مقدمة:
في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها سورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، برز اتفاق 10 آذار 2025 بين الحكومة السورية الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بوصفه أحد أهم محاولات إعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة.
غير أن الاشتباكات التي اندلعت بين الجيش السوري و"قسد" في ريف الرقة الجنوبي خلال الأسبوع الثالث من تشرين الثاني 2025، وما تبعها من اتفاق هش لوقف التصعيد في 21 تشرين الثاني، تثير تساؤلات جدية حول مدى صلابة هذا الاتفاق، وقدرته على الصمود في وجه التحديات الميدانية والسياسية المتراكمة.
أولاً، اتفاق آذار 2025 – محاولة لإعادة هندسة العلاقة بين المركز والأطراف:
جاء اتفاق آذار في سياق سياسي استثنائي، عقب انهيار النظام السابق، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع. وقد نص الاتفاق، الذي وقّعه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي، على دمج قوات "قسد" ضمن الجيش السوري، وعودة مؤسسات الدولة إلى مناطق سيطرتها، وتسليم المعابر وحقول النفط والغاز إلى الحكومة المركزية، مع التأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض مشاريع التقسيم.
وقد حُدد تاريخ 31 كانون الأول 2025 كموعد نهائي لتنفيذ بنود الاتفاق.
رغم الترحيب المحلي والدولي بهذا الاتفاق، إلا أن تنفيذه واجه منذ البداية عقبات ميدانية وإدارية، أبرزها غياب الثقة المتبادلة، وتباين الرؤى حول طبيعة الدولة السورية المستقبلية، إضافة إلى استمرار النفوذ العسكري والسياسي للتحالف الدولي في مناطق شمال وشرق البلاد.
ثانياً، اشتباكات الرقة – تصعيد ميداني يهدد المسار السياسي:
في ليلة 19-20 تشرين الثاني 2025، شنّت وحدات من "قسد" هجوماً على مواقع الجيش السوري في بلدة معدان بريف الرقة الجنوبي، ما أدى إلى مقتل جنديين وجرح تسعة آخرين، وفق ما أعلنته وزارة الدفاع السورية.
وقد ردّ الجيش السوري بعملية عسكرية مضادة، استعاد خلالها النقاط التي تسللت إليها "قسد"، وسط تقارير عن استخدام أسلحة ثقيلة وطائرات مسيّرة، وتمثيل بجثث القتلى من عناصر الجيش، ما أثار موجة استياء واسعة في الأوساط العسكرية والرأي العام.
في 21 تشرين الثاني، عُقد اجتماع بين ممثلين عن الجيش السوري و"قسد" بوساطة التحالف الدولي، أسفر عن اتفاق لوقف إطلاق النار ووقف الاستهداف المتبادل، مع تأكيد على الالتزام باتفاق آذار.
إلا أن "قسد" طالبت بانسحاب الجيش من المواقع التي استعادها، وهو ما رفضته القيادة العسكرية السورية، معتبرة أن تلك المواقع تقع ضمن نطاق سيادتها الوطنية.
ثالثاً، دلالات الحدث في سياق المرحلة الانتقالية:
تكشف هذه الاشتباكات عن هشاشة التفاهمات السياسية في المرحلة الانتقالية، وتسلّط الضوء على عدد من الإشكاليات البنيوية:
١- إن استمرار الاشتباكات في مناطق يُفترض أنها خاضعة لترتيبات اتفاق آذار، يشير إلى غياب آليات فعالة لضبط السلوك الميداني، ويعكس ضعف التنسيق العسكري بين الطرفين، رغم مرور أكثر من ثمانية أشهر على توقيع الاتفاق.
٢- يبرز الحدث استمرار الصراع على النفوذ في المناطق الغنية بالموارد، مثل الرقة، حيث ترفض "قسد" التنازل عن مواقع استراتيجية، بينما تسعى الحكومة إلى فرض سيادتها على كامل الجغرافيا السورية، بما في ذلك الحقول النفطية والمعابر الحدودية.
٣- يعكس تدخل التحالف الدولي في الوساطة استمرار تأثيره في الملف السوري، لا سيما في مناطق شمال وشرق البلاد، ما يثير تساؤلات حول مدى استقلالية القرار السيادي السوري في هذه المناطق، ويضعف من قدرة الحكومة على فرض إرادتها الوطنية.
٤- إن التمثيل بجثث القتلى، وهو سلوك مدان أخلاقياً وقانونياً، يهدد بتقويض أي مسعى لبناء الثقة بين الطرفين، ويعقّد من مهمة دمج "قسد" في الجيش السوري، ويثير مخاوف من انفلات ميداني قد ينسف ما تحقق من تفاهمات.
رابعاً، السياق الأوسع – مؤشرات ميدانية مقلقة:
لم تكن اشتباكات الرقة حدثاً معزولاً، بل سبقتها سلسلة من التوترات في مناطق أخرى، منها:
- اشتباكات محدودة في محيط بلدة عين عيسى في أواخر أيلول 2025، على خلفية خلافات حول إدارة المعابر.
- احتجاجات شعبية في مدينة الطبقة في 5 تشرين الأول 2025، طالبت بخروج "قسد" من المدينة وتسليمها للسلطات المحلية.
- توتر في دير الزور بين وحدات من "قسد" ومجموعات عشائرية موالية للحكومة، في منتصف تشرين الأول، على خلفية نزاع حول توزيع عائدات النفط.
هذه الأحداث مجتمعة تشير إلى أن اتفاق آذار، رغم أهميته الرمزية والسياسية، لا يزال يفتقر إلى البنية التنفيذية الصلبة، ويواجه تحديات ميدانية متزايدة.
خاتمة:
إن اتفاق وقف التصعيد في الرقة، الموقع في 21 تشرين الثاني 2025، لا ينبغي النظر إليه كنجاح دبلوماسي بقدر ما هو مؤشر على هشاشة المرحلة الانتقالية، وافتقارها إلى أدوات الضبط والسيطرة. إن نجاح اتفاق آذار، وبالتالي نجاح مشروع إعادة بناء الدولة السورية، يتطلب إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف، وتفعيل آليات تنفيذية مشتركة، وضمانات دولية متوازنة، إضافة إلى إشراك المجتمعات المحلية في صياغة مستقبلها السياسي والإداري.
إن تيار المستقبل السوري يرى أن أي مشروع وطني لا يمكن أن ينجح دون التأسيس لعقد اجتماعي جديد، يقوم على العدالة، والمواطنة، والمشاركة، ويقطع مع منطق الهيمنة والانقسام. وفي هذا السياق، فإن ما جرى في الرقة يجب أن يكون جرس إنذار، لا نهاية المطاف، وفرصة لإعادة تقييم المسار الانتقالي قبل فوات الأوان.