المكتب العلميدراساتدراسات شؤون الأسرةفريق بحث مكتب شؤون الأسرةقسم البحوث و الدراساتمكتب شؤون الأسرة

عصر ما بعد الحداثة، وتربية الأطفال

مقدمة:

“ما بعد الحداثة” مصطلحٌ يشير إلى فترة تاريخية وفكرية تعقب الحداثة، وتتميز بتعددية الثقافات، والشك في الروايات الكبرى، وتسريع وتيرة التغيير، وتأثير التكنولوجيا على جميع جوانب الحياة.
هذا التحول العميق في المجتمع يؤثر بشكل كبير على تربية الأطفال، ويطرح تحديات جديدة أمام الآباء والمربين، وذلك بسبب عصرنا الذي لا يشبه العصور السابقة بأي حال.

إذ إن أبرز سمات زمن ما بعد الحداثة من حيث تأثيرها على التربية:

  1. التعددية الثقافية: حيث يعيش الأطفال في عالم متعدد الثقافات، مما يجعلهم يتعرضون لأفكار وقيم متنوعة. هذا التنوع يثري تجربتهم، ولكنه يطرح تحديات في تحديد هوية الطفل وقيمه الأساسية.
  2. التكنولوجيا: فلقد أصبحت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من حياة الأطفال، مما يوفر لهم فرصًا للتعلم والتواصل، ولكنها تثير أيضًا مخاوف بشأن الإدمان والعنف الإلكتروني.
  3. السرعة والتغيير المستمر: إذ تتغير القيم والمعايير الاجتماعية بسرعة كبيرة، مما يجعل من الصعب على الأطفال أن يبنوا صورة ثابتة عن العالم.
  4. النسبيّة والمعرفة: حيث يتم التشكيك في الحقيقة المطلقة والمعرفة المحددة، مما يجعل من الصعب على الأطفال بناء نظام قيمي ثابت.

سورية وسؤال المكانة الحداثوية:

طرح السؤال حول أي مرحلة تمر بها سورية حاليًا هو سؤال معقد يتطلب تحليلًا متعمقًا للوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي المعقد الذي تمر به البلاد.
لتبسيط الأمر، يمكننا القول أن سورية تعيش حالة من التداخل بين الحداثة وما بعد الحداثة.
اما عن الحداثة: فلا تزال آثارها واضحة في سورية، مثل السعي نحو التحديث والتطور، وتبني بعض المفاهيم الحديثة في التعليم والسياسة.
وأما ما بعد الحداثة: ففي الوقت نفسه، تشهد سورية العديد من سمات ما بعد الحداثة، مثل التعددية الثقافية، والشك في الروايات الكبرى، وتسريع وتيرة التغيير، وتأثير التكنولوجيا.

أسباب هذا التداخل:

  1. الحرب والنزوح: أدت الحرب السورية إلى تدمير البنية التحتية وتشريد الملايين، مما أدى إلى تراجع في العديد من المجالات، ولكن في الوقت نفسه، دفعت هذه الأزمة إلى ظهور أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي والتضامن.
  2. التأثيرات الخارجية: تتأثر سورية بشكل كبير بالتطورات العالمية، مثل العولمة وتكنولوجيا المعلومات، مما يساهم في تسريع وتيرة التغيير.
  3. التنوع الثقافي: تتميز سورية بتنوع ثقافي كبير، مما يخلق بيئة حاضنة للتعددية والاختلاف.

هل هذا الوضع قسري أم ذاتي؟

هذا سؤال صعب الإجابة، فالحقيقة هي مزيج من الاثنين:

  1. فالتداخل الحداثوي في سورية قسري من جهة، حيث فرضت الحرب والنزوح والصراعات السياسية واقعًا جديدًا على السوريين، مما أجبرهم على التكيف مع ظروف صعبة.
  2. وذاتي من جهة ثانية، إذ في الوقت نفسه، استجاب السوريون لهذه التحديات بطرق مبتكرة، مما يدل على قدرتهم على التكيف والتغيير.

إن فهم المرحلة التي تمر بها سورية يساعدنا على:

  1. تحليل الأسباب الكامنة وراء المشاكل التي تواجهها.
  2. تطوير استراتيجيات أكثر فعالية للتعامل مع هذه المشاكل.
  3. البحث عن حلول مستدامة لبناء مستقبل أفضل لسورية.

يمكن القول أن سورية تعيش في حالة انتقالية معقدة، حيث تتداخل سمات الحداثة وما بعد الحداثة، هذا الوضع يفرض تحديات كبيرة، ولكنه يفتح أيضًا آفاقًا جديدة للابتكار والتغيير.

تربية الأطفال في زمن ما بعد الحداثة (تحديات وفُرص) :
يشكل تربية الأطفال في عصرنا الحالي، المتميز بالسرعة والتغير المستمر والتكنولوجيا المتقدمة، تحديًا كبيرًا للآباء، لهذا يتسائل كثير من الأهل عن كيف يمكننا تربية أطفالنا ليكونوا مواطنين صالحين ومتوازنين في عالم ما بعد الحداثة؟

التحديات التي تواجهنا:

  1. التكنولوجيا: انتشار الأجهزة الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي يجعل من الصعب ضبط وقت الأطفال على هذه الأجهزة وتوجيه اهتمامهم نحو أنشطة أخرى.
  2. التعددية الثقافية: التعرض لثقافات مختلفة عبر الإنترنت والوسائل الإعلامية قد يؤثر على هويتهم وقيمهم.
  3. السرعة والتغيير المستمر: يصعب على الأطفال التأقلم مع التغيرات المتسارعة في العالم من حولهم.
  4. فقدان الهوية: قد يشعر الأطفال بفقدان الهوية بسبب التعددية الثقافية والتأثيرات الخارجية.

تحديات إضافية تواجه التربية في سورية:

  1. نقص الموارد، حيث يعاني النظام التعليمي في سورية من نقص في الموارد المادية والبشرية.
  2. النزوح واللجوء حيث أدى النزاع إلى نزوح وتشريد الملايين، مما أثر سلبًا على استقرار حياة الأطفال.
  3. انتشار الأفكار المتطرفة أيضا يشكل تهديدًا على تربية الأطفال.

وعن كيفية مواجهة هذه التحديات، نرى بأن ذلك يعتمد على عدة محددات:

  1. التواصل المفتوح:
    • أ. الحوار المستمر يوميًا للتحدث مع الأطفال عن يومهم ومشاعرهم وأفكارهم.
    • ب. الاستماع الفعال للأطفال باهتمام دون مقاطعة، ومع تقدير آرائهم.
    • جـ. طرح الأسئلة وتشجيعهم على التفكير النقدي من خلال طرح أسئلة مفتوحة.
  2. الحد من استخدام التكنولوجيا:
    • أ. وضع قواعد وأوقاتًا محددة لاستخدام الأجهزة الإلكترونية.
    • ب. الأنشطة البديلة وتشجيع الأطفال على ممارسة الأنشطة البدنية والهوايات الأخرى.
    • جـ. القدوة في استخدام التكنولوجيا بمسؤولية.
  3. بناء الهوية:
    • أ. التعرف على الجذور وتعريف الأطفال بتاريخ عائلتهم وثقافة مجتمعهم.
    • ب. القيم المشتركة وغرس القيم الأخلاقية والإنسانية في نفوسهم.
    • جـ. التنوع الثقافي من خلال تعريفهم على ثقافات مختلفة واحترم اختلافاتهم.
  4. التعلم المستمر:
    • أ. التعليم المنزلي عبر تشجيعهم على القراءة والتعلم الذاتي.
    • ب. الدورات والأنشطة وورش عمل تطور مهاراتهم وقدراتهم.
    • جـ. إثارة فضولهم حول العالم من حولهم.
  5. التعاون مع المدرسة:
    • أ. التواصل مع المدرسين بشكل مستمر.
    • ب. المشاركة في الأنشطة المدرسية.

إن تربية الأطفال عملية طويلة تتطلب صبرًا وتفانيًا، لهذا هناك ضرورة للتكيف مع التغيرات في سلوك الأطفال واحتياجاتهم.
مع الاعتراف بشخصية كل طفل الفريدة وتشجيعه على تطويرها.
إضافة إلى الاهتمام بالصحة النفسية والجسدية، لأن ذلك يؤثر بشكل مباشر على علاقة الأهل والمربي بالطفل.
ومما يجب ملاحظته أن كل طفل فريد من نوعه ويتطلب نهجًا خاصًا.

ايجابيات:
مرحلة ما بعد الحداثة، مع كل التحديات التي تطرحها، تحمل في طياتها أيضًا بعض الإيجابيات التي يمكن أن تعود بالنفع على تربية الأطفال. بعض هذه الإيجابيات:

  1. التنوع والانفتاح: تشجع مرحلة ما بعد الحداثة على التنوع الثقافي والفكري، مما يعرض الأطفال لآراء وأفكار مختلفة. هذا التنوع يساهم في توسيع آفاقهم وزيادة قدرتهم على التعامل مع الاختلاف.
  2. التفكير النقدي: تشجع هذه المرحلة على التشكيك في الأفكار المسبقة والبحث عن الحقيقة، مما يطور لدى الأطفال مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات.
  3. الإبداع والابتكار: توفر بيئة ما بعد الحداثة مساحة أكبر للإبداع والابتكار، مما يسمح للأطفال بتطوير مهاراتهم الإبداعية والتعبير عن أنفسهم بحرية.
  4. التركيز على الذات: تهتم مرحلة ما بعد الحداثة بتنمية الذات والوعي الذاتي، مما يساعد الأطفال على فهم أنفسهم بشكل أفضل وتقدير قدراتهم.
  5. التواصل والتفاعل: مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح الأطفال أكثر قدرة على التواصل والتفاعل مع الآخرين من مختلف الثقافات، مما يعزز مهاراتهم الاجتماعية.
  6. التعلم المستمر: تشجع هذه المرحلة على التعلم المستمر طوال الحياة، مما يجعل الأطفال أكثر استعدادًا لمواجهة تحديات المستقبل.

لكن يجب التنويه إلى أن هذه الإيجابيات تأتي مع تحديات كبيرة، بالإضافة لما تم ذكره سابقا، مثل:

  1. فقدان الهوية: قد يصعب على الأطفال تحديد هويتهم في ظل التنوع الثقافي الكبير.
  2. الإدمان على التكنولوجيا: قد يؤدي الإفراط في استخدام التكنولوجيا إلى مشاكل صحية ونفسية لدى الأطفال.
  3. نقص القيم المشتركة: قد يصعب على الأسر الحفاظ على القيم المشتركة في ظل التعددية الثقافية.

للاستفادة من إيجابيات مرحلة ما بعد الحداثة وتجنب سلبياتها، يجب على الآباء التوازن بين التقليد والحداثة، وبين الحفاظ على القيم والتقاليد وبين تبني الجديد والحديث.
باختصار، يمكن لمرحلة ما بعد الحداثة أن توفر فرصًا كبيرة لنمو الأطفال وتطورهم، شريطة أن يتم التعامل معها بحكمة وتوازن.

سلبيات:
مرحلة ما بعد الحداثة، ورغم أنها تحمل في طياتها العديد من الإيجابيات، إلا أنها تطرح سلبيات كبيرة على تربية الأطفال. من بعض السلبيات البارزة:

  1. الغموض واللايقين: تسود في مرحلة ما بعد الحداثة حالة من الغموض واللايقين بشأن القيم والمبادئ، مما يجعل من الصعب على الأطفال بناء هوية ثابتة وقيم مشتركة.
  2. التعددية الزائدة: التنوع الثقافي الهائل يمكن أن يؤدي إلى صعوبة في تحديد الهوية الثقافية للطفل، مما يجعله يشعر بالضياع والارتباك.
  3. تأثير التكنولوجيا السلبي: الإفراط في استخدام التكنولوجيا يمكن أن يؤدي إلى الإدمان، ضعف التركيز، العزلة الاجتماعية، والتعرض لمحتوى غير مناسب.
  4. النسبيّة الأخلاقية: قد يؤدي التشكيك في القيم المطلقة إلى تكوين قيم نسبية عند الأطفال، مما يجعل من الصعب عليهم اتخاذ القرارات الصحيحة.
  5. فقدان المعالم: قد يشعر الأطفال بفقدان المعالم الثابتة في الحياة، مما يؤدي إلى الشعور بعدم الأمان والقلق.
  6. صعوبة بناء علاقات عميقة: قد يؤدي الانشغال بالتكنولوجيا والاهتمامات الفردية إلى صعوبة بناء علاقات عميقة ومستقرة مع الآخرين.
  7. الضغوط النفسية: يتعرض الأطفال لضغوط نفسية كبيرة بسبب التوقعات العالية، والمنافسة الشديدة، والتعرض للعنف الإلكتروني.

مرحلة ما بعد الحداثة تحمل تحديات سلبيات لتربية الأطفال، ولكنها توفر أيضًا فرصًا عظيمة، من خلال الوعي بهذه السلبيات واتخاذ الإجراءات المناسبة، يمكن للآباء مساعدة أطفالهم على النمو والتطور في هذا العالم المعقد.

خاتمة:
تعتبر تربية الأطفال في سورية حاليًا تحديًا كبيرًا بالنظر إلى الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد.
ومع ذلك، يمكن للآباء والمعلمين والمربين لعب دور حيوي في توفير بيئة داعمة للأطفال تساعدهم على النمو والتطور بشكل صحي. ومن هنا فإننا في مكتب شؤون الأسرة لِـ تيار المستقبل السوري نوصي بما يأتي:

  • بناء بيئة آمنة ومستقرة عبر:
    • الحماية من الصدمات النفسية قدر الإمكان، وتوفير بيئة آمنة ومستقرة للأطفال.
    • التواصل المستمر بانتظام بين الآباء وأطفالهم والاستماع إلى مخاوفهم وهمومهم.
    • يساعد الروتين اليومي المنتظم على إعطاء الأطفال الشعور بالأمان والاستقرار.
  • تعزيز الصحة النفسية، ويكون عبر:
    • توفير الدعم العاطفي للأطفال، وتشجيعهم على التعبير عن مشاعرهم.
    • تشجيع الأطفال على ممارسة الأنشطة الترفيهية التي تساعدهم على الاسترخاء والتعبير عن أنفسهم.
    • الاستعانة بالمتخصصين إذا لاحظ الآباء أي علامات على اضطراب نفسي لدى أطفالهم، فيجب عليهم التوجه إلى المتخصصين.
  • تنمية المهارات الحياتية، ويكون ذلك عبر:
    • التفكير النقدي وحل المشكلات.
    • تعليم الأطفال أهمية التعاون والتواصل مع الآخرين.
    • تشجيع الأطفال على الاعتماد على أنفسهم واتخاذ القرارات.
  • التعامل مع التكنولوجيا:
    • تحديد وقت محدد لاستخدام الأجهزة الإلكترونية.
    • مراقبة المحتوى الذي يشاهده الأطفال على الإنترنت.
    • تشجيع الأطفال على التفاعل مع العالم الحقيقي بدلاً من العالم الافتراضي.
  • الحفاظ على الهوية الثقافية، عبر:
    • التعليم عن التراث وتعريف الأطفال بتاريخهم وتراثهم الثقافي.
    • الاحتفال بالمناسبات الدينية والوطنية والثقافية.
    • الحفاظ على اللغة الأم وتشجيع الأطفال على تعلمها.
  • التكيف مع التغيرات:
    • تعليم الأطفال كيفية التكيف مع التغيرات والظروف الصعبة.
    • غرس الأمل والتفاؤل في نفوس الأطفال.

وأما عن دور المجتمع:
فنوصي بضرورة ان تلعب المدارس والجامعات دورًا فعالًا في تربية الأجيال القادمة.
كما يمكن للمنظمات غير الحكومية أن تقدم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال والأسر، و نُشدد على دور وسائل الإعلام أن تلعب دورًا إيجابيًا في نشر الوعي بأهمية التربية السليمة.
تعتبر تربية الأطفال في سورية مهمة وطنية، وتتطلب تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، من خلال توفير بيئة آمنة وداعمة، وتنمية المهارات الحياتية لدى الأطفال، يمكننا المساهمة في بناء جيل جديد قادر على إعادة بناء سورية.
وآخرا، إن هذه التوصيات هي مجرد اقتراحات، وقد تختلف الاحتياجات من طفل لآخر ومن أسرة لأخرى، ولكننا حاولنا جمع نتاج ما توصلت إليه نتائج المختصين بقضايا الأسرة والتربية، علنا نساهم في حماية أطفالنا من سلبيات عصرنا الحالي والاستفادة من ايجابياته نحو بناء فرص تُمكننا من عمارة بلدنا المنهار والمدمر، لنرسم مستقبلا آمنا وحرا وكريما للجيل القادم.

مكتب شؤون الأسرة
فريق بحث مكتب شؤون الأسرة
المكتب العلمي
قسم البحوث والدراسات
دراسات
تيار المستقبل السوري

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى