الملخص:
تهدف هذه الدراسة إلى بيان التأصيل الفقهي لمفهوم الزكاة التمكينية في ضوء المذاهب السنية الاربعة، واظهار اتساقه مع المقاصد العامة للشريعة الاسلامية، بوصفه أداة فاعلة لتحويل الفقير من دائرة الحاجة المستمرة إلى دائرة الكفاية والانتاج.
كما تسعى إلى اسقاط هذا التصور على واقع سورية خلال مرحلتها الانتقالية، بوصفها مجتمعا يعاني من اثر نزاع طويل وانهيار اقتصادي وبنيوي عميق.
تعتمد الدراسة المنهج الوصفي التحليلي الاستنباطي، من خلال تتبع أقوال الفقهاء في أبواب مصارف الزكاة، وتحليلها مقاصديا، وربطها بالواقع المعاصر، مع تقديم نموذج حسابي تقديري لحزم التمكين المقترحة، في ظل غياب بيانات وطنية رسمية دقيقة عن حجم الزكاة في سورية.
وتخلص الدراسة إلى أن الزكاة التمكينية ليست اجتهاداً مستحدثاً خارج النسق الفقهي، بل هي متجذرة في التراث الفقهي المعتبر، وتمثل تطبيقا واعيا لمقاصد الشريعة في رفع الضرر وتحقيق الكرامة البشرية وبناء الإنسان المنتج.
كما تقدم توصيات عملية لاعتماد هذا النموذج لاعادة البناء المجتمعي والاقتصادي في سورية.
المقدمة:
تمثل الزكاة أحد أركان الإسلام ومن أهم أدواته في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي. وهي نظام تكافلي قائم على تحقيق الكفاية وصيانة كرامة الانسان.
غير أن الممارسة الواقعية للزكاة في كثير من المجتمعات المعاصرة انحرفت عن غايتها الكبرى، فتحولت إلى مجرد اعانة استهلاكية محدودة الأثر، لا تغير من البنية العميقة للفقر.
في سياق سورية الراهن، حيث يعاني قطاع واسع من المجتمع من الفقر المدقع والبطالة وتراجع الإنتاج، تبرز ضرورة اعادة النظر في فلسفة توزيع الزكاة، والانتقال بها من منطق الاعالة إلى منطق التمكين، بحيث تصبح وسيلة نقل من الفقر إلى الكفاية، ومن الحاجة إلى الاستقلال الاقتصادي.
وتنطلق هذه الدراسة من فرضية مركزية مفادها أن صرف الزكاة في مشاريع تمكينية يحقق مقاصد الشريعة بصورة أكمل، وله جذور فقهية معتبرة في المذاهب السنية الاربعة، ويمكن إسقاطه على واقع سورية بوصفه مدخلا لاعادة بناء الانسان المنتج في المرحلة الانتقالية.
وتسعى الدراسة للاجابة عن الاسئلة الاتية:
هل تجيز المذاهب السنية الاربعة تمليك الفقير من الزكاة ما يخرجه من الفقر نهائيا
ما الاطر المقاصدية التي تؤسس للزكاة التمكينية
كيف يمكن تطبيق هذا النموذج في سورية في ظل غياب بيانات وطنية دقيقة
ما الدور الذي يمكن أن للقوى السياسية والمدنية تأديته في تفعيل هذا التصور
أولا، التأصيل الفقهي للزكاة التمكينية في المذاهب السنية الاربعة:
- المذهب الحنبلي:
يقرر ابن قدامة أن المقصود من اعطاء الفقير هو دفع حاجته ورفع وصف الفقر عنه، وإن من حقه أن يعطى من الزكاة ما يتحقق به ذلك. يقول:
"يعطى الفقير والمسكين ما يخرجهما من اسم الفقر والمسكنة إلى الغنى والكفاية"
ويذكر أيضا أنه إذا كان قادراً على العمل لكنه لا يملك الادوات، جاز اعطاؤه من الزكاة ما يكون به قادرا على الاكتساب.
وهذا يدل دلالة واضحة على جواز صرف الزكاة في تمكين الفقير من وسائل الإنتاج، سواء كانت رأسمالا او ادوات عمل أو مشروعا صغيرا. - المذهب الحنفي:
ينص الكاساني على ان العبرة في الاستحقاق بوصف الفقر لا بقدر المال المعطى. ويذكر ان الفقير يجوز ان يعطى ما يكفيه ويغنيه عن السؤال. وعلى الرغم من كراهة بعض فقهاء الحنفية اعطاء الفقير مالا كثيرا دفعة واحدة، الا انهم لم يحرموا ذلك اذا اقتضته المصلحة وتحقيق الكفاية.
ومع تطور الاجتهاد المعاصر عند الحنفية، ذهب عدد من الفقهاء إلى جواز التمكين برأسمال انتاجي للفقير، لانه اولى من الاعطاء المتكرر المحدود. - المذهب المالكي:
يركز المالكية على مفهوم الكفاية معياراً أساسيا في توزيع الزكاة. جاء في الذخيرة ان الفقير إذا اعطي ما يغنيه ويزيل فقره لم يجز اخذ الزكاة بعد ذلك، مما يدل على ان الغاية ليست مجرد الاشباع اللحظي بل زوال الحاجة.
كما يجيز المالكية اعطاء الفقير ما يقيم به حرفة او تجارة تخرجه من دائرة الفقر، والعبرة بزوال الحاجة لا بمقدار المال. - المذهب الشافعي:
ينص النووي على ان الفقير يعطى من الزكاة ما يكفيه بحسب حاله المعتاد، فان كان صاحب حرفة اعطي ما يحتاجه لأدواتها، وإن كان تاجراً اعطي ما يكون رأسمالا لتجارته. وهذا نص صريح في مشروعية التمكين الانتاجي بالزكاة.
ومن خلال هذه الاقوال يتبين اتفاق المذاهب الاربعة في الجملة على ان الغاية من الزكاة هي تحقيق الكفاية، وان التمكين الاقتصادي داخل في دائرة الجواز بل في دائرة الاولى تحقيقا لمقصود الشارع.
ثانيا، الاُطر المقاصدية للزكاة التمكينية:
ترتكز الشريعة الاسلامية على جملة من المقاصد الكلية، من أهمها: حفظ النفس، حفظ المال، حفظ الكرامة الانسانية، تحقيق العدل الاجتماعي.
والفقر المزمن يناقض هذه المقاصد ويؤدي إلى اختلالات اخلاقية واقتصادية واجتماعية واسعة.
ومن هذا المنطلق فان الزكاة التمكينية تحقق عدداً من المقاصد العليا، من أهمها:
رفع الضرر المستمر عن الفرد والاسرة.
تحقيق الكفاية المالية والاستقلال.
اعادة ادماج الفقير في الدورة الانتاجية.
تقليص الاعتماد الدائم على الاعانات.
حماية المجتمع من الفقر المتوارث.
وهذا ينسجم مع القواعد الكلية المقررة في الفقه، ومنها:
الضرر يزال.
التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
وبالتالي فإن اعتماد نموذج الزكاة التمكينية ليس خروجاً عن روح الشريعة، بل هو تجل معاصر واع لمقاصدها الكبرى.
ثالثا، واقع الزكاة في سورية ومشكلة البيانات:
لا توجد حتى تاريخ كتابة هذه الدراسة مؤسسة زكاة وطنية مركزية في سورية تصدر تقارير رسمية سنوية عن حجم الزكاة المدفوعة والموزعة. كما تفتقر البلاد إلى قاعدة بيانات وطنية موحدة بسبب سنوات النزاع والانقسام المؤسسي.
وتشير مراجعة التقارير الدولية إلى ان جزءا كبيراً من الزكاة الخاصة بالسوريين يدفع خارج البلاد لصالح اللاجئين والنازحين، ويدرج غالبا ضمن بنود عامة مثل التمويل الانساني او التبرعات الدينية دون تصنيف دقيق.
وقد اشارت تقارير كل من:
UNHCR – Refugee Zakat Fund
OCHA – Syria Humanitarian Fund
إلى أن عشرات الملايين من الدولارات توجه سنوياً لدعم السوريين حول العالم، ويشكل جزءاً معتبراً منها أموال زكاة، إلا أنه لا يوجد فصل احصائي دقيق خاص بسورية فقط.
وبناء عليه، تعتمد هذه الدراسة منهجا تقديريا شفافا، وتتجنب الجزم بأي رقم محدد لا يستند إلى جهة احصائية مستقلة ومعترف بها.
رابعا، النموذج الحسابي التقديري للزكاة التمكينية:
تعتمد الدراسة حزمة تمكينية افتراضية مقدارها عشرة الاف دولار امريكي لكل مستفيد، بوصفها متوسطا معقولا لإقامة مشروع صغير منتج في السياق السوري.
ويتم احتساب عدد المستفيدين وفق المعادلة التالية:
عدد المستفيدين = مجموع أموال الزكاة المخصصة للتمكين ÷ 10,000 دولار
1- سيناريو محافظ: 10,000,000 دولار
عدد المستفيدين سنويا: 1,000 اسرة
2- سيناريو متوسط: 30,000,000 دولار
عدد المستفيدين سنويا: 3,000 اسرة
3- سيناريو طموح: 100,000,000 دولار
عدد المستفيدين سنويا: 10,000 اسرة
وعليه، يمكن نظريا وخلال خمس سنوات فقط إخراج ما بين 5,000 إلى 50,000 أسرة سورية من دائرة الفقر، إذا تم تخصيص نسبة معتبرة من الزكاة للتمكين الانتاجي بدل الاعانة الاستهلاكية المؤقتة.
وهذه الارقام تبقى تقديرية، لكنها تعكس الامكانات الواقعية الهائلة الكامنة في إعادة توجيه الزكاة بشكل مقاصدي ومنهجي.
خاتمة:
من خلال ماسبق يمكن التوصية بتشكيل هيئة شرعية متخصصة تتبنى مفهوم الزكاة التمكينية استنادا إلى المذاهب السنية الاربعة، واعتماد معيار الكفاية لا مجرد الحاجة المؤقتة، وتقديم التمكين على الاعانة عند تحقق القدرة والجاهزية لدى المستفيد
وأضافة لذلك فإننا في تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:
1- إنشاء صندوق زكاة تمكيني تحت إشراف وزارة الأوقاف ومراقبة المجتمع المدني.
2- تخصيص نسب مرنة بين التمكين والاغاثة في المرحلة الاولى
3- اعتماد نظام تقييم واختبار للمشاريع قبل وبعد التمويل.
4 بناء قاعدة بيانات للفقراء القابلين للتمكين المهني والاقتصادي.
5- ربط مشروع الزكاة التمكينية برؤية مستقبلية لاعادة البناء المجتمعي.
6- التنسيق مع مؤسسات تمويل إسلامي داخل وخارج سورية.
7- نشر تقارير شفافة سنوية لزيادة الثقة العامة بالمشروع
يمكن القول أخيرا، أن هذه الدراسة أثبتت أن الزكاة التمكينية ليست مفهوما دخيلا على الفقه الاسلامي، بل هي امتداد أصيل لمقصد الكفاية الذي قرره فقهاء المذاهب الاربعة. كما تبين أنها تنسجم مع الأدوات المقاصدية لمعالجة الفقر البنيوي في المجتمعات الخارجة من الصراع، وفي مقدمتها سورية في مرحلتها الانتقالية.
وإن تبني سورية لهذا النموذج موقف حضاري أخلاقي يعيد للزكاة دورها الحقيقي بوصفها أداة بناء ووسيلة كرامة وليس مجرد صدقة.
المراجع:
- ابن قدامة، المغني، دار الفكر، ج 2، كتاب الزكاة
- الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، دار الكتب العلمية، ج 2
- النووي، المجموع شرح المهذب، دار الفكر، ج 6
- القرافي، الذخيرة، دار الغرب الاسلامي، ج 3
- الشاطبي، الموافقات في اصول الشريعة، دار المعرفة، ج 2
- UNHCR, Refugee Zakat Fund Annual Report
- OCHA, Syria Humanitarian Fund Annual Report