يُعدّ الدكتور عبد الرحمن الكيالي (1887–1969) من أبرز رجال السياسة والفكر الوطني في سورية خلال النصف الأول من القرن العشرين، إذ جمع بين الطب والسياسة والتأليف الفكري، فكان من الشخصيات التي أسهمت في بناء مؤسسات الدولة الحديثة وترسيخ فكرة المواطنة الجامعة.
النشأة والتعليم:
وُلد عبد الرحمن الكيالي في مدينة حلب عام 1887 في أسرة عُرفت بالعلم والدين.
تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس حلب، ثم انتقل إلى بيروت ليلتحق بكلية الطب في الجامعة الأميركية وتخرّج عام 1914.
خلال الحرب العالمية الأولى، خدم في الجيش العثماني كطبيب، وعمل في مستشفى حماة بين عامي 1914 و1918.
بعد الحرب، عاد إلى حلب وتولى رئاسة أطباء المستشفى الوطني، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته جمع فيها بين الطب والعمل الوطني العام.
النشاط السياسي والمشاركة الوطنية:
انخرط الكيالي في صفوف الحركة الوطنية المناهضة للانتداب الفرنسي، فكان من مؤسسي الكتلة الوطنية التي قادت النضال السياسي نحو الاستقلال، إلى جانب شخصيات مثل إبراهيم هنّانو وهاشم الأتاسي.
انتُخب نائباً عن حلب في المؤتمر الوطني عام 1920، ثم في المجلس التأسيسي عام 1928 الذي أعدّ أول دستور للجمهورية السورية.
عُيّن وزيراً للعدل والمعارف في حكومة جميل مردم بك عام 1936، حيث بدأ بإصلاحات مهمة في القضاء والتعليم.
وفي عام 1943 تولّى وزارتَي العدل والأوقاف (أو الأشغال العامة) في حكومات ما بعد الانتداب وحتى الجلاء عام 1946.
لاحقاً، أصبح رئيساً للحزب الوطني السوري (خليفة الكتلة الوطنية) في بداية الخمسينيات، قبل أن تُلغى الأحزاب في مرحلة الوحدة مع مصر عام 1958.
المساهمات الإصلاحية والبنيوية:
أطلق الكيالي أثناء توليه وزارتي العدل والمعارف حزمة إصلاحات هدفت إلى بناء مؤسسات حديثة للدولة، منها:
- إرسال بعثات تعليمية إلى الخارج لإعداد كوادر وطنية جديدة.
- تطوير النظام القضائي والتعليمي على أسس مدنية.
- الربط بين العمل السياسي والاستقلال الوطني لضمان المساواة أمام القانون.
أما في المجال الفكري، فقد خلّف مؤلفات بارزة مثل:
- «المراحل في الانتداب الفرنسي وفي نضالنا الوطني».
- «أضواء وآراء».
التحديات التي واجهها:
واجه الكيالي تحديات متعددة بسبب تعقيد المرحلة التي عاشها، إذ كانت سورية تمر بمرحلة انتقالية من الانتداب إلى الاستقلال، مما صعّب ترسيخ مؤسسات مستقرة.
كما أن تأثيره ظل محصوراً نسبياً في المدن الكبرى دون الوصول العميق إلى الأرياف، ما قلل من قدرته على بناء قاعدة جماهيرية واسعة.
الإرث والمكانة:
توفي عبد الرحمن الكيالي في 13 أيلول 1969 في حلب، تاركاً وراءه إرثاً وطنياً وسياسياً مميزاً.
يُعدّ من أبرز رموز المرحلة التأسيسية للدولة السورية الحديثة، حيث جسّد نموذج الوطني المثقف الذي جمع بين الكفاءة العلمية والالتزام الوطني.
كان من الداعين إلى قيم التعددية والمواطنة، مؤمناً بأن "الدين لله والوطن للجميع" في وطن متنوع الطوائف والأعراق.
الخاتمة:
يمثل الدكتور عبد الرحمن الكيالي نموذجاً للرجل الوطني المتعدد الأدوار: الطبيب، السياسي، والمفكر.
ساهم في وضع اللبنات الأولى لمؤسسات الدولة السورية، وسعى لترسيخ قيم العدالة والعلم والمواطنة.
ورغم أن ظروف عصره حدّت من تحقيق كامل مشاريعه الإصلاحية، فإن أثره باقٍ في الذاكرة الوطنية.
إننا في تيار المستقبل السوري نؤكد أن استذكار إرثه الوطني اليوم هو وفاءٌ لجيل المؤسسين الذين بنوا أسس الدولة الحديثة، ودعوةٌ لمواصلة الطريق نحو سورية جديدة تتسع لجميع أبنائها، وتقوم على قيم التنوّع والمواطنة والعدالة.