ملخص تنفيذي:
تتناول هذه الورقة البحثية واقع الأسرة السورية في ظل المرحلة الانتقالية بعد النزاع، وتقدم رؤية متكاملة لصياغة سياسة اجتماعية عادلة ومستدامة تُعنى بإعادة بناء الأسرة بوصفها وحدة مركزية في ترميم النسيج الوطني، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز المواطنة.
تعتمد الورقة منهجية تحليلية وصفية، تستند إلى مراجعة الأدبيات الأكاديمية، وتقارير الأمم المتحدة، والدراسات الصادرة عن مراكز بحثية سورية ودولية، وتُقسم إلى ستة فصول رئيسية:
- الفصل الأول يؤطر المفاهيم النظرية المرتبطة بالأسرة، ويحلل وظائفها وتحولاتها خلال النزاع، ويبرز دورها في العدالة الانتقالية.
- الفصل الثاني يصف الواقع الراهن للأسرة السورية، من تفكك البنية، وتبدل الأدوار، إلى ضعف الحماية القانونية والاجتماعية، خاصة في مناطق النزاع والشتات.
- الفصل الثالث يستعرض التحديات أمام صانع القرار، مثل غياب قاعدة بيانات وطنية، والانقسام القانوني، وضعف المؤسسات، وتسييس السياسات الاجتماعية.
- الفصل الرابع يقترح سياسة اجتماعية انتقالية تستند إلى مبادئ العدالة والمساواة، وتشمل إصلاح قانون الأحوال الشخصية، ودعم الأسر المتضررة، وإدماج الأسرة في برامج العدالة الانتقالية.
- الفصل الخامس يربط السياسات الأسرية الوطنية بمنظومة الأمم المتحدة، من خلال المواءمة مع الاتفاقيات الدولية وأهداف التنمية المستدامة، وتفعيل التعاون مع وكالات الأمم المتحدة.
- الفصل السادس يقدم توصيات تنفيذية باسم تيار المستقبل السوري، تشمل إصلاحات قانونية، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة، وإطلاق برامج دعم، وتفعيل المشاركة المجتمعية، والالتزام بالمعايير الدولية.
ترى الورقة أن إعادة بناء الأسرة السورية ليست قضية اجتماعية فحسب، بل هي مهمة وطنية وإنسانية تتطلب إرادة سياسية، وتعاوناً مجتمعياً، وشراكة دولية، من أجل تأسيس عقد اجتماعي جديد يضمن الكرامة والعدالة لكل فرد في سورية.
المقدمة:
تُعد الأسرة الركيزة الأساسية في بناء المجتمعات، والمصدر الأول للتنشئة الاجتماعية، وغرس القيم، وتشكيل الهوية الوطنية.
وفي السياق السوري، الذي شهد خلال العقد الماضي نزاعاً دامياً وانهياراً مؤسساتياً واسعاً، برزت الأسرة كأحد أكثر البنى الاجتماعية تعرضاً للتفكك والضغط، نتيجة النزوح، والاعتقال، والقتل، والفقر، والانقسام السياسي والمناطقي.
ومع دخول سورية مرحلة انتقالية بعد عقود من الاستبداد، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة النظر في السياسات الاجتماعية المتعلقة بالأسرة، بوصفها حجر الزاوية في إعادة بناء النسيج الوطني، وترميم الهوية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
لقد أظهرت الدراسات الدولية أن النزاعات المسلحة تؤدي إلى تحولات عميقة في بنية الأسرة ووظائفها، حيث تتزايد نسب الأسر المعيلة من النساء، وتنتشر ظواهر الزواج المبكر، والعنف الأسري، وتراجع التعليم، وتضعف الروابط بين الأجيال.
وفي الحالة السورية، تتضاعف هذه التحديات بسبب غياب السياسات الاجتماعية الفاعلة، وتداخل المرجعيات القانونية بين المدني والديني، واستمرار الانقسام السياسي الذي يعيق توحيد التشريعات والمؤسسات.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم إطار بحثي متكامل لصانع القرار السوري، حول سبل إعادة بناء الأسرة في المرحلة الانتقالية، من خلال تحليل الواقع الراهن، واستعراض التحديات، واقتراح سياسات اجتماعية عادلة ومستدامة، تستند إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتنسجم مع أهداف التنمية المستدامة التي يتبناها رئيس المرحلة الانتقالية السيد الرئيس أحمد الشرع، وخاصة الهدف الخامس المتعلق بالمساواة بين الجنسين، والهدف السادس عشر المتعلق بالسلام والعدالة والمؤسسات القوية.
تعتمد الورقة منهجية تحليلية وصفية، تستند إلى مراجعة الأدبيات الأكاديمية ذات الصلة، وتقارير الأمم المتحدة، والدراسات الصادرة عن مراكز بحثية سورية ودولية، إضافة إلى تحليل السياسات القائمة، ومقارنتها بالتجارب الانتقالية في دول أخرى.
كما تسعى الورقة إلى الربط بين البعد القانوني، والاجتماعي، والسياسي للأسرة، وتقديم توصيات تنفيذية قابلة للتطبيق ضمن السياق السوري.
تتوزع الورقة على ستة فصول رئيسية، تبدأ بتأطير المفاهيم النظرية، ثم تنتقل إلى توصيف الواقع الراهن، وتحديد التحديات، قبل أن تقدم رؤية للسياسات المطلوبة، وتربطها بمنظومة الأمم المتحدة، وتختتم بخاتمة وتوصيات عملية.
إن إعادة بناء الأسرة السورية ليست قضية اجتماعية فحسب، بل هي مسألة وطنية وسياسية وإنسانية، تتطلب إرادة حقيقية، وتعاوناً بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، والشركاء الدوليين، من أجل تأسيس عقد اجتماعي جديد، يضمن الكرامة والعدالة والمواطنة لكل فرد في سورية.
الفصل الأول: الإطار النظري والمفاهيمي
الأسرة السورية في السياق الانتقالي، المفاهيم، الوظائف، التحولات:
تُعد الأسرة وحدة اجتماعية مركزية في تكوين المجتمعات، وهي الحاضنة الأولى للقيم، والهوية، والتنشئة، والضبط الاجتماعي.
وفي السياق السوري، تكتسب الأسرة أهمية مضاعفة نظراً لدورها التاريخي في الحفاظ على التماسك المجتمعي في ظل غياب مؤسسات الدولة الفاعلة، خاصة خلال سنوات النزاع الممتدة منذ عام 2011.
ومع دخول سورية مرحلة انتقالية، تبرز الحاجة إلى تأطير المفاهيم المرتبطة بالأسرة، وتحديد وظائفها، وتحليل التحولات التي طرأت عليها، بما يتيح لصانع القرار بناء سياسات اجتماعية تستجيب للواقع وتؤسس لمستقبل مستدام.
أولاً، تعريف الأسرة في السياق السوري:
يُعرّف القانون السوري الأسرة بأنها "الرابطة الشرعية التي تنشأ عن الزواج وتضم الزوجين وأولادهما"، وفقاً لقانون الأحوال الشخصية لعام 1953 وتعديلاته.
إلا أن هذا التعريف القانوني لا يعكس التنوع الفعلي في بنية الأسرة السورية، خاصة في ظل النزوح، والتهجير، وتعدد المرجعيات القانونية بين المناطق الخاضعة لسلطات مختلفة.
فهناك أسر ممتدة، وأسر أحادية المعيل، وأسر غير موثقة قانونياً، وأسر تعيش في الشتات، وكلها تشكل واقعاً اجتماعياً يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار في السياسات الانتقالية.
ثانياً، وظائف الأسرة في المجتمع السوري:
تؤدي الأسرة في سورية وظائف متعددة، منها:
١- التنشئة الاجتماعية: غرس القيم الدينية والوطنية، وتشكيل الهوية الثقافية.
٢- الدعم الاقتصادي: تقاسم الموارد، وتوفير الحماية من الفقر، خاصة في ظل غياب شبكات الحماية الرسمية.
٣- الضبط الاجتماعي: مراقبة السلوك، وحل النزاعات داخل المجتمع المحلي.
٣- الرعاية النفسية والمعنوية: توفير الدعم في حالات الفقد، والصدمة، والنزوح.
وقد أظهرت الأزمات المتلاحقة أن الأسرة السورية، رغم هشاشتها، استطاعت أن تؤدي هذه الوظائف جزئياً، مما يجعلها فاعلاً أساسياً في مرحلة التعافي وإعادة البناء.
ثالثاً، التحولات التي طرأت على الأسرة السورية:
شهدت الأسرة السورية تحولات عميقة خلال سنوات النزاع، أبرزها:
١- تفكك البنية الأسرية: بسبب القتل، والاعتقال، والنزوح، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الأسر التي تعيلها نساء أو أطفال.
٢- تغير الأدوار التقليدية: حيث اضطرت النساء إلى تولي أدوار المعيل، والقيادة المجتمعية، والتعليم، في ظل غياب الرجال.
