قراءة في قرار إعادة 19 دبلوماسياً سورياً إلى الخدمة

شهدت الساحة السورية في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2025 تطوراً لافتاً في المجال الإداري والدبلوماسي، حين نقلت وسائل الإعلام خبراً مفاده أن وزارة الخارجية السورية قررت إعادة تسعة عشر دبلوماسياً من المنقطعين والمنشقين عن الخدمة إلى ملاك الوزارة، بعد أكثر من عقد على مغادرتهم مواقعهم.
وقد ذُكر أسماء هؤلاء الموظفين، وأشير إلى أن الوزير أسعد الشيباني التقاهم في مبنى الوزارة تمهيداً لإعادتهم إلى العمل ضمن بعثات في بيروت والرياض وبرلين ودبي وإسطنبول ونيويورك.

هذا، وقد أثار الخبر نقاشاً واسعاً داخل الأوساط السياسية والإعلامية، وطرح تساؤلاتٍ حول دلالات الخطوة ومعانيها في ضوء التحولات السورية الراهنة والمرحلة الانتقالية بعد طيّ صفحة الحكم السابق.

أولاً: في التوصيف والمصادر:

اعتمدت هذه الورقة على تقرير عدة وسائل إعلام سورية بتاريخ 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 بوصفها المصدر الأساس، إضافة إلى مراجعة أرشيف الانشقاقات الدبلوماسية في الأعوام 2012–2014، لا سيّما الأسماء المعروفة التي وردت في التقرير مثل خالد الأيوبي، القائم بالأعمال السوري في لندن سابقاً، والذي أعلن استقالته في تموز/يوليو 2012، وماهر الجماز، وباسل نيازي، وخالد الصالح. أما بقية الأسماء، وعددها خمسة عشر، فليس ثمة معلومات منشورة كافية عن مواقعهم السابقة أو وجهات تعيينهم الجديدة، ما يستدعي انتظار صدور القرار الرسمي لتوثيق التفاصيل.

وقد آثر قسم البحوث والدراسات في المكتب العلمي لـ تيار المستقبل السوري أن يتناول الحدث في بعده السياسي والإداري معاً، بعيداً عن لغة الاتهام أو التبرير، إدراكاً لأهمية الملف الدبلوماسي في بناء الدولة السورية الجديدة وفي ترميم صورتها أمام الرأي العام الخارجي والداخلي على السواء.

ثانياً: الدلالة الإدارية والمؤسساتية:

من الناحية الإدارية، فإن إعادة هؤلاء الموظفين تمثل محاولة لسدّ الفراغ المزمن في السلك الدبلوماسي، والذي تضرر كثيراً بفعل الانشقاقات والعقوبات وتجميد العلاقات مع عدد كبير من الدول.
فبعد أكثر من عقد من العزلة، تجد الخارجية نفسها أمام شبكة بعثات محدودة الكادر، مثقلة بالأعباء القنصلية، وتواجه صعوباتٍ في استصدار التأشيرات، وتحديث السجلات، ومتابعة مصالح السوريين في الشتات.
ولا شك أن إعادة هؤلاء الدبلوماسيين يتيح ولو شكلياً، ترميم جزء من الذاكرة المؤسسية المفقودة، واستعادة خبرات سابقة في اللغات والعلاقات، وهي مسألة حيوية في إدارة مرحلة انتقالية تتطلب كفاءات متمرّسة إضافة إلى الولاءات السياسية.
لكنّ إغفال معايير الشفافية في نشر القرار، وعدم توضيح شروط العودة، يثير تساؤلاتٍ حول طبيعة العملية! فهل هي عودة فعلية إلى مواقع دبلوماسية فاعلة أم إعادة اعتبار رمزية؟ وهل استكملت الوزارة الإجراءات القانونية والمالية لإعادة التعيين، أم أن القرار أقرب إلى اجراء إداري يحمل نوايا معينة؟
تلك أسئلة جوهرية لا يمكن لأي عملية إصلاح مؤسساتي أن تتجاهلها، لأن بناء الثقة في الدولة الجديدة يقوم أولاً على وضوح الإجراءات واحترام مبدأ تكافؤ الفرص داخل الخدمة العامة.

ثالثاً: البعد السياسي للقرار:

سياسياً، يحمل القرار رسالة مزدوجة.
ففي جانبٍ أول، يمكن قراءته كإشارة إلى رغبة في طيّ صفحة الانقسام وإعادة دمج بعض الكفاءات التي خرجت من الدولة في لحظة الانهيار الوطني التي سبقتها سياسة الأسد الابن عام 2011، وهي خطوة – إن صدقت نواياها – فإنها تنسجم مع فلسفة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية التي تنادي بها القوى المدنية منذ أعوام.
فالدولة، في منظور تيار المستقبل السوري، يجب أن تتسع لكل أبنائها، وأن تُعيد بناء مؤسساتها على قاعدة المواطنة لا الولاء.

لكن في المقلب الآخر، قد يُقرأ القرار بوصفه توظيفاً سياسياً لتظهير صورة «الدولة المستقرة القادرة على الاستيعاب»، في وقتٍ ما تزال فيه البنية القانونية للمرحلة الانتقالية غير مكتملة.
فإذا غابت الشفافية في إعلان معايير العودة والتحقيق في سلوك الموظفين خلال سنوات الانقطاع، فإن الخطوة قد تُستغل لتبييض صفحات بعض المسؤولين دون محاسبة، أو لإعادة تدوير الولاءات في ثوبٍ جديد.

وهنا تبرز أهمية الرقابة المدنية والإعلامية التي يضطلع بها تيار المستقبل السوري وسائر القوى الوطنية المستقلة.

رابعاً: الأثر الخارجي والعلاقات الدولية:

في البعد الخارجي، يواجه القرار تحدياً آخر يتمثل في ردود فعل الدول المضيفة التي عمل فيها بعض هؤلاء الدبلوماسيين سابقاً.
فإعادة شخصياتٍ سبق أن أعلنت انشقاقها قد تُحدث ارباكاً دبلوماسياً، خصوصاً في دول الاتحاد الأوروبي التي لم تستأنف علاقاتها الكاملة مع دمشق بعد، وقد ترفض استقبال دبلوماسيين كانوا على أراضيها ثم قطعوا علاقتهم بالبعثات السابقة.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ إعادة التوظيف في بعثات جديدة مثل إسطنبول أو دبي قد تعكس رغبة عملية في تنشيط الخدمات القنصلية لجاليات سورية كبيرة، وهذا ما يمكن أن يكون مفيداً إن جرى ضمن إطار إداري شفاف خاضع للرقابة الحكومية الانتقالية.

إنّ السياسة الخارجية ليست مجالاً لتصفية الحسابات، بل مساحة لبناء الثقة وإعادة تعريف مصالح الدولة السورية بما يتناسب مع متطلبات السلام الإقليمي والانفتاح الاقتصادي، وهو ما يتطلب دبلوماسية مهنية جديدة تُبنى على الكفاءة والنزاهة.

خامساً: البعد الاجتماعي والرمزي:

يحمل القرار أيضاً بعداً رمزياً لا يقل أهمية: فهو يمتحن صدقية الخطاب الوطني حول «عودة العقول والخبرات».
فالمجتمع السوري الذي أنهكته الحرب والنزوح يحتاج إلى رؤية جديدة تعيد الاعتبار للوظيفة العامة كخدمة للمواطن لا كامتياز سلطوي.
إنّ عودة الدبلوماسيين المنقطعين يمكن أن تتحول إلى قصة نجاح إن استندت إلى معايير الكفاءة والالتزام المهني، لا إلى التسويات السياسية.
لكنّها قد تنقلب إلى رسالة سلبية إن فُسّرت كعملية استقطاب أو إعادة اصطفاف قبلي ومناطقي داخل مؤسسات الدولة.

وهنا تقع المسؤولية الأخلاقية على عاتق وزارة الخارجية أولاً، ثم على الحكومة الانتقالية بأسرها، لتؤكد أن الانتماء إلى الدولة السورية لا يُقاس بتاريخ الولاء لنظام سابق أو لاحق، ولا بحجم الانشقاق عنه، بل بمدى الالتزام بالقانون والمصلحة العامة.

سادساً: المقاربة المقاصدية الوطنية:

من منظور المدرسة المقاصدية في الفكر السياسي الإسلامي – وهي التي لطالما ألهمت تيار المستقبل السوري – فإنّ إعادة بناء المؤسسات لا تقوم على الثأر أو الإقصاء، بل على مقاصد العدل والمصلحة والإصلاح.
فـ«العدل أساس الملك»، كما قال فقهاء المقاصد، ولا عدل دون تسوية منصفة بين أبناء الوطن الواحد.

إنّ إدماج من انقطع عن العمل في ظلّ ظروف قاهرة، بعد التحقق من نزاهته، ينسجم مع مبدأ جبر الضرر واستعادة الثقة بين الدولة والمجتمع.
أما التساهل مع من ارتكب انتهاكات أو استغل منصبه سابقاً، فهو إخلال بمقصد حفظ الحقوق والأنفس، ويهدم مشروع العدالة الانتقالية من أساسه.

لذلك، يدعو تيار المستقبل السوري إلى التمييز بين «العودة المؤسسية» التي تُبنى على الكفاءة والمحاسبة، وبين «العودة السياسية» التي تُستغل لتلميع صورة سلطة أو تصفية حسابات الماضي.

سابعاً: نحو رؤية مستقبلية:

من المهم أن تُدرج هذه الحادثة ضمن نقاشٍ وطني أوسع حول إعادة بناء السلك الدبلوماسي السوري في المرحلة الانتقالية.
فالسلك الذي كان يوماً مرآة النظام القديم يجب أن يتحول إلى وجه الدولة الجديدة بكل ما تحمله من معنى، دولة القانون والتعددية والانفتاح.

وينبغي أن تلتزم وزارة الخارجية بالخطوات التالية لضمان مصداقية عملية الإصلاح:

  1. نشر القرار الرسمي كاملاً وبيان معاييره.
  2. إخضاع العائدين لتدقيق مهني ومالي مستقل.
  3. وضع ميثاقٍ سلوكي جديد للدبلوماسيين يربط العمل الخارجي بالقيم الوطنية لا بالولاء الشخصي.
  4. إشراك منظمات المجتمع المدني والشتات السوري في تقييم أداء البعثات القنصلية.
  5. تفعيل برامج تأهيل وتدريب للدبلوماسيين الجدد والعائدين حول مفاهيم العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان.

إنّ إعادة هيكلة الخارجية جزء من مشروعٍ وطني شامل لإعادة بناء الدولة على أسس النزاهة والمساءلة.

فالدبلوماسية في الدولة الحديثة هي صوت الأمة، ومن يتحدث باسمها يجب أن يحمل مشروعها الأخلاقي والسياسي لا إرث سلطتها القديمة.

خاتمة وتوصيات:

إنّ إعادة تسعة عشر دبلوماسياً سورياً إلى الخدمة مؤشر على شكل الدولة التي تتبلور اليوم في ظلّ المرحلة الانتقالية.
وهي امتحانٌ مبكر لمدى التزام الحكومة الجديدة بمبادئ العدالة الانتقالية، وقدرتها على الفصل بين محاسبة المجرمين واستيعاب الكفاءات.

إنّ تيار المستقبل السوري، إذ يرحب بكل خطوة تسهم في إعادة بناء مؤسسات الدولة على قاعدة المواطنة، فإنه يدعو إلى جعل هذه القرارات ضمن إطار قانوني واضح، وإلى فتح نقاش وطني حول إصلاح السلك الدبلوماسي بوصفه واجهةً لكرامة السوريين في الخارج.

فمن دون دبلوماسية جديدة تُعبّر عن وجدان الشعب وتطلعاته، لن تكتمل صورة سورية العادلة الحرة التي نطمح جميعاً إليها.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع