التحولات الاقتصادية في سورية: من الرعوية إلى الحرب
مقدمة:
الدولة الرعوية هي دولة تعتمد بشكل أساسي على إيرادات ثابتة وغير متغيرة، غالبًا ما تكون من موارد طبيعية مثل النفط أو الغاز، لتوفير الخدمات للمواطنين ودعم الاقتصاد، بعبارة أخرى، هي دولة “ترعى” شعبها من خلال توزيع هذه الثروات، بدلاً من الاعتماد على إنتاج اقتصادي متنوع، ومن السمات الرئيسية للدولة الرعوية الاعتماد على مورد واحد، مما يجعل اقتصاد الدولة عرضة لتقلبات الأسعار العالمية، إضافة إلى أن الدولة هي المصدر الأساسي للوظائف، مما يقلل من الحاجة إلى القطاع الخاص، مع نظام رعاية اجتماعية واسع تقدمه الدولة عبر خدمات اجتماعية واسعة النطاق للمواطنين، مثل الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي، ومن السمات أيضا ضعف القطاع الخاص حيث يكون ضعيفًا نسبيًا، لاعتماده على الدولة في الحصول على العقود والامتيازات، كما يكون هناك مستوى مرتفع من الفساد، حيث يتم استخدام إيرادات الدولة لخدمة مصالح النخب الحاكمة، ومن الأمثلة على الدول الرعوية: دول الخليج العربي، بعض الدول الأفريقية الغنية بالنفط وسورية الأسد.
الانتقال من الدولة الرعوية:
تواجه العديد من الدول الرعوية تحديات كبيرة، مثل تقلّب أسعار المواد الأولية، حيث يؤثر انخفاض أسعار النفط أو الغاز بشكل كبير على اقتصاد هذه الدول، إضافة إلى الاعتماد على الخارج الذي يجعل معه الاقتصاد عرضة للتأثيرات الخارجية، كما قد يؤدي غياب المنافسة إلى ضعف الكفاءة الإنتاجية.
لهذا السبب، تسعى العديد من الدول الرعوية إلى تنويع اقتصاداتها والاعتماد بشكل أكبر على القطاع الخاص.
ومما يجب ملاحظته أن مفهوم الدولة الرعوية ليس ثابتًا، وقد تختلف تطبيقاته من دولة إلى أخرى، فهناك العديد من العوامل التي تؤثر على طبيعة الاقتصاد في أي دولة، وليس فقط الاعتماد على الموارد الطبيعية.
الاقتصاد السوري قبل الثورة:
يمكن وصف الاقتصاد السوري قبل الثورة الحالية بأنه كان يعتمد بشكل كبير على نموذج الدولة الرعوية، ولكن ليس بشكل كامل أو مطلق.
ويمكن وصفه بالاقتصاد الرعوي للأسباب التالية:
- الاعتماد على النفط، كان النفط يشكل نسبة كبيرة من الإيرادات الحكومية، مما جعل الاقتصاد السوري عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية، مع غياب النفط من الميزانية الحكومية.
- الدولة كمصدر للوظائف، إذ كانت الدولة توفر معظم فرص العمل للمواطنين، خاصة في القطاع العام، مما قلل من أهمية القطاع الخاص.
- نظام رعاية اجتماعية واسع، من خلال تقديم الدولة خدمات اجتماعية للمواطنين، مثل الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي، بدلاً من تركها للسوق.
- الدعم الحكومي للأسعار، يظهر ذلك بقيام الحكومة بتثبيت أسعار العديد من السلع الأساسية، مما أدى إلى تشوهات في السوق.
ولكن يُنتقد وصف الاقتصاد السوري سابقا أنه ليس وصفًا كاملاً للاقتصاد الرعوي لوجود قطاع خاص، فعلى الرغم من ضعفه (القطاع الخاص) مقارنة بالقطاع العام، إلا أنه كان موجودًا وكان يساهم في الاقتصاد، كما لم يقتصر الاقتصاد السوري على النفط فقط، بل كان هناك إنتاج زراعي وصناعي، وإن كان محدودًا، إضافة إلى تدخل الدولة في الاقتصاد بشكل كبير، ولكن ليس بالدرجة التي تجعل الاقتصاد بالكامل تحت سيطرتها.
باختصار، يمكن القول إن الاقتصاد السوري قبل الثورة كان مزيجًا بين نموذج الدولة الرعوية ونموذج الاقتصاد الموجه، حيث كانت الدولة تلعب دورًا كبيرًا في توجيه الاقتصاد وتوزيع الثروة، ولكن لم تكن تسيطر عليه بشكل كامل.
العوامل التي أدت إلى ضعف هذا النموذج:
يقع على قائمة أسباب فشل نموذج الاقتصاد السوري قبل الثورة (الفساد) الذي انتشر في جميع المستويات، مما أدى إلى هدر الموارد العامة وتقويض الثقة في الحكومة، كما كانت المؤسسات الحكومية تعاني من عدم الكفاءة، مما أدى إلى تبذير الموارد، إضافة لاعتماد الاقتصاد السوري بشكل كبير على الخارج، سواء من حيث الاستيراد أو المساعدات.
أدى هذا الوضع إلى ضعف الاقتصاد السوري وجعله عرضة للصدمات الخارجية، مثل انخفاض أسعار النفط والحرب الأهلية.
اقتصاد الحرب:
هو تحول جذري للاقتصاد الوطني من حالة السلم إلى حالة الحرب. يتم فيه توجيه جميع موارد الدولة ومقدراتها نحو دعم الجهد الحربي وتلبية احتياجاته.
أبرز سمات اقتصاد الحرب، التعبئة الشاملة، حيث يتم حشد جميع الموارد البشرية والمادية والاقتصادية لخدمة الجبهة، كما تتولى الدولة عملية التخطيط والإنتاج والتوزيع بشكل مركزي، وتحدد الأولويات وتوجه الموارد وفقًا لاحتياجات الحرب، إضافة إلى الحد من الحريات الاقتصادية عبر فرض قيود على الحريات الاقتصادية، مثل تحديد الأسعار وتوزيع السلع، وتوجيه الإنتاج نحو الصناعات العسكرية، كما يتم فرض ضرائب جديدة أو زيادة الضرائب الحالية لتمويل الجهد الحربي، واقتصاد الحرب من سماته أن الدول تلجأ إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل الحرب، مما يجعلها رهينة الدول المدينة، كما يتم توجيه الإنتاج نحو الصناعات العسكرية وتلبية احتياجات الجيش، على حساب الصناعات المدنية، وهذا ما رأيناه في سورية بعد ٢٠١٢.
أهداف اقتصاد الحرب:
من أولى أهداف اقتصاد الحرب توفير الموارد اللازمة للجيش عبر توفير الأسلحة والذخيرة والوقود والملابس وغيرها من الاحتياجات العسكرية، والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي قدر الإمكان، رغم الظروف الصعبة.
إضافة إلى رفع الروح المعنوية للمواطنين من خلال التعبئة والتضحية.
آثار اقتصاد الحرب:
من أهم وأخطر هذه الآثار هو تدهور مستوى المعيشة، إذ يؤدي انخفاض الإنتاج المدني وارتفاع الأسعار إلى تدهور مستوى المعيشة للمواطنين، مع نقص السلع الذي يؤدي التركيز على الإنتاج العسكري إلى نقص السلع الاستهلاكية، كما تتراكم الديون على الدولة نتيجة لزيادة الإنفاق العسكري والاقتراض.
اقتصاد الحرب في سورية:
يمكن القول إن الاقتصاد السوري تحول إلى اقتصاد حرب منذ اندلاع الصراع، حيث تم توجيه الموارد نحو الجبهات وتدهور الإنتاج المدني وارتفعت الأسعار بشكل كبير.
ومما يجب ملاحظته أن اقتصاد الحرب هو حالة استثنائية، ويهدف إلى تحقيق هدف محدد وهو الفوز بالحرب، وقد تختلف آليات وتأثيرات اقتصاد الحرب من دولة إلى أخرى ومن حرب إلى أخرى، كما ان اقتصاد الحرب له آثار سلبية كبيرة على المدى الطويل، وقد يستغرق سنوات طويلة للتعافي منها.
ولكن يمكننا القول أن الاقتصاد السوري شهد تحولات جذرية منذ اندلاع الثورة في عام 2011م، حيث انتقل من نموذج الدولة الرعوية، الذي اعتمد على إيرادات النفط والغاز ودعم الدولة للمواطنين، إلى اقتصاد حرب مدمر.
وكان أبرز ملامح هذه التحولات مايلي:
- انهيار الإنتاج، فقد دمرت الصراعات البنية التحتية الصناعية والزراعية، وتسبب النزوح الداخلي والخارجي في نقص العمالة، مما أدى إلى انخفاض حاد في الإنتاج الوطني.
- تضخم جنوني، إذ أدى انخفاض قيمة الليرة السورية وندرة السلع إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية بشكل كبير، مما زاد من معاناة المواطنين.
- الاعتماد على المساعدات والتي أصبح الاقتصاد السوري يعتمد بشكل كبير عليها مع انها لا تكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
- الاقتصاد الموازي الذي انتشر بشكل كبير، حيث لجأ المواطنون إلى التجارة غير الرسمية والقانونية لتأمين احتياجاتهم الأساسية.
- تدهور الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم، مما أثر سلبًا على حياة السوريين.
- تغيرات في هيكل الاقتصاد حيث تحول التركيز من القطاعات الإنتاجية إلى القطاعات الخدمية، وخاصة التجارة والاتصالات.
أسباب هذه التحولات:
دمر الصراع المسلح البنية التحتية والاقتصاد، وتسبب في نزوح واسع للمواطنين، كما فرضت دول غربية عقوبات اقتصادية على النظام السوري، مما ساهم في تدهور الاقتصاد، وكان اتباع الحكومة الأسدية لسياسات اقتصادية خاطئة، أكبر مساهمة في تفاقم الأزمة، كما كان لانتشار الفساد في جميع المستويات السبب الأبرز لتدهور الموارد العامة.
فكان من آثار كل ذلك:
- تفاقم الفقر والبطالة.
- هجرة الأدمغة من الكفاءات السورية إلى الخارج، مما أدى إلى نقص في القوى العاملة المؤهلة.
- تدهور البنية التحتية، مما يتطلب استثمارات ضخمة لإعادة إعمارها.
- تهديد الاستقرار الاجتماعي وتهديد الاستقرار الأمني.
كيفية تخفيف السلبيات التي يواجهها السوريون في ظل اقتصاد الحرب:
يمكن اتباع مجموعة من الإجراءات والتدابير، والتي تختلف باختلاف الظروف والمرحلة التي يمر بها البلد، فعلى المستوى الحكومي (الحكومات الأربعة الراهنة) أن تشدد على توزيع عادل للمساعدات الإنسانية والغذائية بشكل عادل على جميع الفئات المتضررة، مع إيلاء اهتمام خاص للأكثر ضعفاً، وعليها دعم الإنتاج المحلي عبر توفير الدعم للمزارعين والصناعيين، لزيادة المعروض من السلع وتقليل الاعتماد على الاستيراد، مع العمل الممكن والجاد على مكافحة الفساد بكل أشكاله، لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، إضافة لبذل قصارى الجهد الحكومي لتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، مثل المياه والكهرباء والصحة والتعليم، والبدء الحقيقي في التخطيط لإعادة إعمار البلاد بعد انتهاء الحرب، وتحديد الأولويات والمشاريع التي يجب تنفيذها.
أما على المستوى الدولي:
فهناك حاجة لزيادة المساعدات الإنسانية للبلدان المتضررة من الحروب، لتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، مع دعم جهود إعادة الإعمار البنية التحتية المدمرة، وتوفير التمويل اللازم للمشاريع الإنتاجية، والمساعدة على حل النزاعات السياسية بشكل سلمي، لإنهاء الحروب وفتح الطريق أمام التنمية.
وأما على مستوى المجتمع المدني:
فهناك حاجة لتعزيز التعاون والتضامن بين أفراده، وتقديم المساعدات المتبادلة، وتقديم خدمات أساسية للمواطنين، مثل الرعاية الصحية والتعليم والتدريب المهني، مع رفع الوعي حول مخاطر الحرب وآثارها السلبية، وتشجيع الحوار والتفاهم بين مختلف الأطراف.
هناك إمكانية إذا لتخفيف سلبيات اقتصاد الحرب بشكل كبير حتى قبل الوصول إلى السلام الكامل،
عبر الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتخفيف المعاناة الاقتصادية للمواطنين في مناطق النزاع، حتى في ظل استمرار الصراع على أن هذه الإجراءات تهدف إلى:
- الحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات الأساسية مثل توفير المياه والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم، قدر الإمكان.
- دعم الإنتاج المحلي وتشجيع الزراعة والصناعات الصغيرة لتوفير السلع الأساسية وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
- توزيع المساعدات الإنسانية وتوفير الغذاء والدواء والملابس للمحتاجين، مع التركيز على الفئات الأكثر ضعفاً مثل الأطفال والنساء وكبار السن.
- مكافحة الفساد وضمان وصول المساعدات إلى المستفيدين الفعليين دون أي هدر أو فساد.
- العمل على بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة من خلال الحوار والمفاوضات، مما قد يساعد في تخفيف حدة الصراع وتسهيل إيصال المساعدات.
- وتبقى الأهمية من تخفيف سلبيات اقتصاد الحرب بالحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، كما تساعد على منع تفاقم الأوضاع الإنسانية وتجنب المزيد من العنف والنزوح، وتساعد على تهيئة الظروف المناسبة لإجراء مفاوضات سلام ناجحة، كما تساعد على الحفاظ على البنية التحتية القائمة وتجنب تدميرها بشكل كامل.
التحديات التي تواجه تلك الجهود:
- استمرار الصراع يجعل من الصعب تطبيق هذه الإجراءات بشكل مستدام.
- نقص الموارد المالية والبشرية اللازمة لتنفيذ هذه المشاريع.
- الوصول إلى المناطق المتضررة قد يكون صعباً بسبب انعدام الأمن.
- إذا، يمكن القول إن تخفيف سلبيات اقتصاد الحرب هو أمر ممكن حتى في ظل استمرار الصراع، ولكنه يتطلب تضافر الجهود من قبل جميع الأطراف المعنية، سواء كانت حكومية أو دولية أو منظمات مجتمع مدني.
توصيات: الحلول الواقعية لتجاوز سلبيات اقتصاد الحرب في سورية:
تعتبر الأزمة السورية من أعمق الأزمات الإنسانية والاقتصادية في العصر الحديث، وقد خلفت وراءها دمارًا هائلاً وتحديات كبيرة، لتجاوز سلبيات اقتصاد الحرب في سورية هناك مجموعة من الحلول الواقعية التي يمكن العمل عليها بشكل متوازٍ والتي نوصي بها في المكتب الاقتصادي لتيار المستقبل السوري:
أ. الحلول قصيرة المدى:
- زيادة المساعدات الإنسانية والتركيز على توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين مثل الغذاء والدواء والمأوى، وتوسيع نطاق برامج التغذية والرعاية الصحية.
- دعم الإنتاج المحلي وتشجيع الزراعة والصناعات الصغيرة وتوفير القروض والمدخلات الزراعية، وذلك لزيادة الإنتاج وتوفير فرص العمل.
- تثبيت أسعار السلع الأساسية لمنع التضخم ومساعدة المواطنين على تأمين احتياجاتهم.
- مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة في توزيع المساعدات وتنفيذ المشاريع، لمنع الهدر والفساد.
ب. الحلول متوسطة المدى:
- إعادة إعمار البنية التحتية مع التركيز على إعادة إعمار المرافق الأساسية مثل الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس، لتعزيز النمو الاقتصادي وتوفير الخدمات الأساسية.
- تطوير القطاع الخاص عبر تشجيع الاستثمار الخاص وتوفير بيئة جاذبة للمستثمرين، وذلك لخلق فرص عمل وزيادة الإنتاج.
- تنويع مصادر الدخل الوطني، والابتعاد عن الاعتماد على مصدر واحد.
- تعزيز التعاون الإقليمي وبناء علاقات اقتصادية قوية مع الدول المجاورة، وتسهيل حركة التجارة والخدمات.
جـ. الحلول طويلة المدى:
- حل سياسي شامل للأزمة السورية، يضمن انتقالًا سلميًا للسلطة وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
- بناء دولة المؤسسات القوية والتي تحكمها القوانين والأنظمة، وتضمن المساواة والعدالة.
- إصلاح القطاع العام وجعله أكثر كفاءة وشفافية، وتقليل البيروقراطية.
- الاستثمار في التعليم والتدريب لتطوير الكوادر البشرية وتأهيلها لسوق العمل.
مع ملاحظة أن هذه الحلول مقترحات عامة، وقد تحتاج إلى تعديل لتناسب الظروف المتغيرة على أرض الواقع، كما يجب أن يتم تنفيذ هذه الحلول بشكل شامل ومتكامل، مع التركيز على بناء الشراكات بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني، وأن يتم تقييم هذه الحلول بشكل دوري، وإجراء التعديلات اللازمة لتحقيق أفضل النتائج.
عمار العموري
المكتب الاقتصادي
قسم البحوث والدراسات
مقالات
تيار المستقبل السوري