الدعم الاجتماعي ـ الاقتصادي للأسر السورية بعد النزاع

الملخص:

شهدت الأسر السورية خلال العقد الماضي تحولات بنيوية عميقة نتيجة النزاع الممتد، تمثلت في النزوح الواسع، وانهيار شبكات الدعم التقليدية، وفقدان مصادر الدخل، وارتفاع مستويات الفقر متعدد الابعاد.

تستعرض هذه الورقة الإطار النظري للحماية الاجتماعية في سياقات ما بعد النزاع، وتناقش التحديات البنيوية التي تواجه الأسرة السورية، وتقيم البرامج الدولية القائمة، قبل أن تقدم مجموعة من السياسات المقترحة لتعزيز صمود الأسر وتمكينها اقتصاديا واجتماعيا خلال المرحلة الانتقالية.
وترتكز الورقة على رؤية تشجع التحول من الاستجابة الاغاثية الطارئة الى بناء منظومة حماية اجتماعية مستدامة، بما ينسجم مع مبادئ العدالة والمواطنة وسياسات الدولة المستقبلية.
وتخلص الورقة الى ضرورة تصميم سياسات تستجيب للتحولات الديموغرافية والاجتماعية التي فرضتها سنوات النزاع، وتعالج الفاقد التعليمي، وتدعم المرأة وسبل العيش، وتعيد بناء رأس المال الاجتماعي، بما يمكّن الأسرة السورية من لعب دور فاعل في الاستقرار والتنمية في مرحلة ما بعد النزاع.

المقدمة:

أدى النزاع في سورية منذ عام 2011 الى تغييرات جذرية مست البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وكان تأثيره الأكبر على الأسرة بوصفها الوحدة الاساسية للإنتاج والاستهلاك والاستقرار.
وعلى الرغم من كثافة البرامج الانسانية خلال سنوات النزاع، بقيت الاستجابة منحصرة في التمويل الطارئ، من دون الانتقال الى بناء منظومة حماية اجتماعية مستدامة. ومع دخول سورية في مسارات انتقالية وإعادة بناء تدريجية، تبرز الحاجة الى مقاربة جديدة لسياسات حماية الأسر، مقاربة ترتكز على تمكين اقتصادي واجتماعي يعالج جذور الهشاشة ويعزز قدرة الأسر على التكيف والاندماج واستعادة ادوارها.

تهدف هذه الورقة إلى تقديم تحليل متكامل لوضع الأسر السورية، وقراءة العوامل البنيوية التي أصابتها، وتقديم سياسات عملية تتقاطع مع رؤية تيار المستقبل السوري حول بناء دولة المواطنة والعدالة، دولة تكون فيها الأسرة وحدة أساسية في مسار التنمية والاستقرار.

وتعتمد الورقة منهجاً تحليلياً مقارناً يستفيد من أدبيات الحماية الاجتماعية ومن خبرات دول خرجت من نزاعات مشابهة، وترتكز على مصادر أممية وأكاديمية حديثة.

الفصل الاول، الإطار النظري للحماية الاجتماعية في مرحلة ما بعد النزاع:

عرّفت المؤسسات الدولية الحماية الاجتماعية بأنها مجموعة السياسات والبرامج التي تهدف الى تقليل الفقر والهشاشة من خلال دعم الدخل، وتأمين الخدمات، وتمكين الأفراد من مواجهة الصدمات الاقتصادية والاجتماعية [1].
وفي سياقات ما بعد النزاع، تتجاوز الحماية الاجتماعية وظيفتها التقليدية لتصبح أداة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي.

توضح الأدبيات الخاصة باقتصاديات الأسرة أن الأسرة تمثل وحدة إنتاج واستهلاك، وأن قدرتها على الصمود ترتبط بقدرتها على الوصول الى الدخل والخدمات والحماية [2].
كما تشير تجارب البوسنة ورواندا ونيبال إلى أن الحماية الاجتماعية الفاعلة تقلل احتمالات انتكاس النزاعات وتعزز إعادة الاندماج المجتمعي [3].
وفي هذا السياق، تصبح الحماية الاجتماعية في سورية جزءا من مشروع سياسي تنموي، لا مجرد أداة إغاثية. ويعد الانتقال من المقاربة الطارئة إلى المقاربة التنموية شرطا اساسيا لصياغة سياسة عامة تدعم الأسر وتقوي المجتمعات المحلية.

الفصل الثاني، التغيرات البنيوية التي أصابت الأسرة السورية خلال النزاع:

  1. التحولات الديموغرافية:
    شهدت سورية واحدة من أكبر موجات النزوح في العالم.
    وتشير بيانات الأمم المتحدة الى أن أكثر من نصف السكان نزحوا داخليا أو خارجيا [4].
    هذا التشتت الديموغرافي أثّر في بنية الأسرة، وخلق أنماطا جديدة من الأسر التي تعيلها نساء، أو تلك التي فقدت معيلها.
  2. الفقر متعدد الأبعاد:
    تفيد تقارير حديثة بأن معظم الأسر السورية تعيش مستويات متفاوتة من الفقر متعدد الأبعاد يشمل الدخل، والصحة، والتعليم، والغذاء [5].
    ومع تقلص فرص العمل الرسمية، اتجهت الأسر الى اقتصاد غير رسمي هش يفتقر الى الأمان الوظيفي.
  3. تغير أدوار النوع الاجتماعي:
    أسهم النزاع في إعادة توزيع أدوار النوع الاجتماعي داخل الأسرة.
    فقد أصبحت المرأة في كثير من الحالات المعيل الاساسي، فيما اضطرت فئات واسعة من الشباب للعمل في أعمال منخفضة المهارة أو ذات مخاطر.
  4. الأطفال، التعليم والحماية:
    تذكر اليونيسف أن نسبة كبيرة من الأطفال فقدت سنوات من التعليم بسبب النزاع، فيما ارتفعت معدلات عمالة الأطفال، وعانى كثير منهم من انكشاف متزايد للعنف والصدمات النفسية [6].
  5. فقدان شبكات الدعم التقليدية:
    انهار جزء كبير من شبكات الدعم التي كانت تعتمد عليها الأسرة السورية، بما في ذلك العائلة الممتدة، والجوار، والمؤسسات المجتمعية والدينية.
    وقد زاد ذلك من عزلة الأسر ومن هشاشتها الاجتماعية.
  6. التحولات في سوق العمل:
    تقلصت قدرة الاقتصاد الرسمي على خلق وظائف، فيما توسع الاقتصاد غير الرسمي الذي يعتمد عليه ملايين السوريين.
    هذا الواقع جعل الأسر ذات مصادر دخل غير مستقرة، مما ينعكس على قدرتها على التخطيط والاستثمار في التعليم والصحة.

الفصل الثالث، تقييم برامج الدعم الحكومية والدولية:

اعتمدت الأمم المتحدة ووكالاتها منذ عام 2014 خطة الاستجابة الانسانية في سورية HRP، وتضمنت برامج غذائية وتعليمية وصحية.
لكن رغم أهميتها، بقيت هذه البرامج ذات طابع طارئ، ولم تندمج في رؤية تنموية مستدامة.

برامج الأمم المتحدة:
قدمت اليونيسف دعما للتعليم والحماية، بينما قدم برنامج الغذاء العالمي مساعدات غذائية دورية. كما دعمت المفوضية السكن والاحتياجات الاساسية.
إلا أن تغطية هذه البرامج تراجعت مؤخرا بسبب خفض التمويل [7].

الفجوات الرئيسية، حيث تتضمن الفجوات:

محدودية برامج الدعم النقدي طويل الامد

غياب برامج ممنهجة لمعالجة الفاقد التعليمي

ضعف التركيز على تمكين المرأة اقتصاديا

غياب برامج تعيد بناء رأس المال الاجتماعي

قيود الأمن والحوكمة:
تعوق الانقسامات الإدارية والجغرافية وصول البرامج الى المحتاجين، كما تؤثر الأزمات السياسية والاقتصادية في استدامة التمويل وتنسيق التدخلات.

استدامة البرامج:
تشير دراسات مقارِنة إلى أن البرامج التي تظل طارئة لعقد كامل تفقد فعاليتها، وتخلق اعتماداً بدلاً من التمكين [8].
وينطبق هذا على واقع الأسر السورية اليوم.

الفصل الرابع،الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الحرجة للأسر السورية:

  1. التعليم
    يعد التعليم أولوية قصوى، ليس فقط كونه حقاً أساسيا، بل لأنه شرط لإعادة بناء الاقتصاد والحد من الفقر.
    فالمدارس تحتاج الى إعادة تأهيل، بينما يحتاج الطلاب الى برامج تعويض
  2. الصحة والغذاء
    تعاني الأسر من ارتفاع كلفة الرعاية الصحية وانخفاض جودة الخدمات، فيما يهدد انعدام الأمن الغذائي واستقرار الأطفال ونموهم.
  3. تمكين سبل العيش
    يحتاج الشباب والنساء إلى برامج تدريب مهني وربط بسوق العمل، إضافة الى دعم المشاريع الصغيرة وبرامج التمويل الأصغر.
  4. إعادة بناء رأس المال الاجتماعي
    حيث انهار جزء كبير من الثقة بين الأفراد والمؤسسات.
    وهذا يتطلب برامج مجتمعية، وحوارات محلية، ومبادرات مصالحة اجتماعية.
  5. الحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي
    ارتفعت معدلات العنف الأسري خلال النزاع، وتحتاج الأسر إلى برامج حماية ودعم نفسي، ومراكز استماع، وخدمات قانونية.
  6. الأطفال المتأثرين بالنزاع
    تحتاج هذه الفئة إلى برامج دعم نفسي اجتماعي، وإعادة دمج مدرسي ومجتمعي، وحماية من أسوأ أشكال العمل.

الفصل الخامس، سياسات مقترحة لتعزيز الحماية الاجتماعية للأسر السورية:
هذا القسم ينطلق من رؤية سياسية نابعة من توجهات تيار المستقبل السوري.

  1. سياسات دعم الدخل وإعادة هيكلة منظومة الدعم، إذ ينبغي تبني برامج دعم نقدي مشروط تستهدف الأسر الأكثر هشاشة، على ان ترتبط بالعودة للتعليم والرعاية الصحية، فبرامج الدعم المشروط أثبتت نجاحها في أميركا اللاتينية [9].
    كما يجب تصميم شبكات أمان انتقالية تتدرج من الإغاثة نحو التمكين.
  2. التمكين الاقتصادي المستدام، حيث يتطلب تمكينُ الأسر تعزيزَ التدريب المهني الملائم لسوق العمل، وتوفيرَ بيئة تشجع ريادة الأعمال الصغيرة.
    هذا يتقاطع مع تصور سياسي يقدم تمكين المواطنين كمدخل لبناء اقتصاد متنوع يقلل الاعتماد على الدولة ويعزز المسؤولية الفردية والمجتمعية.
  3. سياسات حماية الأطفال والشباب، حيث يجب وضع خطة وطنية لمعالجة الفاقد التعليمي، وتوفير بدائل للتعليم الرسمي، وبرامج لحماية الأطفال من أسوأ أشكال العمل.
    كما ينبغي خلق مساحات آمنة للشباب تعزز شعورهم بالانتماء وتمنع انجذابهم للعنف أو الهجرة القسرية.
  4. دعم المرأة وتعزيز مشاركتها، فالمرأة السورية تتحمل اليوم مسؤوليات مضاعفة.
    لذا يجب الاستثمار في قدراتها من خلال برامج مهنية وتسهيل دخولها سوق العمل. تعزيز استقلال المرأة الاقتصادي جزء أساسي من بناء دولة المواطنة.
  5. تعزيز دور المجتمع المدني، إذ يلعب المجتمع المدني دوراً محوريا في إعادة بناء الثقة، ويمكنه تنفيذ برامج مجتمعية ذات أثر مباشر.
    ومن المفيد هنا إقامة منصات شراكة بين مؤسسات المجتمع المدني ووكالات الأمم المتحدة، بما يضمن تصميم تدخلات تشاركية تستجيب لاحتياجات المجتمعات المحلية.

الخاتمة:

توضح هذه الورقة أن الأسرة السورية تواجه تحديات بنيوية عميقة تراكمت خلال عقد من النزاع. وتبرز الحاجة الى رؤية وطنية للحماية الاجتماعية تعتمد على تمكين اقتصادي، وتعليم نوعي، وحماية للأطفال والنساء، وإعادة بناء الثقة المجتمعية.
إن الانتقال من الإغاثة إلى التنمية خيار سياسي يعكس رؤية دولة قادرة على حماية مواطنيها وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ومن شأن سياسات الحماية الاجتماعية ان تكون مصممة على أسس علمية تضع الأساس لبناء مجتمع متماسك ودولة قادرة على الاستجابة لتطلعات مواطنيها.

المراجع:

  • [1] International Labour Organization, World Social Protection Report, 2023.
  • [2] Becker, G., "A Treatise on the Family", Harvard University Press, 1991.
  • [3] World Bank, "Social Protection in Post-Conflict Settings", 2020.
  • [4] UNHCR, Global Trends in Forced Displacement, 2024.
  • [5] UNDP, Multidimensional Poverty in Syria, 2023.
  • [6] UNICEF, Education Under Fire Report, 2023.
  • [7] OCHA, Humanitarian Response Plan for Syria, 2024.
  • [8] OECD, Resilience in Protracted Crises, 2021.
  • [9] Fiszbein & Schady, Conditional Cash Transfers, World Bank, 2009.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع