
في تقرير حديث لصحيفة واشنطن بوست حول النشاط الإسرائيلي في سوريا بعنوان "كيف تسعى الأنشطة السرية الإسرائيلية في سوريا إلى إحباط حكومتها الجديدة How Israeli covert activities in Syria seek to thwart its new government"، تم طرح معلومات مزعومة مفادها أن إسرائيل، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) تعملان على دعم فاعلين دروز في الجنوب السوري، بما قد يؤدي إلى تقويض استقرار الحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع.
التقرير، من حيث الشكل، يستند إلى مصادر متعددة، ويُقدَّم بلغة استقصائية جذابة. غير أن الإشكال لا يكمن في المعلومات الجزئية التي يوردها، بل في التركيب العام للرواية، وطريقة تعميمها، ومدى اتساقها مع الوقائع السياسية والاجتماعية والاستراتيجية المعروفة في سوريا والمنطقة.
رواية قسد: تَناقض في منطق السياسة
منذ عام 2015، تشكّل قسد أحد أبرز أدوات السياسة الأميركية في سوريا. فهي ليست فاعلاً مستقلاً، بل قوة عسكرية تعتمد وجودياً على الغطاء الجوي الأميركي، والتمويل، والتدريب، والشرعية الدولية التي توفرها واشنطن. أي تحرك استراتيجي لقسد، خصوصاً خارج مناطق سيطرتها المباشرة، لا يمكن فصله عن السياسة الأميركية أو تخيّله بمعزل عنها.
من هنا، يبرز التناقض المركزي في التقرير:
إذا كانت إدارة ترامب، كما أعلنت مراراً بعد سقوط نظام الأسد، ملتزمة بدعم الحكومة السورية الجديدة باعتبارها مدخلاً لاستقرار البلاد، فلماذا تسمح، أو تغض الطرف عن تحركات، لقوة مرتبطة بها عضوياً، من شأنها تقويض هذا الاستقرار؟
الافتراض الضمني بأن واشنطن تمارس سياسة مزدوجة، دعمٌ علنيٌ للشرع، مع تقويض سرّي له عبر قسد يفتقر إلى المنطق السياسي. فترامب ربط سمعته شخصياً بالدفاع عن خيار التعامل مع الشرع، رغم تاريخه الجهادي السابق، وتحمّل كلفة سياسية داخلية مقابل ذلك. فمن غير المعقول أن يُغامر بتلويث هذا الخيار عبر مسار استخباراتي عالي المخاطر، وبأداة مكشوفة أصلاً كقسد، ما يفقد أي عملية محتملة عنصر “الإنكار المعقول” الذي تقوم عليه الأعمال السرية.
وبكل الأحوال أمريكا ليست بحاجة، ولا ترامب هو من ذلك النوع، لممارسة احتيالات سياسية "ساذجة". فلو كان ترامب يريد إحباط عمل الحكومة المؤقتة لكان صرح بذلك ومارسه علناً.
الدروز بين الوقائع والتعميم
الإشكال الثاني، والأخطر اجتماعياً، يتمثل في طريقة عرض التقرير للعلاقة مع الدروز.
صياغة التقرير توحي، بشكل مباشر أو ضمني، بأن السويداء ككل، أو الغالبية الدرزية فيها، دخلت في مسار تعاون مبكر مع إسرائيل منذ الأيام الأولى بعد سقوط الأسد. هذا التعميم لا يعكس الواقع المركّب للموقف الدرزي في سوريا، بل يختزله اختزالاً يفتقر للدقة، ويحمل تبعات سياسية وطائفية خطيرة.
من الثابت أن إسرائيل سعت، تاريخياً، إلى التواصل مع قوى محلية مختلفة على حدودها وفي محيطها الإقليمي، بما في ذلك قنوات مع شخصيات أو مجموعات درزية. لكن هذا شيء، وتصوير مجتمع محلي بأكمله كفاعل سياسي متجانس ومتعاون منذ “اليوم الأول” شيء آخر تماماً.
الواقع أن السويداء، حتى وقت قريب، اتسم موقفها بالحذر والانتظار والتردد، لا بالانخراط المبكر في اصطفافات إقليمية. صحيح أن مجزرة يوليو شكّلت نقطة تحوّل حادة دفعت جزءاً من الشارع الدرزي إلى إعادة النظر في علاقته بالسلطة الجديدة، لكن إسقاط هذا الانزياح المتأخر على فترة ديسمبر من العام الماضي، قبل أن تتضح معالم الحكم الجديد أو سياساته، حيث كانت الغالبية السورية بما فيها الدرزية مرحبة بالقادم الجديد، هو إعادة كتابة زمنية للمواقف تخدم السرد أكثر مما تخدم الحقيقة.
مسؤولية الصياغة في سياق طائفي هش
خطورة هذا النوع من التعميم لا تكمن فقط في عدم دقته، بل في أثره المباشر على مجتمع يعيش أصلاً حالة احتقان طائفي حاد. فحين تُقدَّم جماعة دينية كاملة كطرف “متعاون” أو “مشروع انفصالي”، فإن التقرير لا يصف واقعاً فحسب، بل يساهم، ولو دون قصد، في تغذية خطاب الشك والكراهية المتبادل داخل المجتمع السوري.
يزداد هذا الإشكال وضوحاً حين نلاحظ أن التقرير، رغم طابعه التحليلي، لم يضع هذه الاتصالات المفترضة في سياقها التاريخي الأوسع. إذ تجاهل العلاقات السابقة الموثقة بين إسرائيل وفصائل سنية عربية سورية خلال سنوات الحرب، والتي شملت دعماً طبياً ومالياً ولوجستياً لفصائل عربية سنية قرب الجولان، كانت تضم أيضا وجوداً لجبهة النصرة نفسها. هذا الغياب يخلق انطباعاً انتقائياً، وكأن التواصل الإسرائيلي مع فاعلين سوريين ظاهرة مرتبطة بطائفة بعينها، لا بسلوك إقليمي براغماتي ثابت يتواصل مع الجميع لمصالحه.
هل اتخذت إسرائيل قراراً استراتيجياً مبكراً؟
يفترض التقرير، ضمنياً، أن إسرائيل حسمت موقفها مبكراً من الحكومة السورية الجديدة، واتخذت قراراً استراتيجياً بتقويضها منذ الأيام الأولى بعد سقوط الأسد. هذا الافتراض يستحق التوقف عنده، لأنه لا ينسجم مع السلوك الإسرائيلي المعروف في الملف السوري.
فعلى مدى أكثر من عقد، لم تنجح إسرائيل في حسم موقفها حتى من نظام بشار الأسد نفسه. فقد استمر انقسام عميق، داخل المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، حول ما إذا كان بقاء الأسد، كنظام ضعيف ومُنهك ويمكن التنبؤ بسلوكه، أفضل من بديل مجهول قد يفتح أبواب الفوضى على الحدود الشمالية. هذا الانقسام لم يُحسم، ولم يدفع إسرائيل يوماً إلى تبنّي سياسة إسقاط النظام أو إنقاذه، بل إلى إدارة الصراع من مسافة، عبر منع التمركز الإيراني وتجنب الانجرار إلى مواجهة شاملة.
في هذا السياق، يصبح من الصعب تصور أن إسرائيل قد انتقلت، "من اليوم الأول"، إلى تبنّي قرار استراتيجي عدائي تجاه حكومة جديدة تسعى للاعتراف الدولي، ولم تُظهر حتى الآن نزعة تصعيدية تجاهها. الأهم من ذلك، أن أي سيناريو يؤدي إلى تفجير صراع داخلي سوري على أساس اتهامات "التعاون مع إسرائيل" يشكل خطراً أمنياً مباشراً على تل أبيب، لا مصلحة لها فيه. فإسرائيل، تاريخياً، تفضّل خصماً واضحاً ومردوعاً على حدودها، على فوضى أهلية تُنتج فاعلين مسلحين غير منضبطين، وتحوّل “العمالة” إلى وقود صراع مفتوح.
قد يُقال إن إسرائيل تريد تأمين بعض الكروت لاستخدامها عند الحاجة في سورية، وهذه سياسة معروفة في الصراعات الجيوسياسية. لكن هل هذا يبرر ما قدمه التقرير، أو أوحى به من استمرار مخاطرة إسرائيل بضرب حكومة دمشق من خلال السويداء، وأيضا بتعارض واضح مع سياسة ترامب في سورية؟
الناحية الأخيرة التي تكلم عنها التقرير هي دور العميد السابق الدرزي في الجيش الإسرائيلي حسون حسون في الضغط لانتهاج إسرائيل هذه السياسة. لكن هل فعلا هذه القرارات الكبيرة يمكن اتخاذها في إسرائيل بناء على رؤية أو رأي ضابط بالجيش؟ الواقع يقول أن هذا القرار أكبر من مجرد رأي لعميد سابق، من الواضح أن قراره ذا خلفية عاطفية.
الصحافة التفسيرية وحدودها
يندرج التقرير ضمن مدرسة “الصحافة التفسيرية”، التي لا تكتفي بعرض الوقائع، بل تسعى إلى استخلاص معناها السياسي. هذا الأسلوب مشروع ومهم، لكنه يصبح إشكالياً عندما يُنتج سردية متماسكة صحفياً، لكنها غير متماسكة استراتيجياً واجتماعياً.
في الحالة السورية، يبدو أن مخاوف غربية تقليدية من، تفكك الدولة، صراعات الأقليات، سيناريوهات الفوضى، قد أُسقطت على واقع لا يزال في طور التشكل، فتم تقديم احتمالٍ على أنه مسارٌ قائمٌ، وتعميم حالات جزئية على مجتمعات كاملة.
خلاصة
لا يعني هذا النقد أن كل ما ورد في تقرير واشنطن بوست خاطئ أو مختلق. لكنه يشير إلى أن الرواية، بصيغتها الحالية، تعاني من ضعف في منطق السياسة، ومن تسرّع في التعميم الاجتماعي، ومن قفز غير مبرّر إلى استنتاجات استراتيجية كبرى.
فقسد لا تستطيع، ولا تملك مصلحة، ولا يُعقل أن تُخاطر بحلفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة عبر خطوات تناقض السياسة الأميركية المعلنة. كما أن الدروز في السويداء لا يمكن اختزالهم في موقف واحد أو زمن واحد، ولا تحميلهم سردية سياسية جاهزة في لحظة وطنية شديدة الحساسية.
بين التحذير المشروع والتأطير المبالغ فيه، يبقى التحدي أمام الصحافة الكبرى هو التمييز بين ما يحدث فعلاً، وما يُخشى أن يحدث، وعدم الخلط بينهما، خاصة حين يكون الخلط ذاته وقوداً إضافياً لانقسامات لم تندمل بعد.