التسامح كفعل ثوري: قراءة في أخلاقيات المقاومة

التسامح ليس مجرد ضعف أو استسلام بل يمكن أن يكون في جوهره أسمى أشكال المقاومة.
فهذه الحقيقة التي تجلت في تجربة نيلسون مانديلا حين دعا إلى مائدته الحارس الذي كان يعذبه في السجن لا تقرأ فقط كدرس أخلاقي فردي بل ايضا كتعبير عن فلسفة سياسية عميقة تتقاطع مع رؤية اعتبار أن الثورة أخلاقية قبل أن تكون ثورة سلطة أو أسلحة فحقيقة في سجون الجلادين حيث يراد للمعتقل أن يفقد إنسانيته قبل أن يفقد حريته بحيث يصبح التمسك بالكرامة الفردية والجماعية شكلا من أشكال الحرب النفسية المضادة ولكن الأمر الذي يجب علينا تجاوزه هو منطق الثأر والرد والعنف وبدلا من ذلك أن نعمل على بناء مجتمع ديمقراطي حر من رحم المعاناة ذاتها فكما أن مانديلا رفض أن يتحول إلى نسخة من جلاده كذلك علينا نحن أن نرفض أن تبنى حريتنا وديمقراطيتنا على أنقاض الآخر حتى ولو كان ذلك الآخر ظالما.

الثورة الأخلاقية: تفكيك الهيمنة من الداخل

حقيقة ان أخطر أشكال الاستبداد ليس ذلك الذي يمارس من خارج المجتمع بل الذي يتجذر في وعي الناس أنفسهم ولذلك فإن الثورة الحقيقية ليست في الإطاحة بالأنظمة فحسب بل أيضا في التحرر من عقلية الأنتقام والعقلية السلطوية والتي تولد الاستبداد حتى داخل صفوف الثوار أنفسهم فحقيقة إن الهدف من أي ثورة ليس امتلاك السلطة بل تفكيكها لأن السلطة المركزية حتى لو كانت بيد المناضلين تميل دوما إلى إعادة إنتاج علاقات القمع السابقة وفي هذا السياق يكتسب التسامح بعدا استراتيجيا أخلاقيا فهو ليس تنازلا عن العدالة،فقط بل تأسيس لعدالة جديدة لا تعيد إنتاج حلقة الانتقام بل تقطعها نهائيا فحقيقة ان العدالة الحقيقية لا تتحقق بالعقاب بل بإعادة بناء العلاقات الاجتماعية على أسس متساوية وديمقراطية فحقيقة إن التسامح يرتبط بشكل أساسي بالحياة الديمقراطية لأن المجتمع الذي لا يحتمل تنوعه ولا يغفر أخطاءه هو مجتمع عقيم عاجز عن الابتكار أو التقدم فالتسامح ليس ترفا أخلاقيا بل شرط وجودي لبقاء المجتمعات المتنوعة.

حين يصنع الضحايا سلاما لا ينتصر عليه

حقيقة ليس موقف مانديلا استثناء منعزلا بل هو جزء من نسيج بشري عالمي تكرر في لحظات حرجة من تاريخ البشرية حيث اختار الضحايا أن يفتحوا صفحة جديدة لا تمحى فيها الذكريات بل تتحول عبرها إلى حكمة جماعية.
فحقيقة في رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994 التي راح ضحيتها نحو 800 ألف شخص في مئة يوم لم تكتف الدولة بإعادة بناء المؤسسات بل اعتمدت على نظام الغاكاكا أي المحاكم الشعبية التقليدية التي حولت العدالة من منطق العقاب إلى منطق الاعتراف وإعادة الإدماج فحقيقة لم يكن الهدف سجن الجناة فحسب بل جعلهم يعترفون بأفعالهم أمام مجتمعاتهم ويعيدوا بناء العلاقات التي دمروها لم يكن ذلك تسامحا سهلا بل وعيا جماعيا بأن العدالة التي لا تعيد ربط النسيج الاجتماعي ستولد كراهية جديدة.
أما في البوسنة والهرسك فما تزال مبادرات مثل الأمهات من سريبرينيتسا تدعو مرتكبي المذبحة إلى الاعتراف لا لمحاسبتهم بل ليعرفوا أننا لا نكرههم رغم كل ما فعلوه
لأن العدو الحقيقي ليس الإنسان بل النظام الذي يصنع منه جلادا

نحو سلام لا يبنى على النسيان بل على الوعي

حقيقة ان السلام المستدام لا يبنى على إلغاء الماضي بل على تفكيك آلياته لأنه لا يكفي أن يتوقف القتال بل يجب أن يتوقف التفكير والقول والفعل الذي ينتج القتال وهنا يصبح التسامح فعلا سياسيا ثوريا لأنه يعيد تعريف العلاقة بين الضحية والجلاد ليس كعلاقة ثنائية من الأنا والآخر بل كعلاقة مشتركة في نسيج واحد من المسؤولية التاريخية. فحقيقة ان دعوة مانديلا لحارس السجن ليست دعوة للنسيان بل للاعتراف المتبادل اي الاعتراف بالألم من جهة وبالإنسانية من جهة أخرى وهي الدعوة ذاتها التي نريد طرحها أي الديمقراطية التشاركية التي لا تقصي أحدا حتى من خان أو قتل طالما هو مستعد للعودة إلى مفهوم الإنسان ، ولكن في الحقيقة في عالم ما زال يدار بالثأر وبالعدو المطلق تبقى هذه الرؤية نادرة وخطيرة نادرة لأنها تطلب من الإنسان أن يتحمل عبء الحرية وخطيرة لأنها تهدد كل من يستفيد من استمرار الكراهية لكنها في النهاية قد تكون السبيل الوحيد لبناء وطن لا يبنى على جماجم الآخرين بل على أحلامهم المشتركة.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع