المكتب السياسيالمكتب العلميجمعة محمد لهيبقسم البحوث و الدراساتمقالات

الشعب السوري واحداً

بعد أكثر من عقد على الثورة الشعبية السورية وماجرّته من تشظٍّ داخلي وخارجي، هل ما زال بالإمكان القول: (الشعب السوري واحد) ؟.
يظهر من متابعة وسائل التواصل المختلفة السورية نوع من المخيال المُجرد والمثالية المُفرطة، إذ يتمظهر هذا السلوك في عداء علني لجميع او لبعض سلطات الأمر الواقع الأربعة “الائتلاف، قسد، الإنقاذ، النظام” في حالة من الإنكار للعمق الشعبي لهذه السلطات، إضافة لانكار الواقع السياسي الحالي الداخلي في سورية، والذي بات واضحاً أن الافرازات الحقيقية للسوريين باتت أكثر وضوحا، هذا إذا اعتبرنا أن حراك درعا والسويداء منضوياً تحت سلطة النظام السوري كمعارضة داخلية سواء عنفية أو سلمية.
بتنا نجد تطبيعاً فكرياً مع طريقة التفكير الأحادية التي كانت صفة وجودية بنظام البعث وحكم الأسد، فنظام البعث كان ومازال يرفض أي صوت معارض لا ينضوي تحت عباءة أحزاب الجبهة الوطنية وعيون مخابراته، رغم خسارته لأكثر من نصف المساحة السورية فلازال الخطاب البعثي قائما على تخوين ومعاداة ورفض مجرد الاعتراف بالأطراف المقابلة.
تستمر طريقة التفكير الأحادية لدى جميع الأطراف السورية الأربعة تقريبا، فنشاهد الإئتلاف وهو يرفض التطبيع مع النظام وقسد والهيئة، ونشاهد قسد وهي تصف المعارضة بالتتريك والإرهاب والاحتلال، ونجد الهيئة وهي تعتبر نفسها الثورة الحقيقية التي استطاعت الحفاظ على الكيان السني من التغول النصيري الشيعي، وتحت كل سردية حاضنة واعية متفاعلة بل ومشاركة سواء بالبُنى التنظيمية أو حتى الهوياتية، لتُدافع عن مشروعها باعتباره الثورة أو الوطن أو الحق والصواب وغيره شر وتآمر.
لكن مهلاً.. هل في هذه النظرة الأحادية سوء؟
الحقيقة أن ذلك موقف سياسي وفكري وأيدلوجي يجب اعتباره حقاً إنسانيا، مهما كنا ضد طريقة التفكير الأحادية، فهي تبقى طريقة تفكير لا يمكن قمعها أو تبرير قمعها ونحن من ننادي بضرورة الحرية الإنسانية وتطبيق مواثيق حقوق الانسان.
إذا اين المشكلة؟
المشكلة هي في فقدان العقد الناظم لكل تلك الدعوات، فقدان النواة الجامعة التي يجب أن تتخلق لتحمي الكيان السوري، لتحمي البلد والوطن من التفتت والانقسام والاستمرار في بحار الدم والصراع الذي لا يبدو أن له نهاية يقررها السوريون.
لقد أثبت الواقع أن السوريين ليسوا واحداً، وليس في ذلك عار وعيب، بل العيب أن يكونوا واحداً أصلا كأنهم روبوتات مصنوعة من معمل واحد يتخذون نفس طريقة التفكير ونفس الخيارات السياسية والفكرية ونفس المنهجية سلما أو عنفا، ونفس المسارات والالتزامات الداخلية والخارجية..
إن دلالة تطور وعي شعب ما هو تنوعه وقدرته على اتخاذ مواقف متباينة، أمر آخر: لأن البشر مازلوا في رحلة تطورهم البيولوجي لم تكتمل أدمغتهم لتصل للكمال التوعوي فمن الطبيعي جداً أن نرى هذه النظرة الأحادية الرافضة للمخالف، بل التي تعتبره خارجا عن الحق والصواب.
ماهي النواة أو العقد الناظم إذا؟
بما أن الطبيعة البشرية هي الاختلاف، وبما أنه لا يملك أحد الحق والصواب المطلق، وبما أن الحقيقة واحدة في جوهرها متعددة في تمظهراتها، إذا لا يمكن بأي حال من الأحوال رفض الاختلاف سياسيا كان أو فكريا أو حتى دينيا..
وفي تجربة كورونا أكبر دليل على أن المنهج التجريبي حتى لم يستطع إعطاء القطعية الدلالية للحقيقة، فكان أكثر من ربع البشر يرفضون الوقاية من ذاك الوباء، ويعتبرونه مؤامرة خفية شريرة لحكم العالم!، هذا ونحن شهود على حالات فقدنا فيها أحبة بسبب هذا الوباء، ومنهم والدي رحمه الله الذي كان رافضا لاتخاذ وسائل الوقاية رغم ضعف مناعته كمريض معافى من السرطان ليفتك الفيروس برئتيه ويفارق دنيانا رحمه الله وجميع أمواتكم.

إذا كان المنهج الاستقرائي والتجريبي قد فشل في اقناع البشر فكيف بالمناهج الاستنباطية الأقل دلالة والتي تحكم على خياراتنا الفردية سياسيا وفكريا وأيدلوجيا؟
إذاً أولى خطوات النواة هي في الاعتراف أن للحقيقة تمظهرات متنوعة تتبع للفرد وقدراته، وللواقع المعقد الذي يلامس تلك القدرات الفردية. لا يعني ذلك أن نعادي أصحاب العقلية الأحادية في طريقة تفكيرهم، بل أن يعتبروا أن من حق غيرهم من السوريين أن يكون لهم خيارتهم حتى لو كانت خاطئة!.
فليبقى النظام ينادي بتخوين المعارضات لديه، وليبقى الإئتلاف يعتبر قسد خارجة عن المنظور الوطني، ولتبقى قسد معتبرة غيرها إرهاباً متطرفاً، ولتبقى الهيئة تعتبر غيرها متغولاً على الحق السني السياسي..
ولكن فليجتمعوا على نواة ناظمة يتفقون عليها، ألا وهي “الدولة الوطنية”.
ومعنى الدولة هنا هو المؤسسات التي تشمل جميع السوريين وتنظر لهم بسواسية، وتسمح لهم بالممارسة السياسية والاجتماعية بحرية، وتمنع التغول على أي خيار سوري مهما كان هذا الخيار، حتى لو نادى بما ينادي به.
الدولة التي ينبغي أن تكون العقد الناظم لكل السوريين غير مأسورة لطرف أو مكون، الدولة التي تمثل السوريين كلهم عبر مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية.
والوطنية هنا بمعنى سيادة هذه الدولة على الإقليم الترابي المتفق عليه دولياً والمعروف بـ “سورية”.
سيظل غياب النواة هذه “الدولة الوطنية” عامل (ضياع الهوية السورية) لا يعرف الفردُ نفسه نحو أي هدفٍ يسير، بل يظل بين لا مبالٍ كما هو حال بعض الشعب السوري، ومتفاعل مع المنظومات الأيدلوجية والسياسية المتباينة السورية، في حالة من البحث في غرفة ظلماء عن قطة سوداء في ليلة دكناء.
وبنفس الوقت لن تأتي هذه النواة الناظمة بالحل السحري! ولن تُنهي الصراع الدائر، إذ الصراع مرتبط برهانات مختلفة، ولكنها ستكون البوصلة التي تُوحد السوريين جميعهم، توحد طريقهم على أقل تقدير، فإذا بمسارهم وهو يُشذّب العقبات نحو هدف موحد.
هذه النواة في جوهرها هي ما يجعل الشعب السوري واحداً، وهي ما تجعل إمكانية الاجتماع الداخلي أو الخارجي شرعيا، بل وهي ما تجعل الحل حقيقياً لكل السوريين، عدا المتأمرين والخونة منهم الذين يهمهم استمرار حالة العداء السوري دون أفق لوقفه.

جمعة محمد لهيب
المكتب السياسي
قسم البحوث والدراسات
مقالات
تيار المستقبل السوري

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى