الاغتصاب في سورية

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011م، شهد المجتمع السوري تحولات عميقة في بنيته القانونية والاجتماعية، كان من أبرز تجلياتها تصاعد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وعلى رأسها جريمة الاغتصاب.
هذه الجريمة، التي تُعد من أشد أشكال العنف الجنسي، تجاوزت في السياق السوري حدود الفعل الفردي لتتحول إلى أداة ممنهجة في النزاع، تُستخدم لترهيب المجتمعات، وتفكيك الروابط الأسرية، وإذلال الضحايا على نحو يترك آثارًا نفسية واجتماعية طويلة الأمد.

في هذا المقال، نسعى إلى تناول ظاهرة الاغتصاب في سورية من منظور يدمج بين التحليل القانوني، والتشخيص النفسي، والتفكيك الاجتماعي، مع التركيز على دور المؤسسات الأسرية في الوقاية والاستجابة، وتقديم رؤية متكاملة لمعالجة هذه الجريمة في سياق العدالة الانتقالية.

الإطار القانوني لجريمة الاغتصاب في سورية:
ينظم القانون السوري جريمة الاغتصاب ضمن المواد 489 إلى 492 من قانون العقوبات، حيث يُعاقب من يُكره شخصًا على الجماع بالعنف أو التهديد بالأشغال الشاقة لمدة لا تقل عن خمس سنوات، ورغم وضوح النص، إلا أن التشريعات السورية تعاني من قصور بنيوي في معالجة العنف الجنسي، أبرزها:

  • عدم شمول الذكور ضمن تعريف الضحايا، رغم توثيق حالات اغتصاب ضد رجال خلال سنوات النزاع.
  • صعوبة إثبات الجريمة أمام القضاء، نتيجة غياب الفحوصات الطبية الفورية، وضعف آليات التوثيق، والخوف المجتمعي من الإبلاغ.

في المقابل، تتبنى المواثيق الدولية، وعلى رأسها اتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقيات جنيف، تعريفًا أوسع للاغتصاب، يشمل أي فعل جنسي يتم دون موافقة حرة، ويعتبره جريمة ضد الإنسانية إذا ارتُكب ضمن سياق نزاع مسلح.

الاغتصاب كسلاح في النزاع السوري:

منذ عام 2011، وثّقت منظمات حقوقية آلاف الحالات التي ارتُكبت خلالها جرائم اغتصاب في سورية، بعضها تم داخل مراكز الاحتجاز، وبعضها الآخر خلال عمليات اقتحام القرى والمدن، فقد تم توثيق ما لا يقل عن 11,553 حالة عنف جنسي ضد الإناث في سورية منذ مارس 2011 حتى نوفمبر 2024، من بين هذه الحالات، ارتكبت قوات النظام السوري البائد أكثر من 8,000 حادثة عنف جنسي، منها 881 حالة داخل مراكز الاحتجاز، و443 حالة لفتيات دون سن 18 عامًا.
وهذه الانتهاكات لم تكن فردية أو عشوائية، بل اتسمت بطابع ممنهج، وغالبًا ما ارتُكبت ضمن سياسة العقاب الجماعي أو بهدف السيطرة على المجتمعات المحلية، وهذه الاعتداءات الجنسية كانت جزءًا من نمط أوسع من الانتهاكات، شمل الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والاختفاء القسري، ما أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي السوري وترك آثار نفسية واجتماعية عميقة.
الاغتصاب في هذا السياق تجاوز كونه فعلًا جنائيًا، ليصبح أداة حرب، تُستخدم لتفكيك الروابط الأسرية، وإذلال الضحايا، وإجبارهم على الصمت تحت وطأة الخوف والوصمة، وقد شملت هذه الانتهاكات النساء، والفتيات والقاصرات، وحتى الذكور، ما يعكس حجم المأساة وتعقيداتها.

الآثار النفسية والاجتماعية على الضحايا:
تُخلّف جريمة الاغتصاب آثارًا نفسية عميقة، تبدأ من الصدمة المباشرة، ولا تنتهي إلا بعد سنوات من المعاناة، وقد لا تنتهي أبدًا. من أبرز هذه الآثار:

  • اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الذي يؤثر على قدرة الضحية على العمل، والتواصل، وبناء علاقات صحية.
  • الشعور بالذنب والعار، نتيجة ثقافة لوم الضحية السائدة في بعض المجتمعات، والتي تُحمّل الضحية مسؤولية ما تعرضت له.
  • الانعزال الاجتماعي، حيث تُنبذ الضحية أو تُجبر على الصمت حفاظًا على "السمعة"، ما يؤدي إلى تفاقم المعاناة النفسية.
  • صعوبة الوصول إلى العلاج النفسي أو الدعم القانوني، خاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة أو التي تفتقر إلى مؤسسات حماية فعالة.
    أما الأطفال الناتجون عن الاغتصاب، فيواجهون تحديات قانونية واجتماعية مضاعفة، منها عدم الاعتراف بالنسب، وحرمانهم من الجنسية، ووصمة مجتمعية قد تلازمهم مدى الحياة.

العنف الجنسي ضد الذكور والأطفال:

رغم أن معظم التقارير تركز على النساء، إلا أن الذكور أيضًا تعرضوا لانتهاكات جنسية، خصوصًا داخل مراكز الاحتجاز. هذه الحالات غالبًا ما تُغفل بسبب الوصمة الاجتماعية، والخوف من الاعتراف، وغياب آليات الدعم.
أما الأطفال، فقد كانوا ضحايا للاغتصاب، والاستغلال الجنسي، والزواج القسري، بعض الفتيات تم تزويجهن في سن مبكرة تحت ضغط الحاجة أو الخوف، فيما تعرض أطفال آخرون للاستغلال في شبكات دعارة أو تجارة بشرية، ما يستدعي تدخلًا عاجلًا من المؤسسات المعنية بحماية الطفولة.

تحديات التوثيق والمساءلة:
توثيق حالات الاغتصاب في سورية يواجه عدة عقبات، أبرزها:

  • الخوف من الانتقام أو الفضيحة يمنع الضحايا من الإبلاغ.
  • غياب مؤسسات قضائية مستقلة في مناطق النزاع.
  • صعوبة الوصول إلى الضحايا في المناطق المحاصرة أو الخارجة عن السيطرة.
  • عدم وجود آليات حماية فعالة للضحايا أو الشهود.

ورغم الجهود التي تبذلها بعض المنظمات الحقوقية، إلا أن الأرقام الموثقة تبقى جزءًا صغيرًا من الواقع، نظرًا لحجم الانتهاكات وعدم الإبلاغ عنها.

دور المؤسسات الأسرية في الوقاية والحماية:
في ظل هذا الواقع، يبرز دور مكاتب شؤون الأسرة كمؤسسات محورية في الوقاية والاستجابة لجريمة الاغتصاب، حيث يمكن للمكاتب أن تضطلع بعدة مهام استراتيجية، منها:

  • إنشاء مراكز دعم نفسي واجتماعي للضحايا، تقدم خدمات علاجية وسلوكية متخصصة.
  • تقديم استشارات قانونية مجانية، ومرافقة الضحايا في الإجراءات القضائية.
  • تنظيم حملات توعية لتغيير النظرة المجتمعية تجاه الضحايا، وكسر ثقافة الصمت والوصمة.
  • الضغط من أجل تعديل القوانين لتشمل كافة أشكال العنف الجنسي، بما فيها العنف ضد الذكور.
  • التعاون مع منظمات دولية لتدريب الكوادر المحلية على التعامل مع الضحايا، وتوثيق الحالات بطريقة مهنية تضمن العدالة.

العدالة الانتقالية والمحاسبة:
في مرحلة ما بعد النزاع، يجب أن تكون العدالة الانتقالية شاملة، وتضع ضحايا الاغتصاب في صلب أولوياتها، ذلك يشمل:

  • الاعتراف الرسمي بالانتهاكات، وتوثيقها ضمن سجلات العدالة الانتقالية.
  • محاكمة الجناة أمام محاكم وطنية أو دولية، وفقًا للمعايير الدولية.
  • تعويض الضحايا ماديًا ومعنويًا، بما يضمن إعادة الاعتبار والكرامة.
  • إدماج الضحايا في برامج إعادة التأهيل والتمكين الاقتصادي، لضمان اندماجهم في المجتمع.
    فالعدالة ليست فقط في إصدار الأحكام، بل في إعادة الكرامة للضحايا، وضمان عدم تكرار الجريمة، وبناء مجتمع يحترم الإنسان، ويصون حقوقه، ويضمن له الحماية.

خاتمة:

الاغتصاب هو انعكاس لانهيار منظومة القيم، وتفكك المؤسسات، وتغوّل العنف على المجتمع، ومعالجة هذه الظاهرة تتطلب مقاربة شاملة، قانونية، واجتماعية، ونفسية، تبدأ بالاعتراف، ولا تنتهي إلا بإعادة بناء مجتمع يحترم الإنسان، ويصون كرامته، ويضمن له العدالة.

وعليه فإننا في مكتب شؤون الأسرة لـ تيار المستقبل السوري ولمعالجة جريمة الاغتصاب في سورية، وانطلاقًا من مسؤولية مكتب شؤون الأسرة في حماية الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، وتعزيز العدالة الاجتماعية، يوصي المكتب بما يلي:

أولًا: على المستوى القانوني

  1. تعديل التشريعات الوطنية بما يضمن تعريفًا شاملًا لجريمة الاغتصاب، يتماشى مع المعايير الدولية، ويشمل جميع الفئات العمرية والجندرية.
  2. إنشاء وحدات قضائية متخصصة في الجرائم الجنسية، تضم قضاة وأطباء شرعيين وأخصائيين نفسيين، لضمان تحقيق عادل وسريع.
  3. إلغاء أي مواد قانونية تتيح الإفلات من العقاب أو تخفيف الحكم في حال "زواج الجاني من الضحية"، لما في ذلك من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان.

ثانيًا: على المستوى المؤسسي

  1. تأسيس مراكز دعم نفسي واجتماعي في جميع المحافظات، تقدم خدمات علاجية، وقانونية، وتأهيلية للناجيات والناجين من العنف الجنسي.
  2. تدريب الكوادر الطبية والاجتماعية على كيفية التعامل مع ضحايا الاغتصاب، بما يراعي الحساسية النفسية والخصوصية.
  3. إطلاق خط ساخن وطني لتلقي البلاغات بسرية تامة، وتوفير استجابة فورية للحالات الطارئة.

ثالثًا: على المستوى المجتمعي

  1. تنظيم حملات توعية وطنية تهدف إلى كسر ثقافة الصمت، ومكافحة وصمة الضحية، وتعزيز ثقافة المساءلة.
  2. إدماج التربية الجنسية الوقائية في المناهج التعليمية، بما يتناسب مع الخصوصية الثقافية، ويركز على مفاهيم الحماية والاحترام المتبادل.
  3. تشجيع الإعلام المحلي على تناول القضية بمهنية، بعيدًا عن الإثارة أو التشهير، مع التركيز على حقوق الضحايا وواجبات المجتمع.

رابعًا: على المستوى الدولي

  1. التعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية لتوثيق الانتهاكات، وتقديم الدعم الفني والتقني في بناء آليات الحماية.
  2. المطالبة بإدراج جرائم الاغتصاب في سورية ضمن ملفات العدالة الانتقالية، لضمان عدم الإفلات من العقاب، وإنصاف الضحايا.

تؤكد هذه التوصيات التزام مكتب شؤون الأسرة في تيار المستقبل السوري بالتصدي لجريمة الاغتصاب بوصفها تهديدًا مباشرًا للسلام المجتمعي، واعتداءً على الكرامة الإنسانية، وتدعو جميع الجهات المعنية إلى العمل المشترك من أجل بناء بيئة آمنة وعادلة لجميع أفراد المجتمع السوري.

شاركها على:

اقرأ أيضا

منتدى الأعمال السوري الكوري

منتدى الأعمال السوري الكوري الذي أقيم في الشيراتون بحضور الدكتور زاهر بعدراني.

5 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع