من العلم إلى العُقاب: جدل الرمز والسيادة في مرحلة ما بعد الأسد

في التاريخ السياسي للشعوب الخارجة من الاستبداد، نادراً ما تكون المعارك الرمزية أقل أهمية من المعارك العسكرية أو الدستورية. فحين تسقط الأنظمة، لا تسقط مؤسساتها وحدها، بل تسقط معها رموزها وشعاراتها التي مثّلت لسنوات طويلة وجه الدولة ومضمونها.

وفي سورية اليوم، بعد مرحلة سقوط نظام الأسد وصعود الجمهورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تتجدّد هذه المعركة الهادئة تحت الرماد بين العَلم الثوري الذي وحّد السوريين تحت رايته، والعُقاب الجديد الذي اعتمدته الدولة شعاراً رسمياً في مرحلة إعادة التأسيس.

العلم رمز الأمة:

العلم الوطني قطعة قماش ملوّنة في الحقيقة، لكن عمقه يكمن بأنه اختزال لتاريخ الأمة في رمز بصري واحد.
وفي الحالة السورية، يمثّل علم الاستقلال – الذي رُفع أول مرة عام 1946 ثم أعيد رفعه في الثورة ضد الأسد – ذاكرة التحرر والسيادة الوطنية.
إنه الرمز الذي حملته المظاهرات والكتائب والإغاثات والمدارس والمنافي، فصار جزءاً من الوجدان الجمعي للسوريين، ليس فقط شعاراً عابراً لمرحلة سياسية.

العلم بهذا المعنى ملك الأمة لا الدولة، لأنه يعبّر عن الشعب بوصفه مصدر الشرعية والهوية، وليس عن الحكومة التي تتبدّل.
في الفقه الدستوري، يُعدّ العلم الوطني أعلى رموز السيادة، يُرفع في الداخل والخارج، وتُؤدَّى له التحية بوصفه رمزاً للدولة والشعب معًا.
وهو الرمز الوحيد الذي لا يمكن تغييره إلا بإرادة جمعية تعبّر عن توافق وطني شامل، لأنه يُجسّد الذاكرة التاريخية للدولة أكثر مما يجسّد شكلها السياسي الآني.

الشعار رمز الدولة:

أما الشعار الرسمي – العقاب الذهبي الذي اختاره فريق الرئيس الشرع – فهو يمثل بُعداً مختلفا من رموز السيادة.
إنه رمز مؤسساتي لا شعبي، يظهر على العملة والطوابع والمراسلات والوثائق الرسمية، ووظيفته أن يعبّر عن الدولة كجهاز إداري منظم، لا عن الأمة كجماعة متخيلة تحمل الذاكرة والهوية.

وقد يكون تبنّي العقاب الجديد بديلاً عن "نسر الأسد" خطوة رمزية ضرورية للتخلّص من إرث النظام السابق وإعادة تعريف الدولة الحديثة.
فاختيار الشعار الجديد يعكس رغبة في الانفصال عن الماضي السلطوي وإعادة صياغة هوية الدولة على أسس السيادة الشعبية والشرعية الدستورية.

لكن الخطر يكمن حين يتحوّل الشعار الإداري إلى رمز سيادي بديل عن العلم، أي حين تتقدّم الدولة على الأمة في تراتبية الانتماء، فيغدو الولاء للسلطة بديلاً عن الانتماء للوطن.

حماية الشعار أم احتكار الرمز؟

في هذا السياق جاءت مناشدة رئيس مجلس إدارة فريق تطوير هوية سورية "وسيم قدورة" بضرورة "حماية شعار الدولة من الاستخدام العشوائي"، في إشارة إلى انتشار العقاب الجديد في الشوارع وعلى السيارات والمفاتيح والملابس.
ومن حيث المبدأ القانوني، حديثه صحيح، إذ إن حماية الرموز الوطنية من الامتهان أو التشويه واجب قانوني في كل الدول. فالشعار الرسمي يُعدّ ملكاً عاماً للدولة، لا يجوز استغلاله لأغراض تجارية أو حزبية، وإلا فُقدت هيبته.
لكن من حيث البعد الرمزي، فالدعوة تثير إشكالية أعمق.
فالشعار لم يترسّخ بعد في الوجدان الشعبي مثل العلم، بل ما زال رمزاً مؤسساتياً جديداً يحتاج إلى وقت ليكتسب معناه الجمعي. لذلك، المطالبة بتقييد استخدامه المفرط قد تُفهم كمحاولة لاحتكار الرمز، وليس لحمايته. والمجتمعات الخارجة من الاستبداد تحتاج إلى إشراك الناس في رموزهم الجديدة، لا إلى مراقبتهم في كيفية استخدامها.

فإذا كان العلم رمزاً للوطن الذي قاتل السوريون من أجله، فإن العقاب – مهما كان تصميمه جديدا – يظل رمزاً للسلطة التي تحكم هذا الوطن. والخلط بين الرمزين يهدد بإعادة إنتاج مركزية الدولة على حساب سيادة الشعب، وهو ما ثارت عليه الثورة في الأساس.

بين السيادة والشرعية الرمزية:

الرموز الوطنية لم تكن بيوم من الأيام ترفاً جمالياً، بل هي أدوات لإنتاج الشرعية. والعلم الثوري اكتسب شرعيته من الشعب، من الدماء والوجدان والذاكرة. أما الشعار الجديد، فاكتسب شرعيته من القرار السياسي، ومن توقيع الرئيس والمرسوم الرسمي. وكلاهما مشروع من حيث المبدأ، لكن أحدهما رمز سيادي نابع من الأمة، والآخر رمز إداري نابع من الدولة.
وحين تُغفل الدولة هذا التمايز، وتتعامل مع الشعار باعتباره هوية وطنية جامعة، فإنها تُخاطر بتسييس الرمز وإفراغ العلم من مضمونه الشعبي.
التجارب المقارنة في جنوب أفريقيا وتشيلي وتونس تؤكد أن نجاح الانتقال السياسي يرتبط بقدرة الدولة على الموازنة بين رموز الثورة ورموز النظام الجديد، بحيث لا تطغى رموز السلطة على رموز الذاكرة الجمعية.
فالعلم يبقى هو الوعاء الأوسع الذي يضم كل الرموز الأخرى، والشعار يأتي بعده بوصفه رمزاً لمؤسسات الدولة وليس لهوية الأمة.

أخيراً:

من وجهة النظر القانونية، من حق الدولة السورية الجديدة أن تنظّم استخدام شعارها الرسمي وأن تحميه من الاستخدام التجاري أو المبتذل.
لكن من الخطأ السياسي أن تحاول جعله بديلاً عن العلم الذي وحّد السوريين منذ انطلاق ثورتهم. فالعلم هو الرمز الأعلى، والجامع، والذاكرة الحية التي لا يجوز أن تُستبدل بشعار مهما كان جديداً أو جميلا.
ثم إن قوة الرمز لا تأتي من المرسوم الذي أنشأه، بل من الناس الذين أحبوه وآمنوا به ورفعوه في لحظات الخطر.
والعلم الثوري الذي صار علم الجمهورية السورية اليوم هو التعبير الأصدق عن تلك الذاكرة، وعن العقد الاجتماعي الجديد الذي بُني على دماء السوريين وآمالهم. أما العُقاب الجديد، فيكفيه أن يكون رمز الدولة لا رمز الوطن، وأن يظل واقفاً على جناح العَلم وليس فوقه!.

شاركها على:

اقرأ أيضا

منتدى الأعمال السوري الكوري

منتدى الأعمال السوري الكوري الذي أقيم في الشيراتون بحضور الدكتور زاهر بعدراني.

5 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع