15- الهدف الثابت والوسيلة المتغيرة في القرآن: د.إحسان بعدراني
الإسلام هو ذلك المنهاج الثابت الذي أرساه الله تعالى لسعادة الإنسان وخيره، تدور حوله وبه حياة الأفراد والجماعات.
وبقدر فهم الناس لهذا المنهاج وتطبيقهم لأوامره ونواهيه في مختلف مجالات حياتهم، بقدر ما يستحقون وصف (المسلمين والمؤمنين)، وبقدر ما يحققون المقصد الإلهي الأول من هذا المنهاج، ألا وهو الإنسان وسعادة الإنسان وخير الإنسان ونفع الإنسان.
هذا المنهاج، الذي كمل وتم بما أوحي إلى نبي الله ورسوله محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم في مكة من أرض الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، كله ثوابت، بألفاظه وآياته وسوره، بأوامره ونواهيه، بقوانينه الكونية وسننه التاريخية والاجتماعية ونواظمه السلوكية.
هذا المنهاج -الصراط- هو الذي لا يقبل سبحانه -بعد أن أكمله وأتمه- دينًا غيره من عباده، لقوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].
وإذا كان تعالى قد جعل لكل قوم منهاجًا يهتدون به في سلوكهم وفي حياتهم، حسب قوله سبحانه: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48]، إلا أن القرآن الكريم -الثابت الأول والأهم في الشريعة الإسلامية- جاء جامعًا لكل ما سبقه من مناهج وتشريعات، مصدقًا لها في ثوابتها العامة، وناسخًا لبعض أحكامها بعد أن لم تعد صالحة في ضوء متغيرات الزمان والمكان، وليجيب على تساؤلات طالما شغلت فكر الإنسان: من أنا؟ من أين أتيت؟ وإلى أين أنتهي؟ وما هذا الكون الذي أعيش فيه؟ وماذا أفعل لأصل إلى السعادة؟
ولعلَّ أبرز ما يستوقف قارئ القرآن، هو ما يحويه من مقاصد وأهداف وغايات ثابتة، ومن وسائل وأسباب متغيرة تعين على الوصول إلى هذه الأهداف والغايات، وتساعد على تحقيق تلك المقاصد. يجد أولها في فاتحة الكتاب بقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].
ففي هذه الآية الكريمة مفهومان متلازمان متكاملان، قد يصلح أحدهما بدون الآخر عند الناس، إنما لا يصلح أحدهما بدون الآخر عند الله. إذ بهما معًا يصلح أمر الدين والدنيا، الأول هو العبادة (الهدف) والثاني هو الاستعانة (الوسيلة). وبهما معًا يرتسم الصراط المستقيم المؤدي إلى خير الإنسان وسعادته كهدف نهائي للشريعة الإسلامية.
والعبادة (المعرفة) هدف من الأهداف الأولى في مقاصد الشريعة، بدليل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
أما الاستعانة فوسيلة لتحقيق هذا الهدف.
العبادة مفهوم واسع يمتد ليشمل أفعال الإنسان وأعماله كلها صغيرها وكبيرها، ولا يقتصر -كما يقصره بعضهم- على الصلاة والزكاة والصيام والحج. فهذه وإن كانت عبادات بالمعنى العام، إلا أنها تبقى شعائر وتكاليف بالمعنى الخاص. فالربح الحلال في البيع والشراء عبادة، وإتقان العمل عبادة، وتقوى الله والخشية منه عبادة. ومن هنا فإن الله تعالى يُعبَدُ في الأسواق وفي المصانع والمختبرات، وعلى مقاعد الدراسة ومدرجات العلم، تمامًا كما يُعبَـدُ في الجوامع والمساجد إن لم نقل أفضل، لأن إقامة الشعائر وأداء التكاليف فيها شأن فردي خاص، كالصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، وكالصوم يمرِّن صاحبه على تهذيب الشهوات والوقوف في وجه المغريات.
نرى هنا أن العبادة -الصلاة والصوم مثلًا- أصبحت وسيلة من أجل الوصول إلى هدفٍ آخر، ألا وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وتهذيب الشهوات والوقوف في وجه المغريات.
أما التعبد بمعناه الواسع فهدفٌ عامٌّ يمتد أثره وتأثيره ليشمل جوانب الجماعة والمجتمع والإنسانية كلها.
قال الشاعر:
لا يفخرنَّ أخو التَّنسك بالزهادة والعبادة
أنا في اعتقادي كُلُّ فِعلِ الواجبات من العبادة
شهمٌ يسود قبيلةً أدى بها حقَّ السيادة
ومعلّمُ الأطفال يبذلُ في رُقيهم اعتداده
وكذاكَ راعي الضأن يدفع عن قطيعهم شِراده
كلٌّ يُوفّى عند خالقه غداً أجرَ الإجادة
لقد حدَّدَ سبحانه في آية [الذاريات: 56] الهدف من الخلق بالعبادة، لكنه حين تحدث عن الجوامع والمساجد بيَّنَ أن الهدف من بنائها هو ذكر اسم الله، وذلك في قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور: 36]، ولم يُشِرْ إلى العبادة لأنّ العبادة أي (الصلاة) صارت وسيلة للوصول إلى عبادةِ ذكرِ اسمِ اللهِ. فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10].
فَهِمْنَا أن الانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله سعياً وراء الرزق شكلان من أشكال العبادة ووسيلتان يأمرنا بهما تعالى لعمارة هذا الكون الذي استخلفنا فيه.
وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين لاحظ رجلاً يلتزم المسجد، فسأل فقيل: إنَّ له أخًا يسعى في رزقه ورزق عياله، قال عمر: “إِنَّ أَخَاْهُ لأَعْبَدُ مِنْهُ”.
إن ما قلناه عن اتساع وشمول معنى العبادة، لا بُدَّ أن يقال مثله عن معنى الاستعانة، لأنه مفهوم متلازم مع العبادة، يدور معها أينما دارت، فلا تَصِحُّ عبادةٌ دون استعانة، ولا يمكن الوصول إلى العبادة إلا بالاستعانة.
وإذا نحن فَهِمْنَا هذا، فهمنا معنى قول يعقوب عليه السلام لبنيه، وقد جاؤوه عشاءً يبكون بعد أن ألقوا يوسف في الجب زاعمين أن الذئب أكله: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، أي واللهُ المستعانُ بالصبر الجميل على ما تقولون، وفهمنا معنى قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [البقرة: 45].
الصبر والصلاة عبادتان أي هدفان ولكن حين نستعين بهما يصيران وسيلتين -بدلالة الباء- من أجل الوصول إلى هدفٍ آخر مفهوم من سياق الآيات ألا وهو القدرة على أمرِ أنفسِنا بالبرِّ كما نأمر به الناس.
فالبسملة وسيلة واستعانة بدلالة الباء في قولنا (بسم الله)، والاستعاذة وسيلة واستعانة بدلالة الباء في قولنا (أعوذ بالله) لأمرٍ يريده صاحب البسملة أو التعوّذ، وكذا الأمر في إعدادِ أسباب القوة والمنعة في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) [الأنفال: 60]، فهو أيضاً وسيلة واستعانة، الهدف منها منع الأعداء من التفكير في العدوان وممارسته.
ومن الوسيلة والاستعانة الأخذ بمبدأ الأسباب، والعمل وفق سنن الله في الكون. يقول ابن تيمية: “ما من شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسبب” (الفتاوى ج8 ص70).
ويقول ابن قيِّم الجوزية: “لو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد عن عشرة آلاف موضع. . . وإن أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب. . . وأنت لا تجد كتاباً من الكتب أعظم إثباتاً للأسباب من القرآن” ا .ه.
ونقول: وأنت لا تجد أحداً من البشر أعظمَ إثباتاً للأسباب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَاك حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم: “غَطُّوا الإناءَ، وأَوْكُوا السِّقَاءَ، وأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ، وأَطْفِئُوا السِّراجَ، فإنَّ الشَّيْطانَ لا يَحُلُّ سِقَاءً، ولا يَفْتَحُ بَابَاً، ولا يَكْشِفُ إنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أحدُكُم إلاَّ أَنْ يَعْرِضَ على إِنَائِهِ عُوْدَاً ويَذْكُرَ اسم اللهِ فَلْيَفْعَلْ، فإنَّ الفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ على أهْلِ البَيْتِ بَيْتَهُمْ” [عن جابر بن عبد الله].
أوكوا: اربطوا، يعرض على إنائه عوداً: يُغطي إناءه ولو بقطعة خشبية، الفويسقة: الفأرة.
والتلازم بين العبادة والاستعانة في فاتحة الكتاب بقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، إنما هو في حقيقة الأمر -عند المتدبرين من قرَّاء القرآن الكريم- تلازم بين الهدف والوسيلة، وبين النتيجة والسبب، لا يقوم أحدهما دون الآخر.
فقولنا (إياك) في الموضعين من الآية يعني: أنت بالذات دون غيرك، وهذا يستلزم معرفة ذلك الغير ليكتمل التأكيد في التخصيص المقصود بكلمة (إياك).
وقولنا (نَعْبُدُ) يعني: أننا نفردك وحدك بطاعة أوامرك ونواهيك في مجالات حياتنا السياسية والثقافية والاقتصادية كلها وهذا يقتضي معرفة ما أمر الله به وما نهى عنه، كما يقتضي التمييز بين الواجب والمندوب والمستحب في الأوامر، وبين التحريم والأمر والاجتناب في النواهي، وقولنا (نَسْتَعِينُ) يفترض معرفة الآمر قبل معرفة الأمر، ومعرفة المستعان به ومعرفة قدرته سبحانه من خلال قوانينه في الآفاق والأنفس.
وهذه المعارف كلها هي محط الدعاء -بعد أن نعرفها- في قولنا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]. وتعريف الصراط المستقيم بـ (أل) العهد يعني: ذلك الصراط المستقيم بالذات -وليس أي صراط آخر لا على التعيين- الذي يجمع بين (نَعْبُدُ) و(نَسْتَعِينُ) ويرسم لنا أقرب الطرق لمعرفة آيات الله في الآفاق والأنفس لنرى رأي العين واليقين أنها حق، وليُبَيِّنَ تلازُمَ الهدف والوسيلة.
هذا التلازم في القرآن الكريم والسنة النبوية أيضاً، بين الأهداف والوسائل وبين النتائج والأسباب، هو المحور الذي دارت حوله عبارة ابن تيمية، ثم عبارة صاحبه وتلميذه ابن قيم الجوزية فيما بعد، ليضعنا أمام مسألة كبيرة هي أن الدعوة إلى هجر فقه الأسباب من أعظم وأخطر الجنايات على التوحيد.
فقد انقسم الناس في عصر هذين الإمامين إلى ظاهرية، تغلِّب دور السمع والبصر في تحصيل المعرفة، فأوقعها ذلك في مادية التشبيه والتجسيم، وإلى باطنية تغالي في إنكار دور العقل في تحصيل المعرفة، وتعتبر أن العقل حجاب يقتل الذوق ويمنع من معرفة الذات الإلهية والذوبان فيها، فقادهم ذلك إلى إنكار الأسباب، وإلى الاعتقاد بأن الكشف والإشراق عبر طقوس معينة -وليس عبر التفكر والتدبر بآيات الله وقوانينه الكونية- هو الطريق إلى معرفة الله أي العبادة.
ورغم أن الله تعالى خلق الإنسان من مادة وروح، وجعل له لتحصيل المعرفة جهازاً ثلاثياً هو: السمع والبصر والفؤاد، أشار إليه في أكثر من موضع من تنزيله الحكيم كقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) [الإسراء: 36]، ورغم أن التكريم في القرآن الكريم جاء محصوراً بذوي الألباب والعقول والقلوب والأحلام والأبصار من المتدبرين المتفكرين، الذين يسمعون ويرون فيربطون الأسباب بالنتائج والوسائل بالأهداف، فقد أنكر أهل الظاهر وأهل الباطن الأسباب تحت ستار الجبرية حيناً، وخلف العقول المغلقة في سراديب الظلام حيناً آخر، وكلاهما جناية عظيمة على التوحيد في رأي ابن قيم الجوزية، لخروجه عن صريح الآيات ومقاصدها الإلهية.
نعود بعد هذا التفريع إلى ما كنا فيه من قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، لنجد أن الناس درجات في الفقه والفهم. فمنهم من يعبد ولا يستعين، ومنهم من يستعين ولا يعبد، ومنهم من لا يعبد ولا يستعين، وخيرهم من جمع بين العبادة والاستعانة.
أما أصحاب النوع الأول ممن يعبد ولا يستعين، فيخلطون بين التوكل والتواكل، ويتوهمون أن الصلاة والدعاء كافيان للنجاح في العمل والدراسة وتذليل المصاعب وحل المشاكل، غافلين عن أن النتائج المادية لا بُدَّ لها من وسائل وأسباب مادية.
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا رسول الله، أترك ناقتي وأتوكل؟” قال: “اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ”. والمتأمل في الحديث يفهم أن التوكل لا يكون إلا مع الأخذ بالأسباب.
وبهذا المعنى نقرأ خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جاءه رجلٌ يقول: “أَأدْعو الله ليشفي إبلي الجربى؟” قال عمر: “نعم، واجعل مع الدعاء قطراناً”. وهكذا نفهم أن الدعاء والرقى وتلاوة القرآن وحدها دون علاج بالأدوية المناسبة لا تشفي الأجساد من الأمراض، ليس لأن الدعاء والقرآن لا قيمة لهما -كما يزعم الطاعنون- بل لأنهما لم يترافقا مع الأخذ بالأسباب.
وأما أصحاب النوع الثاني ممن يستعين ولا يعبد، فيجعلون الوسيلة هدفاً، فيقعون في مادية الكون والإنسان، ويتوهمون أن خلافة الله في الأرض تنحصر ضمن حدود استثمار خيرات الكون وقوانينه لصالح فرد أو أفراد، فيحتكرونها ويمنعونها عن الآخرين حيناً، ويسيئون استخدامها أحياناً أخرى، ومنهم من يصبح عبداً لها.
وهذا النوع من الناس هو الذي ضرب له تعالى مثلاً في تنزيله الحكيم بفرعون وملئه فقال: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا) [الأعراف: 103]. فالآيات في قوله تعالى: (بِآيَاتِنَا) تعني القوانين والسنن الإلهية في الكون والإنسان، والظلم في قوله تعالى: (فَظَلَمُوا بِهَا) يعني وضعها في غير موضعها وإفساد الأرض والمجتمع بسوء توظيفها واستخدامها، شأن من يستخدم الطاقة النووية -وهي آيةٌ من آيات الله- في التدمير، بدلاً من استخدامها لخير الإنسان في الزراعة والصناعة والطب، وهؤلاء هم الظالمون المفسدون حقاً، وهذا معنىً من معاني هذه الآية الكريمة.
وأما أصحاب النوع الثالث ممن لا يعبد ولا يستعين، فهم الذين قال فيهم تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 43-44].
وأما أصحاب النوع الرابع ممّن يعبد ويستعين، فهو الذي يدعو بقوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، جامعاً بين الحالة الحسنة في الدنيا والحالة الحسنة في الآخرة.
ويَأْتَمِرُ بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77]، مبتغياً بِخيرِ الدنيا خَيْرَ الآخرة.
ويَأْخُذُ بقوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف: 84-85]، متبعاً الأسباب المطلوبة للوصول إلى النتائج المرجوّة.
لقد تكرَّرت الآيةُ الكريمةُ (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) ثلاث مرات في سورة الكهف، لِتُشِير إلى تأكيد الأخذ بالأسباب كما فعل (ذو القرنين) تجاه (يأجوج ومأجوج) المفسدين في الأرض. قال تعالى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) [الكهف: 98-99].
نعود فنقول: الوسيلة (الفُلْكُ) بأنواعها، والهدف الثابت (لتبتغوا من فضله) وفضلُهُ سبْحانَهُ لا حدودَ له فيما أنعم به في البحار والمحيطات والأنهار، وكان رحيماً، وأولى بنا أن نكون رحماء بالناس.
وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 14].
فالوسيلة (البحر) الذي سخّره الله للإنسان، والهدفُ (لتأكلوا منه لحماً طرياً)، و(وتستخرجوا منه حلية تلبسونها)، و(ولتبتغوا من فضله) وهو الوصول إلى خيراتِ وكنوزِ وثروات البحر، دون أن ينسوا الشكر لله، قال تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 39]. فأين وصل سعيُ المسلمينَ في البحار والمحيطات والأنهار؟
وقال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1-5]. وقال أيضاً: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1].
فـ (القراءة والقلم والمحبرة والكتابة) وسيلة، والهدفُ (العلمُ)، والأكرمون عندَ اللهِ هم الأكثرُ قراءةً، والأكثرُ قراءةً هم الأكثرُ عِلماً. هل نتعلّم لنقرأ أم نقرأ لنتعلّمَ؟ سؤالان يحتاجان إلى جواب حتى نعلمَ الهدفَ الثابتَ من الوسيلةِ المتغيرة.
وقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]. فـ (الزينة) وسيلة، و(الأكل والشرب) وسيلة أيضاً، والهدف الأخذ منها دون إسراف وهذا من ثوابت القرآن الكريم.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].
ومن تمام تكريم الله للإنسان تفضيله على كثير ممن خلق وبيَّنَ لَهُ الأهدافَ الثابتة في حياته كما هداه إلى الوسائل المتغيرة في وجوده، من أجل كرامته وقوته وعزّته، وسلامته وصحته، واستمراره وبقائه، وخلافته فوق أرضه، وكلّما كان الإنسان أكثر وعياً لهذه الأهداف، وأكثر أَخْذاً للأسباب الموصلة إليها، كلما كان أهلاً لهذه الخلافة. قال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف: 19].
وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2].
أخيراً: لقد رضي المسلمون اليوم بالقراءة السطحية والحرفية والتجويدية والصوتية لآيات القرآن الكريم فغابوا عن فقه الأهداف الثابتة والوسائل المتغيرة، فغابت عنهم الشهادة على الناس، وصارت الوسائلُ عندهم أهدافاً، والأهداف تُبَرِّرُ الوسائل. قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
فهلّا عدنا إلى فهم وفقه الثوابت والوسائل في القرآن الكريم حتى نكون ممن يستحق وصفهم بالمسلمين والمؤمنين؟