النشأة والخلفية الثقافية:
وُلد محمد فريد بن مصطفى كرد علي في دمشق عام 1876 لأسرة من طبقة المتعلمين، فأصله الكردي يعود إلى السليمانية، بينما والدته شركسية دمشقية.
تلقى تعليمه في مدرسة كافل سيباي، ثم المدرسة الرشدية، قبل أن ينتقل إلى المدرسة العازرية حيث اكتسب مبادئ العلوم الحديثة.
اعتمد على التعلم الذاتي فأتقن التركية والفارسية والفرنسية، وبرز كأحد أهم مثقفي جيله القادرين على الربط بين التراث العربي والمناهج الحديثة في البحث التاريخي.
التأسيس الفكري والصحافي:
أسس في عام 1906 مجلة المقتبس التي تحولت خلال سنوات قليلة إلى منبر عربي رائد في مناقشة قضايا الإصلاح واللغة والهوية والتعليم والنقد الثقافي.
تميزت المجلة بالجرأة في تناول السياسات العثمانية وبخطاب نهضوي متقدم، ما جعل حضورها مؤثراً في تشكيل الوعي الفكري قبيل نهاية الحكم العثماني.
دوه في حكومة فيصل وبناء الإدارة السورية:
بعد دخول الأمير فيصل إلى دمشق عام 1918، استدعى الكفاءات العلمية للمساهمة في تأسيس الإدارة الجديدة.
كان محمد كرد علي من أبرز تلك الشخصيات، حيث عمل ضمن ديوان المعارف، وأسهم في وضع تصورات أولية لتعريب التعليم وتنظيمه، كما كان مستشاراً ثقافياً ومقرباً من الدوائر الفكرية المحيطة بحكومة فيصل.
تأسيس المجمع العلمي العربي (1919):
يُعد تأسيس المجمع العلمي العربي أهم إنجاز في مسيرة محمد كرد علي، إذ أنشئ عام 1919 برئاسته ليصبح أول مجمع لغوي عربي في العصر الحديث.
وقد لعب المجمع دوراً مؤثراً في:
- تعريب المصطلحات الإدارية والعلمية.
- إصدار معاجم عربية حديثة.
- إحياء التراث المخطوط ونشره بطريقة علمية.
- تعزيز الهوية العربية للسوريين في مواجهة الاستعمار.
ولا يزال المجمع قائماً حتى اليوم كأقدم مؤسسة لغوية عربية مستمرة منذ تأسيسها.
إسهاماته الثقافية والمعرفية:
تركز أثره في ثلاثة مسارات رئيسية:
- التعليم الوطني وتعريب المناهج: شارك في جهود مبكرة لتعريب الكتب المدرسية وترسيخ التعليم الوطني بوصفه أساساً لبناء الدولة.
- التأريخ لسورية: ألّف موسوعته الكبرى خطط الشام بين 1925 و1928 في ستة مجلدات، وهي من أهم المراجع في دراسة مدن الشام وتراثها وتاريخها.
- إحياء التراث العربي: أشرف على نشر المخطوطات واعتماد منهج نقدي حديث في دراسة التاريخ واللغة بعيداً عن السرد التقليدي.
موقفه خلال الانتداب الفرنسي:
بعد سقوط المملكة السورية وحصول معركة ميسلون عام 1920، تعرض لمضايقات من سلطات الانتداب، كما أُبعد لفترات قصيرة عن رئاسة المجمع.
ورغم ذلك استمر في العمل الثقافي المؤسسي محافظةً على هذه المؤسسات من التفكك، وهو خيار استراتيجي فضّل به حماية هوية البلاد العلمية.
وفاته وإرثه الوطني
توفي محمد كرد علي في دمشق عام 1953 بعد مسيرة امتدت لأكثر من خمسين عاماً في الصحافة والتأليف والفكر وبناء المؤسسات.
يعد اليوم أحد مؤسسي النهضة الفكرية السورية الحديثة، وصاحب أقدم مشروع لغوي عربي، وكاتب أحد أهم المراجع التاريخية عن دمشق والشام.
وقد وصف سورية بأنها قلب العروبة تمجيداً لدورها الحضاري، وهو وصف ظل متداولاً في الأوساط الثقافية طوال القرن العشرين.
الأحداث التاريخية الرئيسية:
1906: تأسيس مجلة المقتبس.
1918: دوره في ديوان المعارف بعد دخول فيصل دمشق.
1919: تأسيس المجمع العلمي العربي برئاسته.
1925 – 1928: تأليف موسوعة خطط الشام.
1953: وفاته في دمشق.
خلاصة رمزية:
يمثل محمد كرد علي نموذجاً للمثقف الوطني الذي بُنيت الدولة السورية الحديثة على جهده المعرفي والمؤسسي.
فقد أدرك أن الدولة تبدأ من اللغة، والتعليم، والمعرفة، وأن الاستقلال الحقيقي يتجسد في وعي الأمة بذاتها وتراثها.
إن استذكار إرثه هو استعادة لدور العلماء والمفكرين في بناء دولة القانون والمعرفة، ودعوة لاستمرار مشروع وطني يؤمن بالثقافة والحرية والتنوع.
موقف تيار المستقبل السوري:
يؤكد تيار المستقبل السوري أن استحضار إرث محمد كرد علي هو وفاءٌ لجيل المؤسسين الذين بنوا الأسس الأولى للدولة السورية الحديثة.
وهو أيضاً دعوة لمواصلة الطريق نحو سورية جديدة تتسع لجميع أبنائها، وتقوم على قيم التنوع والثقافة والحرية، وتعيد الاعتبار للمعرفة كقاعدة لبناء مؤسسات الدولة في العهد الجديد.