٣- تراجع الوظائف التربوية: نتيجة الانقطاع عن التعليم، والانهيار النفسي، وانتشار العنف.
٤- ضعف الروابط بين الأجيال: بسبب الشتات، والانقسام السياسي، واختلاف المرجعيات الثقافية بين الداخل والخارج.
هذه التحولات تفرض على صانع القرار إعادة النظر في السياسات الأسرية، بما يتجاوز التعريفات القانونية التقليدية، ويأخذ بعين الاعتبار الواقع المعقد والمتغير.
رابعاً، الأسرة كفاعل في العدالة الانتقالية:
لا يمكن الحديث عن عدالة انتقالية دون إشراك الأسرة، بوصفها المتضرر الأول من الانتهاكات، والحاضنة الأولى للضحايا.
فالأسر التي فقدت أبناءها، أو تعرضت لانتهاكات، تحتاج إلى الاعتراف، والتعويض، والمشاركة في صياغة السياسات، بما يضمن عدم تكرار الانتهاكات، ويؤسس لمصالحة مجتمعية حقيقية.
كما أن الأسرة يمكن أن تكون أداة للمصالحة، من خلال نقل القيم، وتربية الأجيال على التسامح، والعدالة، والمواطنة، وهو ما يتطلب دعمها بسياسات تربوية واجتماعية متكاملة.
الفصل الثاني: الواقع الراهن للأسرة السورية
تفكك البنية، وتبدل الأدوار، وتحديات الحماية في ظل النزاع والانتقال:
شهدت الأسرة السورية خلال سنوات النزاع الممتدة منذ عام 2011 تحولات عميقة، لم تقتصر على البنية الشكلية، بل طالت وظائفها، وأدوار أفرادها، وعلاقاتها الداخلية، وموقعها ضمن المنظومة القانونية والاجتماعية.
ومع دخول البلاد مرحلة انتقالية، تبرز الحاجة إلى فهم دقيق للواقع الراهن للأسرة، بما يتيح لصانع القرار صياغة سياسات اجتماعية تستجيب للتحديات وتؤسس لمرحلة تعافٍ مستدامة.
أولاً، تفكك البنية الأسرية:
أدى النزاع إلى تفكك واسع في بنية الأسرة السورية، نتيجة القتل، والاعتقال، والنزوح، واللجوء، ما أدى إلى ظهور أنماط جديدة من الأسر، أبرزها:
١- الأسر أحادية المعيل: حيث تتولى النساء أو الأطفال مسؤولية الإعالة بعد فقدان الأب أو الزوج.
٢- الأسر الممتدة القسرية: نتيجة النزوح، اضطرت عدة أسر للعيش في منزل واحد، ما خلق ضغطاً اجتماعياً ونفسياً.
٣- الأسر غير الموثقة قانونياً: بسبب غياب السجلات المدنية أو تعذر الوصول إليها، خاصة في مناطق النزاع أو الشتات.
هذا التفكك البنيوي أدى إلى تراجع قدرة الأسرة على أداء وظائفها التقليدية، وخلق تحديات جديدة في مجالات التعليم، والحماية، والرعاية الصحية، والتنشئة.
ثانياً، تبدل الأدوار داخل الأسرة:
أفرز النزاع تبدلاً جذرياً في الأدوار داخل الأسرة السورية، أبرزها:
١- تصاعد دور النساء: اضطرت النساء إلى تولي أدوار المعيل، والمربي، والمفاوض، والناشط المجتمعي، في ظل غياب الرجال.
٢- تحمل الأطفال مسؤوليات مبكرة: نتيجة الفقر أو فقدان المعيل، اضطر الأطفال إلى العمل، أو رعاية إخوتهم، أو الانخراط في أنشطة غير آمنة.
٣- تراجع السلطة الأبوية التقليدية: بسبب الشتات أو الانقسام السياسي، ما أدى إلى ضعف الضبط الداخلي داخل الأسرة.
هذه التحولات، رغم أنها أظهرت مرونة اجتماعية، إلا أنها كشفت هشاشة البنية الأسرية، وغياب الدعم المؤسسي الذي يضمن استقرارها.
ثالثاً، تحديات الحماية القانونية والاجتماعية:
تواجه الأسرة السورية تحديات كبيرة في مجال الحماية، أبرزها:
١- غياب التشريعات الموحدة: تختلف قوانين الأحوال الشخصية بين المناطق، وتخضع لتأثيرات دينية وسياسية متباينة.
٢- ضعف شبكات الحماية الاجتماعية: لا توجد برامج وطنية فعالة لدعم الأسر المتضررة، أو المعيلات، أو الأطفال بلا سند.
٣- انعدام الوصول إلى الخدمات الأساسية: في مناطق النزاع المستمرة بعد الأسد، أو المخيمات، تعاني الأسر من نقص في التعليم، والرعاية الصحية، والدعم النفسي.
٤- التمييز القانوني ضد النساء والأطفال: لا تزال بعض القوانين تكرّس التمييز في الحضانة، والميراث، والولاية، مما يضعف حماية الأسرة.
هذه التحديات تتطلب إصلاحاً شاملاً في السياسات الاجتماعية، والتشريعات، والبنية المؤسسية، لضمان حماية الأسرة كمكون أساسي في إعادة بناء المجتمع.
رابعاً، الأسرة في الشتات واللجوء:
في دول اللجوء، تواجه الأسر السورية تحديات إضافية، منها:
١- الاندماج الثقافي: صعوبة التوفيق بين القيم السورية والقوانين المحلية.
٢- التهديدات القانونية: مثل فقدان الحضانة أو الترحيل بسبب عدم الامتثال للقوانين.
٣- الانقسام الأسري: نتيجة الهجرة الفردية أو رفض لمّ الشمل، ما يؤدي إلى تفكك الروابط العائلية.
هذه التحديات تؤثر على الهوية الوطنية، وتضعف الروابط بين الداخل والخارج، مما يتطلب سياسات تربط الشتات بالوطن، وتضمن حماية الأسرة في كل مواقعها.
الفصل الثالث: التحديات أمام صانع القرار
الفراغ المؤسسي، والانقسام القانوني، وضعف الحماية الاجتماعية في إدارة ملف الأسرة السورية:
في سياق المرحلة الانتقالية التي تمر بها سورية بعد عقود من الاستبداد والنزاع الدموي، يواجه صانع القرار تحديات مركبة في التعامل مع ملف الأسرة، الذي يُعد من أكثر الملفات حساسية وتعقيداً.
فإعادة بناء الأسرة السورية لا تتطلب فقط إصلاحاً قانونياً أو مؤسسياً، بل تستدعي رؤية شاملة تتعامل مع آثار النزاع، والانقسام السياسي، والفراغ المؤسسي، وتدهور البنية الاجتماعية.
هذا الفصل يسلط الضوء على أبرز التحديات التي تعيق صياغة سياسة أسرية عادلة ومستدامة في سورية الجديدة.
أولاً، غياب قاعدة بيانات وطنية دقيقة:
من أبرز التحديات التي تواجه صانع القرار هو غياب قاعدة بيانات موحدة وشاملة عن الأسر السورية، خاصة تلك المتضررة من النزاع، فهناك ملايين الأسر النازحة داخلياً، وأخرى في الشتات، وأسر فقدت معيلها أو أحد أفرادها، دون وجود سجل مركزي يوثق أوضاعها، احتياجاتها، أو موقعها القانوني، هذا الغياب يعيق التخطيط، ويجعل السياسات الاجتماعية عشوائية أو غير فعالة.
كما أن الانقسام السياسي بين مناطق السيطرة المختلفة أدى إلى تعدد قواعد البيانات، وتضاربها، وغياب التنسيق بين الجهات الرسمية وغير الرسمية، مما يضعف القدرة على الاستجابة للاحتياجات الفعلية للأسر.
ثانياً، الانقسام القانوني والتشريعي:
تخضع الأسرة السورية اليوم لمرجعيات قانونية متعددة، تختلف بين المناطق الخاضعة للحكومة المركزية، وتلك التي تديرها سلطات محلية أو فصائل سياسية كالسويداء والجزيرة، ففي بعض المناطق، يُطبق قانون الأحوال الشخصية السوري المعدل، بينما تعتمد مناطق أخرى على قوانين مستمدة من الشريعة أو العرف المحلي، أو حتى قوانين مستوردة من تجارب دول اللجوء.
هذا الانقسام القانوني يؤدي إلى:
١- تباين في حقوق المرأة والطفل بين منطقة وأخرى.
٢- صعوبة توحيد إجراءات الزواج، الطلاق، الحضانة، والميراث.
٣- غياب الضمانات القانونية لحماية الأسرة من الانتهاكات أو التمييز.
ويُعد هذا التحدي من أخطر العقبات أمام بناء سياسة أسرية وطنية، ويستدعي حواراً قانونياً شاملاً لتوحيد المرجعيات، وضمان توافقها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
ثالثاً، ضعف الحماية الاجتماعية والمؤسسية:
تعاني الأسرة السورية من غياب شبه كامل لشبكات الحماية الاجتماعية، سواء في مجالات الدعم المالي، أو الرعاية الصحية، أو التعليم، أو الدعم النفسي. فبرامج الإغاثة، رغم أهميتها، تبقى مؤقتة ومحدودة، ولا تشكل بديلاً عن سياسة وطنية متكاملة.
كما أن المؤسسات المعنية بشؤون الأسرة، مثل وزارة الشؤون الاجتماعية، أو المجالس المحلية، تعاني من ضعف في الموارد، وانعدام التنسيق، وغياب الكوادر المؤهلة، مما يجعل تدخلاتها غير منهجية أو غير مستدامة.
في هذا السياق، يبرز غياب برامج خاصة لدعم:
- الأسر المعيلة من النساء.
- الأطفال بلا سند قانوني أو اجتماعي.
- الأسر التي فقدت أحد أفرادها بسبب النزاع أو الاعتقال.
- الأسر في مناطق النزاع أو المخيمات.
رابعاً، تأثير الانقسام السياسي على وحدة السياسات:
لا يمكن فصل ملف الأسرة عن السياق السياسي العام، حيث أدى الانقسام بين القوى السياسية إلى تسييس السياسات الاجتماعية، واستخدامها كأداة للنفوذ أو السيطرة.
فبعض الجهات تفرض قوانين أو برامج أسرية تخدم مصالحها الأيديولوجية أو الطائفية، مما يهدد وحدة المجتمع، ويضعف الثقة في المؤسسات.
كما أن غياب التوافق الوطني حول أولويات المرحلة الانتقالية يجعل من الصعب إدراج ملف الأسرة ضمن أجندة الإصلاح، أو تخصيص الموارد اللازمة له، أو إشراك المجتمع المدني في صياغة السياسات.
خامساً، ضعف المشاركة المجتمعية في رسم السياسات:
رغم أن الأسرة هي وحدة مجتمعية أساسية، إلا أن السياسات المتعلقة بها غالباً ما تُصاغ دون مشاركة فعلية من المواطنين، أو منظمات المجتمع المدني، أو النقابات، أو الجهات الحقوقية، هذا الإقصاء يؤدي إلى سياسات غير واقعية، أو غير قابلة للتطبيق، أو لا تحظى بقبول مجتمعي، على أن البرلمان القادم قد يكون نقطة ارتكازية للبدء بكل ذلك.
وعليه، فإن إشراك الفاعلين المحليين، وخاصة النساء، في صياغة السياسات الأسرية، يُعد شرطاً أساسياً لنجاح أي إصلاح اجتماعي في المرحلة الانتقالية.
الفصل الرابع: نحو سياسة اجتماعية انتقالية عادلة
مقاربة حقوقية وتنموية لإعادة بناء الأسرة السورية في مرحلة ما بعد النزاع:
تبرز الحاجة اليوم إلى صياغة سياسة اجتماعية جديدة تُعنى بالأسرة، بوصفها وحدة أساسية في إعادة بناء المجتمع، وترميم النسيج الوطني، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
هذه السياسة يجب أن تكون انتقالية بطبيعتها، أي تستجيب لواقع ما بعد النزاع، وتُراعي آثار الحرب، وتؤسس لمرحلة دائمة من الاستقرار والكرامة.
أولاً، المبادئ المؤسسة للسياسة الاجتماعية الانتقالية:
لكي تكون السياسة الأسرية فعالة وعادلة، يجب أن تستند إلى مجموعة من المبادئ، أبرزها:
١- العدالة والمساواة: ضمان حقوق جميع أفراد الأسرة، بغض النظر عن الجنس، والدين، أو الخلفية الاجتماعية.
٢- الاعتراف بالضرر: الاعتراف الرسمي بما تعرضت له الأسر من انتهاكات، وتضمين ذلك في السياسات التعويضية.
٣- الاستجابة للواقع المتغير: مراعاة التحولات في بنية الأسرة، وأدوارها، واحتياجاتها، وعدم الاكتفاء بالنماذج التقليدية.
٤- الربط بين القانون والسياسة الاجتماعية: توحيد المرجعيات القانونية، وتحديث التشريعات بما ينسجم مع المعايير الدولية.
ثانياً، إصلاح قانون الأحوال الشخصية:
يُعد قانون الأحوال الشخصية من أكثر القوانين تأثيراً على الأسرة، ويحتاج إلى مراجعة شاملة تشمل:
١- إلغاء التمييز ضد النساء في الحضانة، والولاية، والميراث، والزواج.
٢- توحيد المرجعيات القانونية بين المناطق المختلفة، واعتماد صيغة مدنية وطنية جامعة.
٣- إدراج حماية الأطفال من الزواج المبكر، والعنف الأسري، والاستغلال الاقتصادي.
٤- تسهيل إجراءات التوثيق المدني للأسر غير المسجلة، خاصة في مناطق النزاع والشتات.
ثالثاً، دعم الأسر المتضررة من النزاع:
تحتاج الأسر التي فقدت أحد أفرادها، أو تعرضت للنزوح، أو تعيلها نساء أو أطفال، إلى برامج دعم خاصة تشمل:
- مساعدات مالية مباشرة للأسر المعيلة.
- خدمات رعاية نفسية واجتماعية للضحايا والناجين.
- برامج تعليمية تعويضية للأطفال المنقطعين عن التعليم.
- تأمين صحي شامل للأسر في المناطق المتضررة.
هذه البرامج يجب أن تُدار من خلال مؤسسات وطنية مستقلة، وبالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، والجهات الدولية.
رابعاً، إدماج الأسرة في برامج العدالة الانتقالية:
لا يمكن فصل ملف الأسرة عن مسار العدالة الانتقالية، حيث يجب:
- إشراك الأسر في عمليات التوثيق والاعتراف بالانتهاكات.
- تخصيص مسارات تعويض جماعية وفردية للأسر المتضررة.
- إدراج الأسرة كمستفيد مباشر من برامج المصالحة المجتمعية.
- تضمين قصص الأسر في السردية الوطنية الجديدة، بما يعزز التماسك والاعتراف المتبادل.
خامساً، تعزيز دور الأسرة في بناء المواطنة:
لكي تكون الأسرة فاعلاً في بناء سورية الجديدة، يجب تمكينها تربوياً وثقافياً من خلال:
١- إدراج التربية المدنية في المناهج التعليمية، وربطها بدور الأسرة.
٢- تنظيم حملات توعية مجتمعية حول حقوق الأسرة، والمساواة، والعدالة.
٣- دعم المبادرات المحلية التي تعزز الحوار داخل الأسر، وتُعيد بناء الثقة بين أفراد المجتمع.
الفصل الخامس: الربط مع منظومة الأمم المتحدة
تكامل السياسات الأسرية الوطنية مع المعايير الدولية وأهداف التنمية المستدامة:
في سياق بناء سورية الجديدة، لا يمكن فصل السياسات الاجتماعية عن المنظومة الدولية التي أرست معايير واضحة لحماية الأسرة، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتحقيق التنمية المستدامة.
وتُعد منظومة الأمم المتحدة، بما فيها وكالاتها المتخصصة، مرجعية أساسية لصياغة سياسة أسرية انتقالية، تضمن الحقوق، وتُراعي السياق المحلي، وتستفيد من التجارب المقارنة في دول ما بعد النزاع.
أولاً، المرجعيات الدولية ذات الصلة بالأسرة:
تُقدم الأمم المتحدة مجموعة من الاتفاقيات والتوصيات التي تشكل إطاراً قانونياً وأخلاقياً لحماية الأسرة، أبرزها:
١- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948): ينص على حق كل فرد في تكوين أسرة، والعيش في بيئة آمنة وكريمة.
٢- اتفاقية حقوق الطفل (1989): تُلزم الدول بحماية الأطفال داخل الأسرة، وضمان حقهم في التعليم، والرعاية، وعدم الانفصال عن ذويهم إلا للضرورة.
٣- اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW): تؤكد على المساواة داخل الأسرة، وحق المرأة في اتخاذ القرارات الأسرية دون تمييز، رغم التحفظات عليها من قبل الدول الإسلامية.
٤- توصية اليونسكو بشأن التعليم من أجل المواطنة العالمية (2015): تربط دور الأسرة بالتنشئة على قيم السلام، والعدالة، والتعددية.
هذه المرجعيات تُشكل أساساً لصياغة سياسة أسرية سورية تتماشى مع الالتزامات الدولية، وتُعزز موقع سورية في المنظومة الحقوقية العالمية.
ثانياً، أهداف التنمية المستدامة ذات الصلة:
تُعد الأسرة محوراً أساسياً في تحقيق عدد من أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة لعام 2030، أبرزها:
- الهدف 1: القضاء على الفقر – من خلال دعم الأسر المتضررة، وتوفير شبكات حماية اجتماعية.
- الهدف 3: الصحة الجيدة والرفاه – عبر ضمان الرعاية الصحية للأمهات والأطفال.
- الهدف 4: التعليم الجيد – من خلال تمكين الأسرة من دعم تعليم الأطفال.
- الهدف 5: المساواة بين الجنسين – عبر إصلاح التشريعات الأسرية، وتمكين النساء داخل الأسرة.
- الهدف 16: السلام والعدل والمؤسسات القوية – من خلال إدماج الأسرة في مسار العدالة الانتقالية والمصالحة.
إن مواءمة السياسات الأسرية السورية مع هذه الأهداف يُعد خطوة استراتيجية نحو بناء مجتمع عادل ومستقر، ويُعزز فرص التعاون الدولي والدعم الفني والمالي.
ثالثاً، فرص التعاون مع وكالات الأمم المتحدة:
تُتيح المرحلة الانتقالية في سورية فرصة لتفعيل الشراكة مع وكالات الأمم المتحدة، خاصة:
- اليونيسف: لدعم حماية الأطفال داخل الأسرة، وتوفير التعليم والرعاية النفسية.
- UNFPA: لتعزيز الصحة الإنجابية، ودعم النساء المعيلات، ومكافحة العنف الأسري.
- UNDP: لتطوير السياسات الاجتماعية، وبناء القدرات المؤسسية.
- UNHCR: لحماية الأسر في الشتات، وضمان حقوقهم القانونية والاجتماعية.
هذه الوكالات تمتلك خبرات واسعة في العمل مع المجتمعات الخارجة من النزاع، ويمكن أن تكون شريكاً أساسياً في بناء سياسة أسرية سورية متكاملة.
رابعاً، التحديات في مواءمة السياسات:
رغم أهمية الربط مع منظومة الأمم المتحدة، إلا أن هناك تحديات يجب التعامل معها، أبرزها:
١- الانقسام السياسي الداخلي الذي يعيق توحيد المرجعيات القانونية.
٢- ضعف البنية المؤسسية التي تحول دون تنفيذ البرامج الدولية بفعالية.
٣- الحساسية الثقافية والدينية تجاه بعض المفاهيم الدولية، مثل المساواة الجندرية أو الحماية من العنف الأسري.
٤- غياب الإرادة السياسية الموحدة لتبني إصلاحات جذرية في ملف الأسرة.
هذه التحديات تتطلب حواراً وطنياً شاملاً، وتنسيقاً دقيقاً بين الجهات الحكومية، والمجتمع المدني، والشركاء الدوليين.
الفصل السادس: الخاتمة والتوصيات
رؤية تيار المستقبل السوري لإعادة بناء الأسرة في سورية الجديدة:
بعد استعراض الإطار النظري، وتحليل الواقع الراهن، وتحديد التحديات، واقتراح السياسات، وربطها بالمنظومة الدولية، يتضح أن ملف الأسرة السورية يُعد من أكثر الملفات حساسية وأهمية في المرحلة الانتقالية.
فالأسرة ليست فقط وحدة اجتماعية، بل هي الحاضنة الأولى للهوية، والعدالة، والمواطنة، وهي المتضرر الأكبر من النزاع، والفاعل الأهم في إعادة البناء.
إن تيار المستقبل السوري، بوصفه تياراً وطنياً يؤمن بسورية مدنية قائمة على العدالة والمساواة، يرى أن إعادة بناء الأسرة يجب أن تكون أولوية في السياسات الانتقالية، وكما قدمنا رؤيتنا في أطروحات سابقة، منشورة عبر موقعنا الرسمي، خصوصا الدراسة المعنونة بـ: "الأسرة السورية بعد التحرير: نحو بناء مجتمع جديد قائم على الحرية والمساواة" والمنصورة بتاريخ 10 مارس 2025م، فإننا في مكتب شؤون الأسرة لـ تيار المستقبل السوري نُقدم التوصيات التالية لصانع القرار السوري، وللجهات الوطنية والدولية المعنية:
أولاً، إصلاح قانون الأحوال الشخصية:
- صياغة قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، يضمن المساواة بين الجنسين، ويحمي حقوق الأطفال، ويُراعي التنوع الثقافي والديني دون تمييز.
- إلغاء المواد التي تكرّس التمييز أو تضعف حماية الأسرة، خاصة في الحضانة، والولاية، والميراث، والزواج المبكر، بما لا يتعارض مع الثقافة السورية والدينية، وتلك مهمة البرلمان القادم.
ثانياً، إنشاء هيئة وطنية مستقلة لشؤون الأسرة:
- تأسيس هيئة مستقلة تُعنى برصد أوضاع الأسر المتضررة، وتقديم الدعم القانوني والاجتماعي، وتنسيق السياسات بين الجهات الحكومية والمجتمع المدني.
- ضمان استقلالية الهيئة عن التوظيف السياسي أو الأمني، وربطها بمجلس انتقالي أو تشريعي مؤقت.
ثالثاً، إطلاق برنامج وطني لدعم الأسر المتضررة:
- تخصيص موارد مالية لدعم الأسر المعيلة، والأسر التي فقدت أحد أفرادها، والأسر في مناطق النزاع أو الشتات.
- توفير خدمات الرعاية النفسية، والتعليم التعويضي، والتأمين الصحي، بالتعاون مع منظمات دولية.
رابعاً، إدماج الأسرة في مسار العدالة الانتقالية:
- الاعتراف الرسمي بما تعرضت له الأسر من انتهاكات، وتوثيق ذلك ضمن ملفات العدالة الانتقالية.
- تخصيص مسارات تعويض جماعية وفردية، تشمل الدعم المالي، ورد الاعتبار، والمشاركة في صياغة السياسات.
خامساً، إشراك المجتمع المدني في رسم السياسات الأسرية:
- فتح المجال أمام منظمات المجتمع المدني، والنقابات، والجهات الحقوقية، للمشاركة في صياغة السياسات، ومراقبة تنفيذها.
- دعم المبادرات المحلية التي تعزز الحوار داخل الأسر، وتُعيد بناء الثقة بين أفراد المجتمع.
سادساً، مواءمة السياسات الوطنية مع المعايير الدولية:
- الالتزام باتفاقيات الأمم المتحدة ذات الصلة، خاصة اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة.
- ربط السياسات الأسرية بأهداف التنمية المستدامة، وتفعيل الشراكة مع وكالات الأمم المتحدة المختصة.
أخيراً، إن بناء سورية الجديدة لا يمكن أن يتم دون إعادة بناء الأسرة، بوصفها الحاضنة الأولى للعدالة، والمواطنة، والتعايش.
يؤمن تيار المستقبل السوري أن هذه المهمة ليست تقنية أو قانونية فحسب، بل هي مهمة وطنية وأخلاقية، تتطلب إرادة سياسية، وتعاوناً مجتمعياً، وشراكة دولية، من أجل تأسيس عقد اجتماعي جديد، يضمن الكرامة لكل فرد، ويُعيد للسوريين ثقتهم بأنفسهم وبوطنهم.
المراجع:
- الخطيب، نادر. (2022). الأسرة السورية في زمن الحرب: دراسة اجتماعية ميدانية. مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
- مركز الدراسات القانونية والاجتماعية – باريس. (2020). إعادة تعريف الأسرة في سياقات النزاع والانتقال السياسي. منشورات المركز.
- مركز المواطنة والدراسات الاجتماعية – غازي عنتاب. (2023). إعادة بناء الأسرة السورية: مقاربة حقوقية وتنموية. دراسة تحليلية.
- شبكة المرأة السورية. (2022). إصلاح قانون الأحوال الشخصية في سورية: نحو عدالة جندرية. منشورات الشبكة.
- Syrian Center for Policy Research (SCPR). (2022). Fragmentation and resilience in Syria: Social trends and policy gaps. Retrieved from https://www.scpr-syria.org/
- Syrian Center for Policy Research (SCPR). (2023). Socioeconomic impact of the Syrian conflict on families. Retrieved from https://www.scpr-syria.org/
- UNDP. (2023). Social protection in fragile states: Comparative insights from Syria. Retrieved from https://www.undp.org/
- UNFPA. (2023). Families in crisis: The impact of conflict on household structures in Syria. Retrieved from https://www.unfpa.org/
- UNICEF Syria. (2023). Family and child protection in post-conflict Syria. Retrieved from https://www.unicef.org/syria/
- UNHCR & UNICEF. (2022). Protection needs of Syrian families in displacement and return. Retrieved from https://www.unhcr.org/
- International Center for Transitional Justice (ICTJ). (2021). Families and reparations: Integrating social policy in transitional justice. Retrieved from https://www.ictj.org/
- Buecher, B., & Aniyamuzaala, J. (2016). Women, war and the family: Gendered impacts of conflict. International Review of the Red Cross, 98(1), 29–56. https://doi.org/10.1017/S1816383117000423
- Save the Children. (2021). Child labor and family breakdown in conflict zones: The Syrian case. Retrieved from https://www.savethechildren.org/
- United Nations. (2015). Transforming our world: The 2030 agenda for sustainable development. Retrieved from https://sdgs.un.org/
- World Bank. (2021). Data gaps and policy challenges in post-conflict societies. Retrieved from https://www.worldbank.org/