زيارة وزير الخارجية إلى واشنطن كمحور لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية

المقدمة:

في سياق التحولات الدراماتيكية التي شهدتها سورية عقب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، تمثل زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى واشنطن في 18 سبتمبر 2025 نقطة تحول استراتيجية في العلاقات السورية-الأمريكية.
هذه الزيارة، التي وصفت بأنها "تاريخية" كونها الأولى على هذا المستوى منذ أكثر من عقدين، تأتي ضمن سلسلة من التطورات السياسية والأمنية التي تعكس إعادة ترتيب التحالفات في الشرق الأوسط.

بعد سنوات من العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية الخانقة، تسعى الحكومة السورية الانتقالية، بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى تعزيز شرعيتها الدولية من خلال التعاون مع الولايات المتحدة، مع التركيز على رفع العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر، وإقامة تفاهمات أمنية مع إسرائيل، ومواجهة النفوذ الإيراني المتبقي.
يعتمد هذا التحليل على مرحلة مابعد الأسد ليربط بين أحداثها في إطار سياسي لتقديم توصيات واستشرافات للمستقبل السوري.

الخلفية التاريخية.. من الثورة إلى الانهيار والانتقال:

بدأت الثورة السورية في مارس 2011 كجزء من موجة الربيع العربي، حيث تحولت الاحتجاجات السلمية إلى حرب مدمرة أدت إلى مقتل أكثر من نصف مليون شخص ونزوح ملايين آخرين.
دُعم نظام الأسد من قبل روسيا وإيران، مقابل تدخل دول غربية وإقليمية في دعم المعارضة، أدى إلى تعقيد الصراع وتقسيمه إلى مناطق نفوذ متعددة: المناطق الحكومية في الوسط والساحل، المناطق الكردية في الشمال الشرقي تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، والمناطق الشمالية الغربية مناصفة تحت سيطرة المعارضة وهيئة تحرير الشام (HTS).
بلغ الذروة في ديسمبر 2024، عندما انهار النظام الأسدي تحت ضغط هجوم متسارع من قبل تحالف معارض بقيادة HTS، مما أدى إلى فرار الأسد وتشكيل حكومة انتقالية في دمشق.
هذا السقوط لم يكن مفاجئاً؛ فقد سبقته مؤشرات مثل انسحاب الدعم الروسي التدريجي بسبب الالتزامات في أوكرانيا، وتراجع النفوذ الإيراني تحت ضغط الضربات الإسرائيلية المتكررة على قواعد حزب الله والحرس الثوري في سورية.
وفي يناير 2025، أعلنت الحكومة الانتقالية عن خطط لإعادة الإعمار، مع التركيز على دمج المكونات الإثنية والطائفية (علويون، أكراد، دروز) في هيكل حكم شامل.
رُبط هذا التحول بالسياسة الأمريكية الجديدة تحت إدارة دونالد ترامب الثانية، التي أعلنت في مايو 2025 عن رفع معظم العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر لعام 2019، الذي كان يستهدف منع إعادة الإعمار دون انتقال سياسي.
هذا الرفع، الذي تم عبر أمر تنفيذي في يونيو 2025، جاء مقابل تعهدات سورية بمكافحة الإرهاب وتقليل النفوذ الإيراني، مما يعكس انتقالاً من سياسة العزلة إلى التعاون الاستراتيجي.

التحول في العلاقات السورية-الأمريكية.. من العقوبات إلى الشراكة:

تاريخياً، كانت العلاقات السورية-الأمريكية متوترة منذ السبعينيات، مع تصنيف سورية كدولة راعية للإرهاب في 1979، وفرض عقوبات متزايدة بعد غزو لبنان في 1982 والدعم للإرهاب ضد إسرائيل، بلغت الذروة في 2012 مع تعليق العلاقات الدبلوماسية إثر قمع الثورة.
ومع ذلك، في مرحلة ما بعد الأسد، شهدت واشنطن تحولاً جذرياً، حيث أصبحت دمشق شريكاً محتملاً في مواجهة إيران.. زيارة الشيباني إلى واشنطن، التي شملت لقاءات مع مسؤولين في وزارة الخزانة ولجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، ركزت على جعل رفع العقوبات دائماً، مقابل إصلاحات داخلية تشمل تشكيل حكومة تمثيلية.
هذا التحول يرتبط بديناميكيات إقليمية أوسع، مثل اتفاقات أبراهام في 2020 التي عززت التطبيع العربي-الإسرائيلي، وتوسيعها لتشمل سورية كجزء من حائط أمني ضد إيران.
في يوليو 2025، أعلنت الولايات المتحدة عن دعم اقتصادي لسورية، بما في ذلك إعادة فتح السفارة في دمشق، مما يفتح الباب لاستثمارات أمريكية في الطاقة والزراعة.
ومع ذلك، تواجه هذه العلاقات تحديات داخلية أمريكية، مثل معارضة بعض أعضاء الكونغرس (مثل السيناتور ليندسي غراهام) الذين يطالبون بضمانات أمنية إسرائيلية قبل الرفع الكامل للعقوبات.

المفاوضات الأمنية مع إسرائيل.. ربط الاستقرار السوري بالأمن الإقليمي:

منذ سقوط الأسد، أصبحت المفاوضات السورية-الإسرائيلية محوراً رئيسياً، مع تركيز على اتفاق أمني يشمل سحب القوات الإسرائيلية من المناطق الجنوبية التي احتلتها إسرائيل في ديسمبر 2024، مقابل ضمانات سورية بعدم السماح بنفوذ إيراني أو حزب الله.
في سبتمبر 2025، أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع عن تقدم في المحادثات، مشيراً إلى إمكانية اتفاق في "أيام قادمة"، بوساطة أمريكية.
هذا يرتبط بزيارة الشيباني، التي تضمنت مناقشات حول لقاء ثلاثي سوري-إسرائيلي-أمريكي في واشنطن.
تاريخياً، كانت الحدود السورية-الإسرائيلية مصدر توتر منذ حرب 1967، مع احتلال الجولان. الآن، مع تراجع إيران – التي فقدت نفوذها الرئيسي في سورية بحظر دخول الإيرانيين في يناير 2025 – تسعى إسرائيل إلى مناطق منزوعة السلاح تمتد إلى دمشق، مقابل دعم اقتصادي.

هذا الاتفاق يعزز الاستقرار الإقليمي، لكنه يثير مخاوف من "سلام مجاني" يضر بمصالح سورية طويلة الأمد، خاصة مع مشاريع إسرائيلية استراتيجية مثل "ممر داود".

مواجهة النفوذ الإيراني.. محور السياسة الأمريكية:

كان النفوذ الإيراني في سورية، الذي بلغ ذروته في 2015 مع تدخل الحرس الثوري، عاملاً رئيسياً في استمرار الصراع.
بعد سقوط الأسد، انهار هذا النفوذ، مع إغلاق الحدود السورية أمام الإيرانيين في يناير 2025، وانسحاب حزب الله تحت ضغط إسرائيلي.
سياسة الولايات المتحدة في 2025، كما عبر عنها تقرير الكونغرس في سبتمبر، تركز على دعم الحكومة الانتقالية مقابل منع عودة إيران، مما يعكس استراتيجية "الحد الأقصى من الضغط" المستمرة منذ عهد ترامب الأول.
زيارة الشيباني تعزز هذا، مع تعهدات سورية بمكافحة تمويل الإرهاب، مقابل مساعدات أمريكية في إعادة الإعمار.

التحليل من منظور الفلسفة السياسية:

من منظور الرياليزم السياسي، كما طوره هانس مورغانثاو في "السياسة بين الأمم" (1948)، يُفسر هذا التحول كمحاولة لتحقيق توازن قوى إقليمي، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى ملء الفراغ الذي تركه سقوط الأسد لمواجهة إيران، بينما تحمي سورية مصالحها الوطنية من خلال التحالفات البراغماتية.
والزيارة تعكس "الأمن كأولوية"، حيث يصبح التعاون مع إسرائيل ضرورة للبقاء، لا خياراً أيديولوجياً.
أما الليبرالية الدولية، مستلهمة من إيمانويل كانط في "السلام الدائم" (1795)، فترى في رفع العقوبات والمفاوضات فرصة للتعاون الدولي، حيث يؤدي الديمقراطية الانتقالية في سورية إلى سلام إقليمي من خلال المؤسسات الدولية والاقتصاد المشترك.
ومع ذلك، يحذر الرياليزم من مخاطر الاعتماد على واشنطن، بينما تدعو الليبرالية إلى بناء مؤسسات داخلية قوية لضمان الاستدامة.

التوصيات.. نحو سياسة متوازنة:

بناءً على هذه المبادئ، يوصي تيار المستقبل السوري بما يأتي:
١- للحكومة السورية بتبني سياسة خارجية براغماتية تجنب "السلام المجاني"، من خلال ربط التنازلات الأمنية مع مكاسب اقتصادية، مثل ضمانات أمريكية لإعادة الإعمار ودمج الأكراد في الحكم لتجنب الانفصال.
٢- للولايات المتحدة، يجب التركيز على دعم انتقال ديمقراطي حقيقي، لا مجرد أمني، لتجنب إعادة إنتاج ديكتاتورية جديدة، مستلهماً الليبرالية في بناء مؤسسات.
٣- إقليمياً، يُنصح بوساطة سعودية-تركية لتوحيد الصف السوري، مع مواجهة إيران عبر حوار اقتصادي لتقليل التوترات.
٤- فلسفياً، يدعو الرياليزم إلى تعزيز القدرات الدفاعية السورية، بينما تشجع الليبرالية على الانضمام إلى اتفاقات أبراهام لتعزيز السلام الاقتصادي.

استشراف الوضع السوري.. سيناريوهات المستقبل:

في أفضل السيناريوهات، يؤدي نجاح الزيارة إلى استقرار اقتصادي بحلول 2027، مع نمو الناتج المحلي بنسبة 5-7% سنوياً بفضل الاستثمارات الأمريكية والعربية، وتطبيع مع إسرائيل يقلل التوترات الحدودية.
ومع ذلك، في سيناريو سلبي، قد يؤدي فشل المفاوضات إلى تجدد الصراعات الطائفية، خاصة إذا استمرت معارضة الكونغرس لرفع العقوبات، مما يعيد إيران إلى المشهد عبر وكلاء خاملون حاليا.
متوسطاً، يتوقع انتقال تدريجي نحو ديمقراطية هشة بحلول 2030، مع تحديات مثل اندماج HTS في النظام السياسي ومواجهة التهديدات الكردية الانفصالية، حيث يعتمد الاستقرار على التوازن بين الرياليزم (الحفاظ على السيادة) والليبرالية (التعاون الدولي)، مع خطر عودة الاستبداد إذا غلب الرياليزم.

الخاتمة:

تمثل زيارة أسعد الشيباني إلى واشنطن بداية صفحة جديدة في تاريخ سورية، تربط بين سقوط الأسد، ورفع العقوبات، والمفاوضات مع إسرائيل في إطار مواجهة إيران.
من خلال ربط هذه الأحداث سياسياً، يظهر التحليل كيف يمكن لسورية تحقيق استقرار إقليمي.
مع ذلك، يظل المستقبل معلقاً على القدرة على تجاوز التحديات الداخلية والخارجية، لتحويل الفرص إلى واقع مستدام.

المراجع:

  1. Al Jazeera. (2024, December 8). What happened in Syria? How did al-Assad fall? Al Jazeera. Retrieved from https://www.aljazeera.com/news/2024/12/8/what-happened-in-syria-has-al-assad-really-fallen
  2. Al Jazeera. (2025, September 17). Talks with Israel could lead to results ‘in days’, says Syria’s al-Sharaa. Al Jazeera. Retrieved from https://www.aljazeera.com/news/2025/9/17/talks-with-israel-could-lead-to-result-in-days-says-syrias-al-sharaa
  3. Brookings Institution. (2024, December 9). The Assad regime falls. What happens now? Brookings Institution. Retrieved from https://www.brookings.edu/articles/the-assad-regime-falls-what-happens-now/
  4. Journal of Democracy. (2025). “Forever Has Fallen”: The End of Syria’s Assad. Journal of Democracy. Retrieved from https://www.journalofdemocracy.org/articles/forever-has-fallen-the-end-of-syrias-assad/
  5. NBC News. (2025, September 18). Syria’s foreign minister is in Washington for the first visit by a Damascus official in 25 years. NBC News. Retrieved from https://www.nbcnews.com/world/middle-east/syrias-foreign-minister-washington-first-visit-damascus-official-25-ye-rcna232084
  6. New York Times. (2025, September 18). Syria’s President Says Border Deal With Israel Could Come ‘Within Days’. New York Times. Retrieved from https://www.nytimes.com/2025/09/18/world/middleeast/syria-israel.html
  7. Reuters. (2024, December 8). Syrian rebels topple Assad who flees to Russia in Mideast shakeup. Reuters. Retrieved from https://www.reuters.com/world/middle-east/syria-rebels-celebrate-captured-homs-set-sights-damascus-2024-12-07/
  8. Reuters. (2025, September 18). Syria’s foreign minister in Washington, a first in 25 years. Reuters. Retrieved from https://www.reuters.com/world/middle-east/syrias-foreign-minister-washington-first-25-years-2025-09-18/
  9. U.S. Congress. (2025, September 5). Syria: Transition and U.S. Policy (CRS Report RL33487). Congressional Research Service. Retrieved from https://www.congress.gov/crs-product/RL33487
  10. U.S. Department of State. (2025, June 30). Termination of Syria Sanctions. U.S. Department of State. Retrieved from https://www.state.gov/releases/office-of-the-spokesperson/2025/06/termination-of-syria-sanctions

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع