الشيخ الدكتور إحسان بعدرانيالمكتب الدينيحاجتنا إلى فقهٍ جديدسلسلة القراءة المطلوبة (6)مقالات دينية

16- الهدف الثابت والوسيلة المتغيرة في السُّنة الشريفة: د.إحسان بعدراني

قيل في المثل العربي: “العقل السليم في الجسم السليم، والصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يعرفه إلا المرضى”. والإنسان منذ أن وُجد بحث بفطرته تلبية لحاجته عن الدواء من أجل الشفاء، حين أحس بالمرض وشعر بالألم، ثم جاءت رسالة السماء إلى محمد ﷺ لتؤكد أن الشفاء من الله الذي بيده كل شيء، وأن على العباد الدعاء بعد الأخذ بالأسباب.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80].
وقال ﷺ: “سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، فإن أُعطيت العافية في الدنيا وأُعطيتها في الآخرة فقد أفلحت” [أنس بن مالك].
وقال ﷺ: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ” [ابن عباس].
وقال ﷺ: “نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً، غير داء واحد”، قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: “الهرم” [الإمام أحمد].
وقال ﷺ: “إن الله لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاءً، علمه من علمه وجهله من جهله” [الإمام أحمد].
ومن تأمل خلق الأضداد، ومقاومة بعضها لبعض، ودفع بعضها ببعض، تبين له كمال قدرة الرب سبحانه، وتفرده بالربوبية والوحدانية والأحدية والصمدية، وأنه لا كفء له، وكل ما سواه محتاج إليه، وتبين له أن التدافع يمنع الأمراض والفساد والشر من الانتشار والسيطرة.

في الأحاديث الصحيحة السابقة أمر بالتداوي، وهو لا ينافي التوكل، بل لا تتم حقيقة الأمر إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله سبحانه وتعالى مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في التوكل نفسه، كما يقدح في الأمر والحكمة الإلهية، فلا يظنن معطلها أن تركها أقوى للتوكل، لأن حقيقة التوكل اعتماد القلب على الرب سبحانه في حصول ما ينفع العبد، وفي دفع ما يضره، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، فلا يجعل التعطيل توكلًا، ولا التوكل تعطيلًا، وما الأدوية والرقى والوقاية إلا من قدر الله، وما يرد قدر الله إلا بقدره، كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد بمعناه العام والقتال بمعناه الخاص، وكرد قدر المرض بالدواء، ومن هنا قال ﷺ: “لكل داء دواء” تقويةً لنفس المريض والطبيب والصيدلي والمخبري، وحثًا على طلب الدواء والبحث عنه بكل وسائل البحث العلمي والتجريبي وما إلى ذلك.
يقول ابن خلدون في مقدمته: “الطب وغيره من المسائل العادية أو من الصناعات، والصناعة لا علاقة لها بالعبادة، وليست السنة أو القرآن مصدرًا أو كتابًا لدراسة الطب”.
نعود بعد هذه المقدمة السريعة التي لا بد منها إلى بحثنا الذي يدور في فلك “الهدف الثابت” و”الوسيلة المتغيرة” في الأحاديث النبوية الشريفة، التي تتصل بالطب النبوي الشريف الذي نعتقد ونؤمن به، ولا نشك في جدواه، كيف لا، وصاحبه سيد وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ، وهاك أمثلة على ذلك:
1- روى البخاري في تاريخه وأبو داود في السنن أن رسول الله ﷺ ما شكا إليه أحد وجعًا في رأسه إلا قال: “احتجم”، ولا شكا إليه أحد وجعًا في رجليه إلا قال له: “اختضب بالحناء” [من حديث سلمة امرأة أبي نافع وهو حديث حسن].
وروى البخاري ومسلم عن رسول الله ﷺ أنه قال: “الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي”.
وقال ﷺ: “خير ما تداويتم به الحجامة والفصد” وفي رواية: “إن أفضل ما تداويتم به الحجامة” [رواه مسلم].
وقال ﷺ: “عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر” [جابر بن عبد الله] الإثمد: نوع من الكحل.
وقال ﷺ: “اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر” [رواه الترمذي عن ابن عباس]، وفي الشرح الكبير للمناوي عند الكلام على قوله ﷺ: “عليكم بالإثمد…” فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر.
وقال ﷺ: “عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام” [رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة]. السام: الموت.

في هذه الأحاديث النبوية الشريفة يتبين لنا أن الهدف الثابت هو الإنسان، ونفع الإنسان والمحافظة على صحته وسلامته، والوصول إلى مداواته ووقايته في آن واحد وما الحجامة والحناء والإثمد والحبة السوداء والعسل إلا الوسائل المتاحة والممكنة والمقدورة في عصر رسول الله ﷺ، ولو أن هذه الوسائل هي الهدف الثابت في كلام رسول الله ﷺ لما جاز للمسلمين أن يستخدموا غيرها، وللعلماء المتخصصين أن يبحثوا ويفتشوا ويجربوا ليتوصلوا إلى ما فيه شفاء الإنسان. أليس الله هو القائل: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114].

2- قال ﷺ: “السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب” [البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها]، وقال ﷺ: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة” [البخاري].

لقد أشار رسول الله ﷺ إلى أمرين اثنين في هذين الحديثين النبويين الشريفين، فأيهما الهدف الثابت؟ وأيهما الوسيلة المتغيرة؟ لا ريب أن السواك وسيلة ميسورة متاحة في عصر وبيئة الرسول ﷺ، وأن الهدف الثابت من هذه الوسيلة إنقاء الأسنان وتطهير الفم، ولا يمكن تعطيل الهدف الثابت لعدم وجود الوسيلة المقدورة ألا وهو السواك.

قيل في هداية الراغب في الفقه الحنفي: “ويكون العود من أراك وعرجون وزيتون وغيرها بحيث لا يضر ولا يجرح ولا يفتت، ويكره بما يجرح أو يضر أو يفتت”، ونقل مهذب الكتاب الشيخ عبد الله البسام عن الإمام النووي قوله: “وبأي شيء أستاك – مما يزيل التغير – حصل الاستياك كالخرقة والأصبع، وهو مذهب أبي حنيفة لعموم الأدلة”، وفي المغني: “إنه يصيب من السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء، ولا يترك القليل من السنة للعجز عن أكثرها”.

ونتساءل بعد هذه الشواهد قائلين: إذا تغيرت الوسيلة، وبقي الهدف ثابتًا، في مجتمعات لا يتيسر فيها عود السواك إلى ملايين من المسلمين، فهل ندع هذه السنة الشريفة؟ وهل باستخدامنا وسيلة أخرى، لإنقاء الأسنان وتطهير الفم ومرضاة الرب محافظين على نعمته، نقع في مخالفة السنة المطهرة ويذهب الأجر والثواب؟ أما توصل العلم الحديث في عصرنا إلى وسائل عند أطباء الأسنان على تشعب اختصاصاتهم إلى ما يكفل نقاء الأسنان وسلامتها وقيامها بدورها؟ أما أضحت مراجعة الطبيب الاختصاصي أمرًا ضروريًا كل ستة أشهر؟

قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78].

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6].


وقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185].


المهم أداء هذه السنة بأي وسيلة ممكنة نافعة لا ضرر فيها على الإنسان .. وصحة الإنسان .. وسلامة الإنسان من خلال نقاء الأسنان.

من الملاحظ في الحياة الواقعية للمسلمين أنهم لا يفرقون بين أمرين مقترنين متلازمين هما (الهدف الثابت) و(الوسيلة المتغيرة) في أحاديث رسول الله ﷺ، كما أن بعض الدارسين لا يلحظون هذا الأمر، ولا يقفون عنده، حتى إن من هؤلاء وهؤلاء من يأخذ بالوسيلة مطبقًا لها، غافلًا عن الهدف في الخبر عن رسول الله ﷺ.

3- عن كعب بن مالك قال: (رأيت رسول الله ﷺ يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها) [رواه مسلم].
وعن جابر أن رسول الله ﷺ: (أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: ((إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)) [رواه مسلم].
ورُويَ عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: ((إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها)) [رواه الشيخان].

هذه الأخبار في هذه الأحاديث التي تتعلقُ بأدبِ المائدةِ والطّعام، نُظِرَ إليها نظرةً سطحيةً، وقُرئت قراءةً غير مطلوبةٍ، ثمّ فُهِمَ منها أنّ السنّة النبوية هي الأكل بالأصابع الثلاث ثم لعقها، ولعق الصحفة أيضًا، وأن خلاف ذلك هو خلاف السنة، ولو نظر هؤلاء إلى لفظ الأحاديث ولحظها لوجدوا في قول “يأكل بثلاث أصابع” حرف الجر (الباء) الذي يُفيد معناه الاستعانة في اللغة، وهذا ما كان يفعله ﷺ، ومنه نخلص إلى أن (الأصابع الثلاث) هي الوسيلة المملوكة والمتاحة لتناول الطعام، وأما الهدف الثابت فهو (الطعام) الذي يمثل غذاء الإنسان وحياته، وهو النعمة من الله سبحانه.

قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، أي الذي أعطى اليدَ – مثلاً – خمسة أصابع ثم هداها لما يجب أن تقوم به من أفعال، ومن بين ذلك تناولُ الطعام، وهي الوسيلة الشخصية لكل إنسان، منذ أن خلقه تعالى، وبمرور الأعوام والأيام اخترع الإنسان وسائلَ أخرى استعان بها على تناول الطعام دون أن تمسه أصابع الكف، وبها يتحقق التزام الأدب مع الآكلين في تناول الطعام.

وأما ما يتعلق بلَعْقَ الأصابعِ والصَّفْحَة بعد الانتهاء فلا حاجة إليه، لأن المؤمن لا يضع في إنائه إلا بقدر حاجته، ولا يدعُ على المِلْعَقةِ ولا في الصَّحْفَةِ شيئًا، وهذا من الاقتصاد وتقدير النِّعمة وهو الهدفُ الثابتُ الذي أراده رسول الله ﷺ فيما روي من الأحاديث النبوية السابقة.

روى ابن أبي الدنيا عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ ﷺ فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فقال: “يا عائشة، أحسني جوار نعم الله فإنها قلما نفرت عن أهلٍ فكادت أن ترجع إليهم”، وفي رواية أخرجها ابن ماجه والحاكم عن عائشة رضي الله عنها بلفظ قالت: دَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ ﷺ البيتَ فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فأَخَذَهَا فَمَسَحَها ثُمَّ أَكَلَها وقال: “يا عائشة، أكرمي كريمكِ فإنها ما نفرت عن قومٍ فعادت إليهم”.

نعود فنقول: شيئان متلازمان، (الهدف الثابت) و(الوسيلة المتغيرة)، ومن الجور والحيف والظلم لكلامِ رسول الله ﷺ حين نفرق بينهما، أو نجعل أحدهما مكان الآخر، أو نتمسك بالوسيلةِ وننسى الهدفَ، لأن الوسيلة قد تتغير، وأما الهدف القرآني والنبوي فثابت لتحقيق مصالحِ البشر.


4- قال ﷺ: ((الوَزْنُ وَزْنُ أهلِ مَكَّةَ، والمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ المَدِيْنَةِ)) [رواه النسائي وأبو داود وابن حبان]. أهلُ مكّة أهلُ تجارةٍ، يتعاملون في بيعهم وشرائهم بـ (الوزْنِ)، وهو الأساس والمعيار عندهم، الذي تُضْبَطُ به الحقوقُ، حيثُ فرضتِ الظروفُ الواقعيّةُ ذلك عليهم، أمّا أهل المدينة فهم أهل زراعةٍ، ومنتجاتهم من الحبوب والثمارِ وما شاكلها، فإذا باعوا أو اشتروا كان (المكيالُ) هو المعيارُ المُعتَمَدُ عندهم، ولهذا قال ﷺ ما قال، فهما وسيلتان من الوسائل المتّفقِ عليها لضبطِ التعامل بين الناس، وإيصالُ الحقوق إلى أصحابها هو الهدف الثابتُ من كلامه ﷺ، ولو كَلَّفَ ﷺ أهلَ مكّة أو أهل المدينة وسيلةً أخرى لأرهقهم من أمرهم عُسْراً، وإنّما أقرّهم على ما هم عليه من الوسيلة رفعاً للحرج وإبقاءً للهدف وإقراراً بالواقعِ. فإذا وُجِدَتْ وسيلةٌ أخرى لأهل مكة أو أهل المدينة اليوم أقدرُ على تحقيق الهدف الثابت النبوي، وكانت أبعدَ عن وقوع الخطأ، وأقربَ للصواب، وأكثرَ ضبطاً للتعامل بين الناسِ، فهي أولى من الوسيلة المعتمدة سابقاً، وأدعى إلى الأخذ بالجديد لقوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]. إن رفضنا لأيّ وسيلة بلغت درجةَ اليقين والقطعِ في ضبط التعامل والحقوق بين الناس في زمننا بحجّة إحياءِ سنة رسول الله ﷺ أمرٌ لا يقبلُه الحديثُ نفسه، ولا يرضاه صاحب الحديث سيد البشر محمّد ﷺ. إن السنّة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدنى تدعونا في عصرنا إلى الأخذ بوسيلة أعلى وأكثر دقة مما توصّل إليه علم الإنسان لتحقيق الهدف المنشود من السّنّة النبوية والقرآن الكريم.

قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ (1) ( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ (2) ﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ (3) ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ﴾ (4) ﴿ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (5﴾ ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (6) [المطففين: 1-6]؛ وقال تعالى: ﴿﴿ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ (8) ﴿ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾﴾ [الرحمن: 8-9]؛ وقال تعالى: ﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85]؛ وقال تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 85]؛ وقال تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الشعراء: 183]. أليس المطلوبُ من الحديث النبويّ الشريف ومن الآيات القرآنية تحقيق الهدف الثابت وهو الاستيفاء في الكيل وعدم الإخسار في الوزن والميزان، والإقساط، وألا يبْخَسَ الناسُ أشياءَ بعضهم بعضاً، لأن الويل لا يكون إلا للمطفّفين الذين سيبعثهم اللهُ لِيَوْمٍ عظيمٍ، فيه محكمةٌ قاضيها ربُّ العالمين!؟


5- نقول: إن من الآفات التي تعرّضت وتتعرض لها السنة النبوية المطهّرة النظرَ إلى حرفية النصّ دون النظر إلى هدفه، والتمسك بجسمه دون روحه، ولقد كان الصحابة الكرام والتابعون الأعلام والأئمة في الأحكام ينهجون في فهم الحديث منهاج من ينظر إلى مقصودِ النصّ لا إلى حرفيته، وإلى عِلّة النص وظرفه وزمانه ومكانه، وإلى ما بُنِي من النص على عرفٍ. وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو يوسف تلميذُ أبي حنيفةَ  إلى اعتبار ما ذُكِر من الأصناف الأربعةِ البُرِّ والتمرِ والشَّعِير والملح مكيلاً، مبنياً على العُرفِ، فإذا تغيّر العرفُ بحيثُ ما كان مكيلاً صار موزوناً، كما آل إليه الأمر في ما بعدُ، وجبَ العملُ بما صار إليه العرف الجديد، لأن النص القرآني يشير إلى الهدف الثابت وهو إيفاء الكيل والميزان قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [الإسراء: 35]. وهذا يعني أنْ لا حرج من النظر إلى مقصود النص وروحه دون التمسك بجسمه وحرفيته، فالمقصود إيصال الحق لأصحابه بالقِسطِ سواءً بالكَيْلِ أو بالوَزْنِ أو بالقياسِ، أو ما شاكلَ ذلك، قال تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]. والمقسطون هم العادلون من فِعْل (أَقْسَطَ – يُقْسِطُ – إِقْسَاطاً – فهو مُقْسِطٌ)، وأما القاسطون: فهم الجائرون من فِعْل (قَسَطَ – يَقْسُطُ – قَسْطَاً – فهو قاسِطْ) وفيهم قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن: 15].

6- وخير شاهدٍ على ما نذهب إليه ما أقرَّهُ ﷺ من فعل تميم الداري (رض) حين علّق قناديل الزيت التي حملها معه من بلاد الشام مضيئاً المسجد النبوي الشريف فقال له: ((نَوَّرَ اللهُ قَلْبَكَ كَمَا نَوَّرْتَ عَلَيْنَا مَسْجِدَنَا)) كما أقرّه ﷺ على ما فعله حين صَنَعَ منبراً من ثلاثِ درجاتٍ يقف عليه بَدَلِ جِذْعٍ يستندُ إليه، فكان أوَّل منبرٍ في الإسلام. أليست إضاءة المسجد هي الهدف وإنْ اختلفت الوسيلة؟ أليس الهدف الثابت من المنبرِ أن يرى الصحابة رسول الله ﷺ يقرأ عليهم ما أُنْزِلَ من الوحي، وأن يسمعوا صوته؟ ولقد فرش الصحابة الكرام الحصى على أرض المسجد النبوي الشريف حين وجدوا أن إمكانية السجود على التراب تستحيل عند نزول المطر، فأقرهم ﷺ على ما فعلوا لأنّ الهدفَ تحقُّقُ الطمأنينة في ركن السجود وإن تغيّرت الوسيلة، وماذا يقول ﷺ لو رأى ما فُرِشَتْ به ساحاتُ مساجدنا اليوم بالرخام المكيّف بالبرودة في الصيف والمُدَفَّأ بالطريقة الألمانية في الشتاء، سواءً في مكة أو دمشق أو غيرهما؟ أوليس الله سبحانه قال: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن: 15]. وماذا يقول ﷺ لو رأى مساجدنا تُسقفُ بالسطوح المعزولة التي تمنع البرودة والرطوبة في أيام البرد والمطر كما تمنع الحرَّ من شدة الشمس، في الوقت الذي كان المسجد النبوي الشريف يُسقَفُ بِجَرِيْدِ وسَعَفِ النخيل؟ أليس الهدف الثابت شيئاً والوسيلة المتغيرةُ شيئاً آخر؟ تلك وسائل مقدورةٌ ومتاحةٌ وممكنةٌ وميسّرةٌ في عهد رسول الله ﷺ، وهذه وسائل ميسورةٌ في عصرنا ولا ندري ما هي الوسائلُ الحديثةُ والجديدةُ التي تستخدمها الأجيال القادمة، حتى تُصبِح وسائلنا الحاضرةُ قديمةً في نظرهم، كما أصبحت وسائل السابقين قديمةً في نظرنا. وماذا يقول ﷺ عن القباب الضخمة المتحركة التي تغطي مساحاتٍ واسعة من مسجده الشريف في المدينة المنورة في عام 2008م – 1429 هـ كما تُغَطِّي المصلين الذين يصلون على ظهر مسجده الشريف في الوقت الذي تنشرح قلوب المصلين في الحرم الأرضي برؤية السماء وتغيُّرِ الهواء؟ وماذا يقول ﷺ عن المظلات الكبيرة التي تنفتح فوق الساحات الشاسعة لتمنع حرارة الشمس عن رؤوس ضيوف رسول الله ﷺ في الحرم المدني؟ الوسيلة متغيرةٌ في حديث رسول الله ﷺ والهدف الثابت باقٍ من أجل صحّة وحياة ورفاهية الإنسان، وهذا امتدادٌ لما جاءَ في القرآن الكريم. هل يريد رسول الله ﷺ أن يُحمّل أتباعه المشقة والعُسر والحرج في الوقت الذي يدعو القرآن والسنة إلى الرفق واليسر والحياة الكريمة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؟ قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]؛ وقال ﷺ: ((يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا)) [ابن مالك]؛ وقال ﷺ: ((يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، وبَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا، وتَطَاوَعَا ولا تَخْتَلِفَا)) حين بعث بالصحابيَّين الجليلَين معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري إلى بلاد اليمن.

7- قال ﷺ: ((صُوْمُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِيْنَ)) وفي لفظ آخر: ((فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فاقْدِرُوا لَهُ)) [متفق عليه عن ابن عباس]. غُمَّ: خَفِيَ، عدّة: العَدَدُ بالحساب. الهدف الثابت من الحديث النبوي الشريف واضحٌ بَيِّنٌ وهو صوم شهر رمضان المبارك كلّه، وهذا الصوم لا يتحقق إلا بالوسيلةِ، والوسيلةُ المقدورةُ الممكنةُ لجمهور الناس دون عنتٍ ولا حرجٍ في زمانِ ومكانِ بِعثةِ سيدنا محمد ﷺ إنّما هي الرؤية البصرية المجردة، وهي المتاحة للناس كافة، وظاهرٌ من الكلام النبوي الشريف أنه لم يكلفهم وسيلةً أخرى، وهو لم يفعل ذلك لأن الله لا يكلف عباده فوق طاقتهم، بصريح آياته الكريمة. قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286]؛ وقال تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 7]. فإذا وُجِدَتْ وسيلةٌ أقدرُ على تحقيق هذا الهدف الثابت، وأبعَدُ عن احتمال الخطأ والوهنِ، وأصبح فيها علماءُ وخبراءُ واختصاصيون، ومراكز بحوث ودراسات، فلماذا نجمدُ على الوسيلة ونغفَلُ عن الهدف الذي ينشده الحديث النبوي الشريف؟ ولماذا نرفض الوسيلة التي قد بلغت درجة اليقين والقطع، ويمكنُ أن تجتمع عليها الأمة، ويزول الخلاف والتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد؟ إنّ السنة التي شَرَعَتْ لنا الأخذ بوسيلة (أدنى) وهي الرؤية البصرية المجرّدة، لا ترفض وسيلةً (أعلى) بل تسمحُ بها، وهي أكمل وأوفى لتحقيق المقصود من الحديث، وللخروج بالأمة من الاختلاف والخلاف الشديدَين، في تحديد بداية صومها وفطرها وعيدَيها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها. يقول أبو العباس أحمد بن عمر بن سُرَيح ت 306هـ، وهو من تلاميذ أبي داود صاحب السنة، والذي قال في شأنه أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء ص 89: (كان من عظماء الشافعيين، وأئمة المسلمين، وكان يفضُل على جميع أصحاب الشافعيِّ حتى على المُزَني)، قال هذا في قوله ﷺ: ((فأكْمِلُوا العدّة)) خطابٌ للعامّة، وأما في قوله ﷺ: ((فاقْدِرُوا لَه)) معناه: قدّروه بحسب المنازل، وأنه خطاب لمن خصّه الله بهذا العلم. قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]. ليس اتباع الحديث ونصرة السنة أن نجمُد على ما قاله مَنْ قَبْلَنا من السلف في ما فهموه، بل خدمةُ الحديث أن ننهج نهجهم، وأن نُدلي بدلونا حتى ننهل كما نهلوا من روح حديث رسول الله ﷺ، فنجتهد لزماننا كما اجتهدوا لزمانهم، وأن نجدد في ديننا كما جددوا في دينهم انطلاقاً من الحديث المشهور لرسول الله ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ على رَأْسِ كُلِّ مائةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دِيْنَها)) [رواه أبو داود والحاكم وصححه غير واحد عن أبي هريرة مرفوعاً]، ونعالِج واقعنا بعقولنا كما عالجوا واقعهم بعقولهم، غير مقَيَّدينَ إلا بثوابتِ القرآن والسّنة وبقواطع الشريعة فيهما، وبمُحكمَات نصوصهما وكلّيات مقاصدهما وكُنْهِ جوهرِهما وهدفِهما. فإذا وُجِدَتْ وَسيلَةٌ أدقُّ وأضبطُ وأَبعَدُ عن الغلطِ والوهمِ والكيد والافتراء والكذب في تحديد ابتداء الصيامِ والحجّ والعيدَين، فليس في السّنة ما يمنع اعتبارها وليس في الكتاب ما يصدّ عن الأخذ بها. قال تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 5]. ذكر السّبكي في فتاواه – هو أكبر فقهاء الشافعية، تقي الدين السبكي ت 756هـ، والذي قالوا عنه: إنه بلغ مرتبة الاجتهاد – فقال: (إن الحساب إذا نفى إمكان الرؤية البصرية، فالواجب على القاضي أن يردّ شهادة الشهود) ثم قال: (لأن الحساب قطعيٌّ، والشهادة والخبر ظنّيان، والظنُّ لا يُعارَضُ بالقطع فضلاً عن أن يُقَدَّم عليه). نقول: فكيف لو عاش السبكي إلى عصرنا ورأى تقدُّمَ العلمِ ووسائلَه، وشاهدَ باعَ العلماءِ فيه؟!

8- يقول رسول الله ﷺ: ((مَنْ رَمَى العَدُوَّ بِسَهْمٍ فَبَلَغَ سَهْمُهُ العَدُوَّ أصَابَ أو أَخْطَأَ فَعِدْلُ رَقَبَةٍ)) [عمر بن عنبسة]. أوليسَ الهدفُ الثابتُ في هذا الحديث النبويّ هو (الرميُ) والوسيلة (السهمُ)؟ وإذا بقي الهدفُ ثابتاً وتغيّرت الوسيلة، ألا يتحقق وعدُ رسول الله ﷺ الذي جاء على صيغة الإخبار بقوله: ((فَعِدْلُ رَقَبَةٍ)) لِمَنْ رَمَى العدُوَّ أصابَ أو أخطأ؟ هل نبقى على الوسيلة القديمة وندع الوسائل الحديثة في القتال في ردِّ العدوان ورفع الظلم والدفاع عن الأوطان؟ وفي الختام نتساءل: – أوليس المقصود العدلُ وإيصال الحق إلى أصحابه، ووضعُه في نصابه، وَإِنْ تَغَيَّرَ الزمانُ واختلف المكان وتبدّل الأشخاص؟ – أوليس المقصود من العدل الإنسان وإغناؤه وإيصال الكفاية إليه، وسدُّ حاجاته؟ – أوليس المقصود مصلحةُ الإنسان ونَفعُه وتيسيرُ أموره، وتحقيق الحياة الكريمة والعزيزة له. هل القوانين والأنظمة البشرية وُضِعَت تيسيراً لأمور الإنسان ونفعه ومصلحته وإغنائه وإيصال العدل والقسط إليه أم لِعكسِ ذلك؟ إذا كانت بعض الأحاديث النبوية الشريفة قد تعرضت لسوء الفهم وسوء التأويل وسوء التطبيق، فإنّ من القوانين والأنظمة ما قد تعرض لأكثر من ذلك بكثير وكثير، وهي من وضع بشرٍ يخطئون ويصيبون، وحَسْبُهُم أنَّهُم غير مُعصُومِيْنَ. وإذا كانت بعض الأحاديثِ النبويّة قد حرفها بعضهم عن معانيها ومواضعها التي أرادها رسول الله ﷺ، وتمسّك آخرون بحرفيّتها دون الوصول إلى كُنْهِهَا وجوهَرِهَا وحَقِيْقَتها، فإنّ الكثير والكثير من القوانين والأنظمة البشرية ما يحتاج إلى تصويبٍ أو تصحيحٍ أو تغييرٍ أو تبديلٍ لكي ينسجم مع ما أراده الله لهذا الإنسان المخلوقِ الثابت خَلِيْفَةِ الله في الأرض والذي أنزل الله من أجله الثابت (القرآن الكريم). أليس المقصود من القوانين والأنظمة إغناء الإنسان وسدُّ حاجاته ونفعُه ومصلحته؟ لا بدّ إذاً من النظر إلى الظرف الزماني والعُرْفِ المَكاني الذي بُنِي كلٌّ من هذه القوانين والأنظمة والتشريعات عليه، ثمّ تغيّر. لقد نظرَ الصحابةُ والتابعونَ والأئمة والمجتهدون إلى روح الحديث النبوي الشريف لا إلى جسمه، ففهموا السنّة الشريفة فَهْمَ من يريدُ مصلحة الإنسان، وعلينا أن ندلي بدلونا لنفهم فهماً جديداً. ليست القوانين والأنظمة والتشريعات للجِبَايةِ والدعاية، وإنّما هي للرّعايةِ والعناية بحال الإنسان. وحينَ يرى الإنسانُ أن القوانينَ كلها تسعى لأَِجْلِهِ لا لأَِجَلِهِ، ولِحَياتِهِ لا لِمَوْتِهِ سُرعانَ ما يُعطِي أكثرَ مِمَّا يأخذ. وحينَ يرى أنّ القوانين هدُفها إِغْنَاؤُهُ لا إِفْنَاؤُهُ، سُرعانَ ما يُغنيها أكثرَ مما أَغْنَتْهُ. لماذا لا يقوم علماء المسلمين في النظر بما وصل إليه فهم السابقين، بمثل ما يقوم به أصحاب القوانين في كل عصر وحينا؟.

تم بعونه تعالى وتوفيقه كتابنا هذا في العشر الأخير من شهر رمضان 1431هـ الموافق أيلول 2010م دمشق ـ الشام ـ سورية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى