في ظل التحولات السريعة التي تشهدها المنطقة، يبرز الملف السوري كساحة لإعادة رسم التوازنات الإقليمية، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع التحديات الأمنية المحلية.
يأتي ذلك في سياق عودة ملحوظة للدور الروسي في سورية، مصحوبة بإمكانية تنسيق مع تركيا لمواجهة التصعيد الإسرائيلي. هذه "المعادلة الجديدة"، كما وصفها مراقبون، ليست مجرد تفاعلات دبلوماسية عابرة، بل تعكس تحولاً استراتيجياً قد يعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
في هذا المقال، سنناقش أبعاد هذه المعادلة سياسياً، مستندين إلى السياق التاريخي والتطورات الحالية، مع التركيز على دور موسكو وأنقرة في مواجهة ما يُعتبر "عدواناً إسرائيلياً" متزايداً.
السياق التاريخي: من التراجع الروسي إلى العودة الاستراتيجية
منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في 2022، شهد الدور الروسي في سورية تراجعاً ملحوظاً، مما أتاح لإسرائيل توسيع عملياتها العسكرية دون رادع قوي، كانت موسكو قد حافظت سابقاً على آلية "منع الاشتباك" مع تل أبيب، ورعت تسويات محلية أبعدت الميليشيات الإيرانية عن الحدود الجنوبية السورية، مما ساهم في تهدئة مؤقتة.
ومع ذلك، فإن التراجع الروسي أدى إلى فراغ أمني استغلته إسرائيل لتعزيز نفوذها، خاصة في الجنوب السوري، اليوم، مع زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك إلى دمشق في 9 سبتمبر 2025، وزيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو في أغسطس الماضي، يبدو أن روسيا تعيد الاستثمار في حضورها، هذه الزيارات ليست اقتصادية فحسب –رغم تركيزها على الطاقة والبنى التحتية– بل تحمل أبعاداً أمنية وعسكرية واضحة، تهدف إلى إعادة التوازن في مواجهة التصعيد الإسرائيلي.
فمن الناحية السياسية، تعكس هذه العودة رغبة موسكو في استعادة نفوذها الإقليمي، خاصة بعد أن أصبحت سورية "سورية الجديدة" بعد سقوط نظام الأسد في 2024. كما أنها تتزامن مع مخاوف روسية من الهيمنة الإسرائيلية، التي قد تمزق الجغرافيا السورية وتهدد المصالح الروسية في القواعد العسكرية مثل حميميم وطرطوس. في هذا السياق، يرى مراقبون أن روسيا لا ترى في سورية مصلحة استراتيجية محدودة، بل ملاذاً لتعزيز شراكاتها مع أطراف أخرى، مثل تركيا، لمواجهة التحديات المشتركة.
التنسيق الروسي-التركي: مصالح مشتركة أم تحالف هش؟
يبرز التعاون المحتمل بين موسكو وأنقرة كعنصر أساسي في هذه المعادلة الجديدة.
تركيا، التي تسيطر على مناطق شمالية سورية، ترى في التصعيد الإسرائيلي تهديداً مباشراً لأمنها القومي، خاصة مع تزايد الضربات الجوية الإسرائيلية والتوغلات الميدانية، ومن جانبها، أعربت روسيا عن استعدادها للتعاون مع تركيا في مجالات الدفاع الجوي دون قيود، مما يشير إلى إمكانية تنسيق أمني مشترك، هذا التنسيق ليس جديداً؛ فقد سبق أن رعت روسيا تفاهمات إقليمية مع تركيا، لكنه يأخذ اليوم بعداً أكبر في مواجهة "الانفراد الإسرائيلي".
سياسياً، يعتمد هذا التنسيق على مصالح مشتركة: روسيا تسعى إلى ضبط التوازن في الجنوب السوري من خلال ترتيبات مرنة، بينما تركيا تبحث عن مساحة تفاوضية أوسع مع دمشق وتل أبيب. ومع ذلك، يظل هذا التحالف هشاً بسبب التعقيدات الإقليمية، مثل الخلافات حول "قسد" (قوات سوريا الديمقراطية)، حيث تلقت الأخيرة وعوداً إسرائيلية بالحماية مقابل استفزازات ضد دمشق، مما يعقد الموقف التركي، كما أن بعض التحليلات تشير إلى أن التحركات الروسية قد تكون موجهة جزئياً من البوصلة الإسرائيلية، لمنع توسع النفوذ التركي، مما يضيف طبقة من التعقيد إلى هذه المعادلة.
في الوقت نفسه، يرفض الجانب السوري أي دعم عسكري روسي كبديل للدعم التركي، مرحباً بدور موسكو في إعادة الإعمار والأمن، بشرط أن يكون شفافاً ويحترم السيادة السورية، هذا الموقف يعكس حرص دمشق على توازن العلاقات، معتمدة على شراكات متعددة لتجنب التبعية.
التحدي الإسرائيلي: بين التصعيد والحاجة إلى تهدئة
يُعتبر التصعيد الإسرائيلي العامل المحفز الرئيسي لهذه المعادلة الجديدة، فإسرائيل، التي تواصل ضرباتها الجوية، ترى في الفراغ السوري فرصة لتعزيز أمنها، لكن ذلك يثير قلقاً إقليمياً، تشير التحليلات إلى أن إسرائيل قد تضطر للتأقلم مع النفوذ التركي المتنامي في سورية، خاصة مع دعم أنقرة للاستقرار السوري، ومع ذلك، فإن التواصل بين تركيا وإسرائيل عبر قنوات مخابراتية يشير إلى إمكانية تهدئة، رغم التحذيرات التركية من استغلال الأوضاع.
سياسياً، قد يؤدي التنسيق الروسي-التركي إلى تهدئة مؤقتة، إذ تمتلك موسكو قدرات تفاوضية فريدة مع إسرائيل، لكن الهشاشة تكمن في التنافس الإسرائيلي-التركي، الذي يتجاوز سورية إلى قضايا أوسع مثل فلسطين والاقتصاد الإقليمي.
الاستنتاج: نحو توازن إقليمي مستدام؟
تشكل هذه المعادلة الجديدة فرصة لسورية لاستعادة استقرارها، بشرط أن تكون الشراكات قائمة على المصلحة المشتركة والسيادة.
روسيا وتركيا، رغم اختلافاتهما، يمكنهما أن يشكلا جبهة موحدة أمام التحدي الإسرائيلي، مما يعزز الدور السوري في المنطقة، ومع ذلك، يتطلب النجاح تجاوز الهشاشة من خلال تفاهمات دولية تضمن عدم التصعيد.
في النهاية، فإن سورية الجديدة بحاجة إلى سياسة خارجية متوازنة، تحول التحديات إلى فرص للبناء، بعيداً عن التبعية والصراعات الخارجية.