الحداثيون دورٌ وأهمية
استهلال:
الأفكار السياسية الحداثية، هي مجموعةٌ من المفاهيم والتوجهات التي ظهرت خلال العصر الحديث، تهدف إلى إعادة تشكيل النظم السياسية والمجتمعية، حيث تتميز هذه الأفكار بالتركيز على:
- العقلانية: من خلال اعتماد العقل والمنطق كأداة لفهم العالم وتنظيمه، بدلاً من الاعتماد على التقاليد والأعراف.
- الفردية: عبر التأكيد على حقوق الفرد وحرياته، وتقليص سلطة الدولة والمؤسسات التقليدية.
- التقدم: من خلال الاعتقاد بأن التاريخ يسير نحو الأمام، وأن المجتمعات تتطور باستمرار نحو حالة أفضل.
- الديمقراطية: من ناحية الإيمان بحق الشعب في اختيار حكامه ومشاركتهم في صنع القرار.
- القومية: عبر الاعتزاز بالهوية الوطنية، والعمل على توحيد الشعوب ذات الأصل الواحد.
- العلمانية: عبر فصل الدين عن الدولة، وإعطاء الأولوية للقوانين الوضعية.
ولعل أبرز سمات الحداثة السياسية:
- تشجيع التغيير والتجديد في جميع المجالات: وصولاً إلى التغيير المجتمعي.
- الدعوة إلى المساواة: بين جميع أفراد المجتمع.
- العدالة الاجتماعية: والسعي لتحقيق العدالة، والتوزيع العادل للثروات.
- التأكيد على أهمية: الحريات الفردية والسياسية.
ومن الأمثلة على الأفكار السياسية الحداثية:
- الثورتان الفرنسية والأمريكية: واللتان أسستا لمفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- الاشتراكية والشيوعية: اللتان تسعيان إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة.
- الليبرالية: والتي تؤكد على أهمية الحريات الفردية و الاقتصاد الحر.
- القومية العربية: التي تسعى إلى توحيد الشعوب العربية في بلادنا.
ومما يجب ملاحظته أن الحداثة السياسية ليست نظرية واحدة، بل هي مجموعة متنوعة من الأفكار والنظريات، كما أن الحداثة السياسية تطورت وتغيرت على مر الزمن، وتأثرت بالظروف التاريخية والاجتماعية.
وقد واجهت الحداثة السياسية انتقادات من قبل العديد من الفلاسفة والمفكرين، الذين يرون أنها أدت إلى مشاكل اجتماعية وسياسية.
أنواع الحداثيين وتوجهاتهم:
التوجهات أو الأحزاب الحداثية تتخذ أشكالاً متنوعة وتتطور باستمرار تبعاً لاختلاف تصورات الحداثيين أنفسهم، ولكن يمكن تصنيفهم بشكل عام إلى الأنواع التالية:
- الأحزاب الليبرالية: والتي تؤمن بحرية الفرد، والاقتصاد الحر، وحكم القانون، وتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد والشؤون الشخصية.
- الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية: حيث تجمع بين قيم الديمقراطية الليبرالية والعدالة الاجتماعية، وتدعم الاقتصاد المختلط، مع دور أكبر للدولة في توفير الخدمات العامة.
- الأحزاب الخضراء: والتي تركز على قضايا البيئة والاستدامة، وتدعم الطاقة المتجددة، والسياسات التي تحافظ على البيئة.
- الأحزاب القومية: التي تؤكد على الهوية الوطنية والتراث الثقافي، وتدعم سياسة خارجية مستقلة.
- الأحزاب التقدمية: إذ تبحث عن التغيير الاجتماعي والتقدم، وتدعم حقوق الأقليات والمرأة، وتعارض التمييز.
ومن المفيد هنا ذكر العوامل التي تؤثر على تصنيف هذه الأحزاب الحداثية، والتي نراها بـ :
- الأيديولوجية أو المبادئ والقيم التي يؤمن بها الأفراد أو الكيانات.
- البرامج السياسية، والسياسات التي يطرحها الحزب لتحقيق أهدافه.
- الهيكل التنظيمي، وكيفية تنظيم الحزب واتخاذ القرارات فيه.
- الجمهور المستهدف، وهي الفئة الاجتماعية التي يستهدفها الحزب.
ومن الأمثلة على الأحزاب الحداثية:
- الأحزاب الليبرالية: مثل الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، حزب المحافظين في المملكة المتحدة.
- الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية: مثل الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا، وحزب العمال في المملكة المتحدة.
- الأحزاب الخضراء: مثل حزب الخضر في ألمانيا، حزب الخضر في فرنسا.
- الأحزاب القومية: مثل حزب القانون والعدالة في بولندا، حزب الحركة الوطنية في تركيا.
- الأحزاب التقدمية: مثل حزب Podemos في إسبانيا، حركة خمس نجوم في إيطاليا.
ومما يجدر قوله، أن هذا التصنيف ليس مطلقاً، فقد ينتمي حزب واحد إلى أكثر من تصنيف، أو قد يتغير تصنيفه بمرور الوقت، كما أن التنوع الحزبي يعد ثراءً للديمقراطية، ويسمح للمواطنين باختيار الأحزاب التي تمثلهم بشكل أفضل.
في سورية يمكن القول أن الحداثيين يفتقدون لكيانات وأحزاب يتفاعلون معها بسبب حالة الاستبداد قبل الثورة السورية عام 2011، وحالة الثورة وما أفرزتها من تَشَظٍّ فتطرف فتوجهات صدامية ثم تدخلات خارجية، وتبقى جهود الحداثيين السوريين من تأسيس قوى ديمقراطية أو علمانية تحتاج نضوجاً ودعماً وترسيخاً.
دور وأهمية:
تلعب الأحزاب الحداثية دوراً محورياً في بناء الدولة والوطن والحضارة، وذلك لعدة أسباب:
- تطوير البرامج السياسية: حيث تساهم الأحزاب الحداثية في وضع برامج سياسية شاملة تهدف إلى تطوير مختلف جوانب الحياة، مثل الاقتصاد والتعليم والصحة والبنية التحتية.
- تعبئة الرأي العام: حيث تعمل الأحزاب الحداثية على تعبئة الرأي العام حول القضايا المهمة، وتوعية المواطنين بحقوقهم وواجباتهم.
- المشاركة في صنع القرار: من خلال تمثيل مصالح شرائح واسعة من المجتمع.
- ضمان التداول السلمي للسلطة: إذ تساهم الأحزاب الحداثية في ترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتعزيز الاستقرار السياسي.
- مكافحة الفساد: حيث تسعى الأحزاب الحداثية إلى مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية والمحاسبة.
- بناء المجتمع المدني: من خلال دعم الأحزاب الحداثية بناء المجتمع المدني، وتشجع المشاركة المجتمعية.
- الحفاظ على الهوية الوطنية: وتعزيز الانتماء للوطن.
- التحديث والتطوير للمجتمع: من خلال تبني الأفكار الجديدة والتكنولوجيات الحديثة.
باختصار، الأحزاب الحداثية، محرك أساسي للتغيير والتطور، وهي تلعب دوراً حيوياً في بناء دولة قوية ومتقدمة.
ولكن يجب التنويه إلى أن نجاح الأحزاب الحداثية مرتبط بعدة عوامل، منها:
- الشفافية والنزاهة: واحترام مبادئ الديمقراطية والعدالة.
- أن تمثل مختلف شرائح المجتمع: وأن تأخذ بعين الاعتبار مصالح الجميع.
- القدرة على التكيف مع التغيرات المتسارعة في العالم: وتبني الأفكار الجديدة والرؤى المستقبلية، وعدم الجمود.
سلبيات الحداثيين:
لطالما كانت الحداثة موضوعًا للنقاش والحوار، وقد أثيرت العديد من الانتقادات حولها، خاصة فيما يتعلق بتأثيرها على المجتمعات والثقافات المختلفة، وعلى الرغم من أن الحداثة قدمت إنجازات كبيرة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والتنمية، إلا أنها واجهت أيضًا انتقادات عديدة، وخاصة من قبل التيارات التقليدية والدينية.
أبرز الانتقادات الموجهة للحداثيين:
- تهميش القيم التقليدية والدينية: حيث يُتهم الحداثيون بتهميش القيم التقليدية والدينية، والتركيز الزائد على العقلانية والمادية، مما يؤدي إلى تآكل الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات.
- الفردانية المفرطة: تُوَجَّه انتقاداتٌ إلى الحداثيين لتركيزهم المفرط على الفرد وحرياته، على حساب الصالح العام والمصلحة المجتمعية.
- المادية الاستهلاكية: حيث يرى منتقدو الحداثة أنها أدت إلى انتشار ثقافة الاستهلاك المفرط، مما زاد من الفجوات الاجتماعية وفاقم المشاكل البيئية.
- تغريب الثقافات: كما يُتهم الحداثيون بتغريب الثقافات المحلية، وفرض نموذج واحد للتطور على جميع المجتمعات، مما يؤدي إلى فقدان التنوع الثقافي.
- تجزئة المجتمعات: يرى بعض النُقاد أن الحداثة أدت إلى تجزئة المجتمعات، وظهور صراعات جديدة على أسس عرقية ودينية وطائفية.
- تكريس عدم المساواة: حيث يُتهم الحداثيون بتكريس عدم المساواة بين الدول والشعوب، وتركيز الثروة والسلطة في أيدي قلة.
- تدمير البيئة: يرى البعض أن النمو الصناعي والتكنولوجي الذي جاء مع الحداثة أدى إلى تدمير البيئة وتدهور الموارد الطبيعية.
وجهات نظر أخرى:
- الحداثة ليست كتلة واحدة: وليس كل الحداثيين يتبنون نفس الأفكار أو يسعون إلى نفس الأهداف، فهناك اختلافات كبيرة بين التيارات الحداثية المختلفة.
- الحداثة ليست نهاية التاريخ: والحداثة ليست نظامًا مثاليًا، وهي قابلة للتطور والتغيير، كما أن هناك العديد من الأفكار والنظريات التي تسعى إلى تجاوز حدود الحداثة.
- الحداثة ضرورية للتطور: فعلى الرغم من سلبياتها، إلا أن الحداثة لعبت دورًا هامًا في التطور والتقدم، ولا يمكن تجاهل إنجازاتها.
دور الحداثيين في سورية:
لعب الحداثيون دوراً محورياً في تشكيل المشهد السياسي والثقافي في سورية على مر التاريخ، وقد تركوا بصمات واضحة على مسار التطور الاجتماعي والسياسي في البلاد.
ولعل أبرز أدوار الحداثيين في سورية:
- تأسيس الدولة الحديثة: فلقد كان للحداثيين دور بارز في بناء الدولة السورية الحديثة، حيث ساهموا في صياغة الدستور، وبناء المؤسسات، وتأسيس الأحزاب السياسية.
- نشر الثقافة والمعرفة وتشجيع التعليم: ومحاربة الأمية، وإدخال الأفكار الحديثة في مختلف المجالات.
- النهوض بالمجتمع المدني وتقوية مؤسساته: ودعم الحريات العامة.
- مواجهة الاستعمار: والدفاع عن استقلال سورية.
- التحديث والتطوير: حيث سعوا إلى تحديث المجتمع السوري، وتطوير البنية التحتية، وتنويع الاقتصاد.
- الدفاع عن القضايا العربية: فلقد كانوا من أبرز المدافعين عن القضايا العربية، ودعموا الوحدة العربية.
وأما عن التحديات التي واجهها ويواجهها الحداثيون السوريون فهي برأينا:
- التيارات التقليدية: حيث واجهوا مقاومة شديدة من التيارات التقليدية والمحافظة التي كانت ترفض التغيير والتحديث.
- التدخلات الخارجية: فلقد تأثرت جهود الحداثيين بالتدخلات الخارجية، والتي سعت إلى عرقلة مسيرة التطور والتحديث في سورية.
- الصراعات الداخلية: حيث شهدت الساحة السياسية السورية صراعات داخلية حادة بين مختلف التيارات السياسية، مما أضعف دور الحداثيين.
- غياب الديمقراطية: إذ غياب الديمقراطية الحقيقية وحكم الرجل الواحد، أضعف من دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، بما فيها التيارات الحداثية.
وفي ظل التحديات الراهنة التي تواجهها سورية، يواجه الحداثيون تحديات جديدة، تتمثل في:
- الحرب العسكرية: لقد أدت الحرب العسكرية بين النظام السوري من جهة والشعب من جهةٍ أخرى، وما جرّه من تدخل خارجي إلى تدمير البنية التحتية للمجتمع السوري، وتشتيت النسيج الاجتماعي، مما أضعف من دور الحداثيين.
- التطرف والإرهاب: يشكل التطرف والإرهاب تهديداً كبيراً للمشروع الحداثي في سورية، حيث يسعى هؤلاء إلى إعاقة التطور والتقدم، ويحملون فكرا معاديا للعلمانية والديمقراطية والليبرالية.
- أدت الهجرة الجماعية: للسوريين إلى فقدان البلاد لكثير من كوادرها وكفاءاتها خصوصا الحداثيين منهم.
ختاماً:
رغم التحديات التي تواجههم، لا يزال الحداثيون في سورية يلعبون دوراً هاماً في بناء مستقبل أفضل للبلاد، فهم يمثلون القوة الدافعة نحو التغيير والتحديث، ويسعون إلى بناء دولة ديمقراطية عصرية تحترم حقوق الإنسان والحريات العامة.
ومانراه أنه لا يمكن حصر الحداثيين في فئة واحدة، فهم يمثلون تيارات وأفكار متنوعة، كما وإن الأفكار الحداثية قد تطورت في سورية على مر الزمن، وتأثرت بالتغيرات الإقليمية والدولية، إضافة إلى ما يواجه الحداثيين من تحديات مستمرة، تتطلب منهم المزيد من الجهد والعطاء.
إن الحداثة ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه، ولا يمكن الحكم عليها بشكل قاطع إيجابًا أو سلبًا! ومن المهم أن ننظر إلى الحداثة بشكل نقدي، وأن نستفيد من إيجابياتها، وفي نفس الوقت نعمل على تجاوز سلبياتها، ولهذا نرى ضرورة إيلاء الاهتمام بالحداثيين وضرورة دورهم الوطني ودعم وجودهم الايجابي ومساعدتهم للتخلص من السلبيات التي تُبعدهم عن التأثير الوطني.
كما يجب أن نأخذ في الاعتبار السياق الثقافي والاجتماعي لكل مجتمع عند تقييم الحداثة، وأن نسعى إلى تحقيق التوازن بين الحداثة والتقاليد، بين الفرد والمجتمع، وبين التنمية والحفاظ على البيئة.
إن للحداثيين أهمية كبيرة لتعافي سورية من أمراضها، ولهذا نوصي بتفعيل دورهم، ودعمهم، لتكون سورية غنية بشعبها، مستعيدة دورها الحضاري، ومتفاعلة مع الواقع الحالي.
د. زاهر إحسان بعدراني
مكتب الرئاسة
مقال
تيار المستقبل السوري