بين التفاهة والوعي الزائف
مقدمة:
(عصر التفاهة) مصطلح يُستخدم لوصف فترة زمنية يشعر فيها الناس بأن التفاهة والسطحيّة تسيطران على العديد من جوانب الحياة، هذا الشعور يمكن أن ينبع من عدة عوامل مثل:
- تراجع القيم: حيث تقل أهمية القيم الأخلاقية والثقافية العميقة، ويتم التركيز أكثر على المظاهر المادية والشهرة اللحظية.
- سيطرة الثقافة الاستهلاكية: وتشجيع الناس على شراء سلع وخدمات لا يحتاجونها، مما يؤدي إلى تركز الاهتمام على الماديات بدلاً من المعرفة والتطوير الذاتي.
- انتشار المعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي: مما يؤثر على قدرة الناس على التفكير النقدي واتخاذ قرارات مستنيرة.
- تسطيح المحتوى: والتركيز على المحتوى الترفيهي السهل والمبسط، مما يقلل من مستوى الثقافة العامة والمعرفة.
- تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على سلوك الأفراد: وتشجيعهم على نشر محتوى سطحي وجذاب بصرياً، بغض النظر عن محتواه الفكري.
حول عصر التفاهة:
أسباب كثيرة تجعلنا نوصف عصرا ما بأنه عصر تتغلغل فيه التفاهة وتتمدد، فمقارنة الحياة الواقعية بالمثالية مثلا حيث يشعر الناس بأن حياتهم اليومية لا تصل إلى المستويات المثالية التي تعرضها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
إضافة للتغيرات التكنولوجية والاجتماعية السريعة تجعل الناس يشعرون بعدم الاستقرار وعدم القدرة على مواكبة التطورات.
كما يؤدي الشعور بالإحباط من الأوضاع السياسية والاجتماعية إلى البحث عن ملاذ في أشياء تافهة.
لهذا فإننا نجد أن علائم وآثار عصر التفاهة تتمحور في:
- تراجع مستوى الثقافة العامة والمعرفة لدى الأفراد.
- ضعف التفكير النقدي يجعل الناس أكثر عرضة للتأثر بالمعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة.
- زيادة الشعور بالوحدة والعزلة حيث يصبح التواصل الاجتماعي سطحياً وغير عميق.
- تدهور العلاقات الاجتماعية حيث يصبح الناس أكثر اهتماماً بأنفسهم ومظاهرهم الخارجية.
لكن مما لابد ذكره أن التفاهة مفهوم نسبي، فقد يختلف تقييم الناس لما هو تافه وما هو عميق.
كما لا يعني وجود عصر تفاهة أن جميع الناس تافهون، فهناك دائماً أفراد يسعون إلى المعرفة والتطوير الذاتي.
إضافة إلى أنه يمكن مواجهة عصر التفاهة، ويمكن للفرد مواجهة عصر التفاهة من خلال الاهتمام بالقراءة، وتنمية مهارات التفكير النقدي، وبناء علاقات اجتماعية عميقة، والبحث عن المعرفة الحقيقية.
سلبيات التفاهة:
العواقب السلبية التي تنتج عن انتشار التفاهة في المجتمع. يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- تراجع القيم الأخلاقية: تؤدي التفاهة إلى تراجع أهمية القيم الأخلاقية والمبادئ، مما يضعف العلاقات الاجتماعية ويؤثر على تماسك المجتمع.
- انتشار الكذب والخداع: تسهل التفاهة انتشار الكذب والخداع، مما يضعف الثقة بين الناس ويؤثر على صدق العلاقات.
- تدهور مستوى الثقافة: تؤدي التفاهة إلى تراجع الاهتمام بالثقافة والمعرفة، مما يقلل من قدرة الأفراد على التفكير النقدي وحل المشكلات.
- ضعف الوعي السياسي: تؤدي التفاهة إلى ضعف الوعي السياسي لدى الأفراد، مما يجعلهم أكثر عرضة للتلاعب والتحكم من قبل القوى السياسية.
- زيادة الاستهلاك: تشجع التفاهة على الاستهلاك المفرط، مما يؤدي إلى هدر الموارد الطبيعية وزيادة الديون.
- تدهور الصحة النفسية: تؤدي التفاهة إلى الشعور بالفراغ والملل، مما قد يؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب والقلق.
- تضيع الوقت والجهد: تهدر التفاهة الوقت والجهد في أمور تافهة وغير مجدية، مما يمنع الأفراد من تحقيق أهدافهم وطموحاتهم.
- تدهور العلاقات الاجتماعية: تؤدي التفاهة إلى تدهور العلاقات الاجتماعية، حيث يصبح الناس أكثر اهتمامًا بالمظاهر الخارجية والشهرة.
- ضعف الإنتاجية: تؤدي التفاهة إلى ضعف الإنتاجية في العمل، حيث يصبح الأفراد أقل اهتمامًا بجودة العمل وزيادة الإنتاج.
يظهر مما سبق أن للتفاهة آثار سلبية واسعة النطاق على الفرد والمجتمع، وتؤثر على جميع جوانب الحياة.
بديل التفاهة:
بدائل التفاهة هي تلك الأفعال والأفكار والقيم التي تسعى إلى رفع مستوى الوعي والمعرفة وتحسين جودة الحياة، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- التعليم المستمر: السعي الدائم لتعلم أشياء جديدة وتوسيع الآفاق المعرفية من خلال القراءة، حضور الندوات، والانخراط في الدورات التدريبية.
- التفكير النقدي: تحليل المعلومات وتقييمها بشكل منطقي، والابتعاد عن قبول الأفكار الجاهزة دون تمحيص.
- القراءة: قراءة الكتب والمقالات التي تغطي مختلف المجالات، مما يساهم في توسيع المعرفة وتعميق الفهم.
- الحوار البناء: المشاركة في حوارات بناءة مع الآخرين، والاستماع إلى آرائهم واحترامها، حتى لو كانت مختلفة.
- الاهتمام بالفن والثقافة: زيارة المتاحف والمعارض الفنية، حضور الحفلات الموسيقية والمسرحيات، كلها أنشطة تساهم في تنمية الذوق الفني والثقافي.
- التطوع: المشاركة في الأعمال التطوعية يساعد على الشعور بالانتماء للمجتمع والمساهمة في حل المشكلات.
- البحث عن المعرفة: السعي الدائم وراء المعرفة الحقيقية، والابتعاد عن المعلومات السطحية والمشوهة.
- بناء العلاقات الصادقة: بناء علاقات قائمة على الاحترام والثقة المتبادلة، والابتعاد عن العلاقات السطحية والمصالح الشخصية.
- الاهتمام بالصحة الجسدية والنفسية: ممارسة الرياضة، تناول طعام صحي، والحصول على قسط كاف من النوم، كلها عوامل تساهم في تحسين الصحة النفسية والجسدية.
- وضع أهداف طموحة: تحديد أهداف شخصية ومهنية والعمل على تحقيقها، مما يعطي الحياة معنى وهدف.
باختصار، بدائل التفاهة هي كل ما يساهم في تطوير الذات والمجتمع، وتحقيق حياة أكثر إثراءً ومعنى.
الوعي الزائف:
يتبين مما سبق أن بديل التفاهة هو (وعي متطور متقدم مبني على العقلية النقدية)، ولكن ليس كل وعي جيد، بل هناك وعي زائف نرى أنه أشد خطورة من التفاهة نفسها!.
فالوعي الزائف هو حالة يعتقد فيها الفرد أنه يمتلك معرفة أو فهمًا عميقًا لموضوع ما، بينما في الواقع يكون هذا الفهم سطحيًا أو خاطئًا تمامًا.
هذا النوع من الوعي يمثل خطرًا كبيرًا على المجتمع، وربما يكون أخطر من التفاهة نفسها.
والسؤال هنا، لماذا؟
الجواب:
- التصرفات الخاطئة: يؤدي الوعي الزائف إلى اتخاذ قرارات خاطئة مبنية على معلومات مغلوطة، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على مستوى الفرد والمجتمع، مثل اعتقاد النظام السوري أن استجلاب الدعم الدولي لمكافحة شعبه أفضل من الاستماع للشعب، لحماية نظامه، وبالتالي خسر شعبه وخسر بلده وخسر نظامه الذي تقاسمته هذه الدول المتدخلة.
- صعوبة تغيير المعتقدات: يصعب تغيير المعتقدات المبنية على الوعي الزائف، حيث يميل الأفراد إلى التمسك بها بشدة، حتى وإن كانت الأدلة تدحضها، فعلم الثورة علم ردة، ويجب قتال المرتدين من الثوار قبل الكفار الأصليين الذين هم قوات النظام السوري كما هي سردية داعش والسلفية الجهادية عموما!.
- انتشار المعلومات المغلوطة: يساهم الوعي الزائف في انتشار المعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة، مما يؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات والخبراء.
- تعزيز الانقسام: قد يؤدي الوعي الزائف إلى تعزيز الانقسام والقطبية في المجتمع، حيث يتشبث كل طرف بمعتقداته الخاصة، ويرفض الحوار أو التفاوض.
- عرقلة التقدم: يمنع الوعي الزائف المجتمع من التقدم والتطور، حيث يصبح الأفراد أكثر انغلاقًا على الأفكار الجديدة والبدائل.
ومن الأمثلة على الوعي الزائف:
- الاعتقاد بأن العلاجات البديلة أكثر فعالية من العلاجات التقليدية مما قد يؤدي إلى تأخير العلاج الطبي اللازم، وحتى الوفاة.
- الاعتقاد بأن المؤامرات تحكم العالم: يؤدي هذا الاعتقاد إلى فقدان الثقة في المؤسسات الحكومية والسياسية كمؤسسات معنوية.
- الاعتقاد بأن التغير المناخي ليس حقيقيًا: يؤدي هذا الاعتقاد إلى تجاهل الأزمة المناخية وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهتها.
لهذا نحتاج للتمييز بين الوعي الحقيقي والوعي الزائف، وذلك من خلال:
- التحقق من صحة المعلومات من مصادر موثوقة.
- تحليل المعلومات وتقييمها بشكل منطقي، وعدم قبول أي شيء دون دليل.
- الاستعداد لتغيير أفكارنا إذا ظهرت أدلة جديدة تدحضها.
- أن نكون مستعدين للحوار البناء مع الآخرين، والاستماع إلى آرائهم المختلفة.
إن الوعي الزائف يمثل تهديدًا خطيرًا على المجتمع، ويجب علينا جميعًا أن نسعى إلى تطوير تفكيرنا النقدي، والتحقق من المعلومات، والابتعاد عن المعتقدات التي لا أساس لها من الصحة.
خاتمة:
تحدث كثير من المفكرين عن التفاهة ومجابهتها وخطورتها مثل “آلان دونو” الذي قدم تحليلاً عميقًا لظاهرة التفاهة في كتابه “نظام التفاهة”، حيث ربط بين هذه الظاهرة وتراجع دور المثقف وسيطرة الاقتصاد على الحياة الاجتماعية.
و”حاجي خليفة” حيث كتب عن أهمية العلم والمعرفة الحقيقية، وحذر من خطر التخصص الضيق الذي يؤدي إلى فقدان الرؤية الشاملة.
بل يمكن ذكر “كارل ماركس” الذي تحدث عن تأثير العولمة والرأسمالية على المجتمعات، وكيف أن ذلك يؤدي إلى تهميش الطبقات العاملة وتفشي الظلم الاجتماعي.
وخوفاً من الخروج من مشكلة التفاهة والوقوع بفخ الوعي الزائف فإننا نوصي بما يأتي:
- العودة إلى القراءة المنظمة، فالقراءة تساعد على توسيع مداركنا وتعميق فهمنا للعالم.
- التفكير النقدي والشك في كل ما يقدم.
- المشاركة في الحياة العامة، ومحاولة إحداث تغيير إيجابي.
- دعم المؤسسات الثقافية والمعرفية.
لاشك أن التفاهة سيئة، ولكن الوعي الزائف الذي يخلق أمثال داعش والشبيحة أشد خطورة على الإنسان والمجتمع على حدّ سواء.
المكتب العلمي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
مقالات
تيار المستقبل السوري