بماراثون تفاوضي لتمديده وإدخال تعديلات عليه ويكون قطبي العالم ( الولايات المتحدة وروسيا ) هما المعنيان بذلك وغالبا ما يَتمّ تمريره بعد نيل الروس مكاسب لهم في سوريا أوفي غيرها من الملفات العالقة ببنهما وذلك لعدم إستعمال حَقّ النقض بحقه…وفي صيف العام 2021 احتاج تمديد القرار الأممي لقاء قمة بين الرئيسين بايدن وبوتين في جنيف وكان القرار المذكور على رأس الملفات الدولية التي تَمّ التباحث بشأنها….
ومع القطيعة الروسية الأمريكية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وغياب التفاهم بينهما بدأ القرار يَلفظّ أنفاسه الأخيرة إلى أن أطلق الفيتو الروسي رصاصة الرحمة عليه في الصيف الماضي….ودأب المانحون الغربيون على تحدي الروس والإستمرار في إدخال المساعدات تحت عناوين مختلفة رغماً عنهم ومازالوا…
ولابُد من الأخذ بالحسبان أنّ تلك المساعدات ستتناقص تدريجياً ولابُدّ من البدء بتعافي مبكر سوري وعدم إنتظاره من المانحين …ويَتجلّى ذلك في دعم منظمات المجتمع المدني السورية العاملة في المنطقة وتمويلها عن طريق تبرعات لرجال أعمال سوريين…وهي أو أي هيئة أخرى تتولى إدارة مرحلة التعافي المبكر بتسهيل من السلطات المحلية وبالإستقلال عنها.
وإنّ ترشيد الدعم للسكان ووصوله للشرائح الأضعف من الواجب ان يكون خطة عمل المرحلة المقبلة لتشجيع الجميع على العمل المنتج وتخفيف الإعتماد ( المتدرج ) عن الدعم..
إنّ المبادرات الفردية والتي تحظى بدعم السلطات المحلية لتشجيع الإستثمار في الشمال المحرر وخلق فرص عمل في مشاريع صغيرة ومتناهية في الصغر ومتوسطة وتامين البنية التحتية المادية والقانونية والأمنية هي ضرورة مُلحّة وتصلح ان تكون شعاراً للمرحلة المقبلة ..خاصة أنّ منطقة درع الفرات مشمولة بالإعفاء من قانون العقوبات الامريكي (قيصر) ..مِمّا يَخلُق جَواً يُساعد على إستقدام الرأسمال المحلي والتركي والعربي….
ولاشكّ أنّ كلّ تلك الإجراءات هدفها تحسين ظروف حياة السكان الذين راهنوا على إنتصار الثورة لبناء سوريا الجديدة الحرة بإنتظار الخلاص الكبير وعودتهم لمناطق سكناهم التي أجبرهم عُنف النظام على الخروج منها ..ومن أراد أن يبقى في الشمال فهذا قراره لأنّ سوريا للجميع والشعب السوري واحد .


الكاتب والمحلل السياسي د.باسل معراوي

اظهر المزيد

تعليق واحد

  1. الموضوع شامل ومرجعي .
    إن الشمال السوري ومناطق التهجير القسري ، لم ، ولن ، وسوف لن تكون موطناً بديلاً ولاحلّاً دائما لإقامة كل الذين هُجِّروا من بلدانهم وذكرياتهم وتاريخهم ، يجب ان تبنى فكرة الاهتمام بالشمال على قاعدة التأسيس لأجل استعادة الوطن السليب والأم المغتصبة سوريا الواحدة الموحّدة الحرة الكريمة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى