المقدّمة:
في سياق المرحلة الانتقالية التي تشهدها سورية بعد إزاحة نظام بشار الأسد، وتمهيداً لتفعيل ما يُعرف بـ «اتفاق آذار»، يأتي قرار تخفيض أسعار المشتقات النفطيّة ليشكّل لحظة مفصليّة في ضبط العلاقة بين الدولة والمواطن، وفي إعادة تشكيل تركيبة الدعم الاجتماعي، وهيكلة الاقتصاد الوطني.
يبدو أن هذا القرار لا يُمكن فصله عن قرارات مرافقة من رفع أسعار الكهرباء إلى تغيّر آليات الدعم، ما يستدعي قراءة اقتصادية وفلسفية متعمّقة.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل الموقع التخصصي لهذا القرار من منظور اقتصادي وسياسي، ثم عرض تبعاته على المواطن، وتقديم توصيات عملية تتوافق مع معايير الانتقال والتنمّة المستدامة، من خلال رؤية تيار المستقبل السوري.
الإطار النظري والفلسفي للاقتصاد الانتقالي:
تُشير كتب الاقتصاد السياسي إلى أن الاقتصاد في مرحلة الانتقال (transition economy) يتحول تدريجياً من نمط دعم عامّ واسع إلى نمط أكثر استهدافاً ومنفعه نحو السوق الحرّ أو شبه الحرّ.
وفي الحالة السوريّة، كما يؤكّد Samer Abboud وFerdinand Arslanian، فإن "معيار الانتقال" يتضمّن تحرير الأسعار، ورفع الكفاءة المؤسّسية، وتعميق السوق الاجتماعية.
ومن زاوية فلسفية، يعكس القرار تحوُّلاً من مفهوم "الدولة الرفاهية المدعومة" إلى "الدولة السوقية المهيكلة"، حيث يُستبدل الدعم العام بدعم مستهدف، والسعر يُصبح أداة تنظيم بدلاً من أداة ردع أو تحفيز.
وفي هذا السياق، فإن تخفيض سعر المحروقات — وإن بدا تناقضياً ظاهِرياً مع رفع أسعار الكهرباء — إلا أنه يمكن قراءته كخطوة استراتيجية لإعادة التوازن الاجتماعي قبل الانتقال الكامل إلى تحرير الأسعار.
تحليل القرار: موقعه الاقتصادي:
- الأبعاد المالية والميزانية:
لقد ظهر في تقارير البنك الدولي أن نسبة الدعم في موازنة سورية قد وصلت في بعض السنوات إلى نحو 42% من الإنفاق العام، ثم تقلّصت إلى نحو 19% في موازنة عام 2023، زمن النظام البائد.
وتخفيض أسعار المحروقات، إذا تمّ ضمن إطار إعادة هيكلة الدعم، فإنه يُخفِّف الضغوط على المالية العامة ويُتيح للدولة توجيه الموارد إلى أولويات إعادة الإعمار والخدمات.
ومن الناحية الاقتصادية، يُمكن القول إنه يُعزّز "عامل الاستدامة" في سياسة الدعم، بدلاً من استمرارها عبر منهجيات غير مستدامة. - كفاءة تخصيص الموارد:
الدعم على الوقود غالباً ما يصبّ لمن يقود مركبة أو يستهلك بنحو يفوق الحاجة، وليس حصراً للفقراء أو المستحقين.
لذا، فإن حذف أو خفض الدعم يرفع من كفاءة تخصيص الموارد، ويحد من التهرّب أو السوق السوداء.
إذ أن تخفيض سعر المحروقات — في حال رافقه ضبط رقابي — يمكن أن يُحوّل الدعم من الوقود إلى النقل العام والقطاعات الإنتاجية، مما يزيد من تأثيره التنموي. - التأثير على السوق والنقل والتضخّم:
خفض سعر المحروقات قد يترجم فوراً في تخفيض كلفة النقل والمواصلات، ما يُخفّف من ضغط التضخّم على السلع والخدمات المرتبطة بالنقل.
وهذا أمر مهم في مرحلة الانتقال للبنى الاقتصاديّة التي ستُعاد بناءها.
لكن، يجب تأكيد أن الأثر الحقيقي يتطلب استقرار سعر الصرف وشفافية في التسعير، وإلا فالتخفيض الاسمي قد يُفقد فعاليّته أو يُعوّضه السوق بالزيادات.
كما أن خفض السعر دون معالجة هيكلية في قطاع الطاقة قد يؤدي إلى زيادة الاستهلاك بلا مردود إنتاجي، ما يُضعف الفعالية.
- البعد السياسي والاجتماعي:
من المنظور السياسي، فإن القرار يمثل إشارة خاطفة للمواطن بأن الدولة قادرة على تخفيف الأعباء وأنّها تنوي الانتقال إلى نهج أكثر عدالة في الدعم.
وفي مرحلة ما قبل الانتقال الكامل إلى الحكم الجديد، هذه الإشارة مهمة لتهدئة الشارع وإعداد المجتمع لتغييرات أوسع.
اجتماعياً، القرار يُرسل رسالة بأن الدعم لا يُعطى بلا سقوف ولا يُمنح كحق مطلق، بل يُعاد تصميمه وفق معايير وضوابط.
وهذا يتطلب ثقة وإمكانية المحاسبة، وإلا فإنّ الدعم يصبح أداة مدفونة بالفساد أو السوق السوداء.
الأثر على المواطن السوري:
بالنسبة لمواطني المدن، فإن خفض سعر المحروقات قد يُترجَم بشكل مباشر إلى تخفيف في كلفة التدفئة، وأيضاً التنقّل، ليكون أقل ضغط على المواصلات أو سفر العمل اليومي، وربما تخفيف طفيف لتركيب تكاليف السلع المرتبطة بالنقل.
ومع ذلك، إن لم يُرافقه ضبطٌ لأسعار النقل العام أو ضمان توزيع عادل، فإن تلك الفائدة قد تذهب إلى الأغنياء أو أصحاب السيارات الخاصة، وتُهمَل شريحة واسعة من الفقراء الذين لا يملكون مركبات بشكل مباشر.
في المناطق الريفية، حيث الوقود يُستخدم للري والتدفئة والزراعة، فإن الأثر يكون أكبر نسبياً.
فخفض السعر يمكن أن يُحسّن قدرة المزارعين على تشغيل مضخات المياه، ويقلّص تكلفة الإنتاج، ما قد ينعكس في أسعار محلية أقل لبعض المنتجات الزراعية.
لكن هذه المكاسب قد تُطهَر إذا ظلّت شبكات النقل والتوزيع ضعيفة أو إن استُخدمت الموّاد في التهريب أو السوق غير الرسمي.
وأما الفقراء أو ذوو الدخل المحدود فغالباً يُعانون أولاً من زيادة الأسعار أو انقطاع الخدمات.
لذا، فإن خفض سعر الوقود يُعد خطوة إيجابية، لكن بشرط أن تُحمَل بثقة بأن الدعم الحقيقي يصل إليهم، وليس أن تنعكس الفائدة على الطبقات الوسطى أو الأعلى فقط.
وإذا ما جاء القرار بمعزل عن برامج انتقالية للدعم المباشر، فقد لا يشعر به الفقير بالشكل المطلوب.
الخاتمة:
على ضوء ما سبق، يقدم المكتب الاقتصادي التوصيات التالية التي يُمكن لـ تيار المستقبل السوري تبنّيها أو رفعها إلى جهات القرار:
- ربط تخفيض أسعار المحروقات ببرنامج دعم مستهدف للشريحة الأكثر ضعفاً عبر:
– إطلاق آلية تحويل نقدي أو بطاقة دعم تُوجّه إلى الأسر الفقيرة، مع خفض الدعم العام على الوقود.
– ضمان أن الفائدة الأدنى تُصل إلى أصحاب الدخل المحدود، وليس فقط مستخدمي السيارات الخاصة. - ضمان شفافية التسعير وتفعيل الرقابة من خلال:
– نشر نص القرار الرسمي بكافة بنوده، وتحديد معايير التوزيع والمراقبة لمحطات التزوّد.
– إقامة وحدة رقابية مستقلة أو مشاركة القطاع المدني لمتابعة التوزيع وسوق الوقود، وتقييد التهريب أو المضاربة. - استغلال التخفيف المؤقت كـ «جسر» نحو إصلاح أوسع في قطاع الطاقة والنقل عبر:
– استخدام تخفيض سعر المحروقات كمقدمة لبرنامج إصلاح النقل العام (تحديث الحافلات، تشجيع الطاقة المتجدّدة).
– ربط القرار بخفض الدعم على الكهرباء وتوجيه الفائض إلى استثمارات في الطاقة المتجدّدة والبنية التحتية. - ربط الإصلاح بأسعار الصرف واستقرار الاقتصاد الكلي:
– مواكبة تخفيض الوقود بإجراءات لاستقرار الليرة السورية، وتحفيز الإنتاج المحلي، حتى لا يذهب التخفيض هدراً بارتفاع عام للأسعار.
– العمل مع شركاء دوليين وإقليميين (في إطار إعادة الإعمار) لضخّ موارد بديلة عن الدعم الكلي. - التخطيط لتغييرات مرحلية مدروسة لتجنّب صدمات اجتماعية عبر:
– اعتماد جدول زمني لإزالة أو تخفيف الدعم تدريجياً على فترات، مع مراقبة تأثيراتها؛ وليس التخلي الفوري الكامل.
– إشراك المجتمع المدني في تقييم الأثر، وإعداد تقارير دورية عن النتائج، ما يعزّز الثقة ويُسهّل الانتقال.
إن تخفيض أسعار المحروقات في سورية جزء من نظام سياسي-اقتصادي أعظم يتمثل في انتقال الدولة من نمط دعم واسع غير مستهدف إلى اقتصاد أكثر عدالة وكفاءة في مرحلة ما بعد الأسد.
ومن هذا المنطلق، يمكن قراءته كإشارة على نية إعادة صياغة علاقة المواطن بالدولة، وعلى إمكانية إعادة توزيع الموارد بطريقة أكثر استدامة.
ومع ذلك، فإن فعاليته الحقيقية تعتمد على الإطار المؤسّسي: شفافية، رقابة، استهداف فعلي للفقراء، واستقرار نقدي واقتصادي.
وإذا غابت هذه العناصر، فإن خفض السعر قد يتحوّل إلى مجرد تعديل جزئي دون تأثير حقيقي على حياة المواطن، وربّما يُلهِب استياءه إذا ارتبط بزيادات في قطاعات أخرى مثل الكهرباء أو النقل.
لذا، فإن التوصيات الواردة أعلاه تُشكّل خارطة طريق ينبغي أن تُدمج في استراتيجية تحوّل أوسع تشمل الطاقة، والنقل، والدعم الاجتماعي، والاستقرار الاقتصادي الكلي.
المراجع:
- Seifan, S. (2010). The Road to Economic Reform in Syria. Syria Studies, Vol. 2 No. 3.
- Abboud, S. & Arslanian, F. (2009). Syria’s Economy and the Transition Paradigm. Syria Studies, Vol. 1 No. 4.
- Almohamed, S. & Birner, R. (2019). “The Role of Subsidy Policies in Triggering the Uprising in Syria”. Scholars Journal of Economics, Business and Management, Vol. 6 Issue 10.
- Lee, J. D., Nashin, J., Tabti, B. & Troug, H. (2025). Reforming Energy Subsidies in the Arab Region. IMF Notes 2025/003.
- World Bank. (2023). SYRIA – ECONOMIC UPDATE [PDF].