معالجة أزمة القمامة في سورية

مقدمة:

تشهد سورية، وبالأخص مدن مثل جرمانا بريف دمشق، أزمة متفاقمة في تراكم النفايات، كما ورد في تقارير اعلامية عن تراكم النفايات في جرمانا، حيث تُنتج جرمانا وحدها حوالي 1000 طن من النفايات يومياً، وسط نقص حاد في عمال النظافة، والآليات، والبنية التحتية، مما يفاقم المخاطر الصحية والبيئية.

ورغم أن هذه الأزمة تبدو عبئاً ثقيلاً في ظل التحديات الاقتصادية والإدارية التي تواجهها سورية بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، إلا أنها قد تتحول إلى فرصة اقتصادية وبيئية إذا تم استلهام تجارب دول نجحت في تحويل إدارة النفايات إلى مورد مستدام، يهدف هذا المقال إلى تحليل أزمة القمامة في سورية، مع استعراض تجارب دولية تُظهر كيف يمكن للنفايات أن تكون ملفاً إيجابياً.

1. أزمة النفايات في سورية.. الأسباب والتحديات:
تُعاني جرمانا -كمثال واقعي عن واقعي النفايات في سورية- من تراكم النفايات بسبب عدة عوامل:

  • نقص العمالة: انخفاض الرواتب (400 ألف ليرة سورية، أي حوالي 10 دولارات شهرياً) يمنع توظيف عمال نظافة، حيث لم يتقدم أحد لشغل 40 وظيفة أُعلن عنها.
  • ضعف البنية التحتية: شاحنات النقل القديمة والحاويات غير الكافية تعيق جمع النفايات، مما يؤدي إلى تراكمها في شوارع مثل كرم صمادي وكشكول.
  • الكثافة السكانية: تضاعفت كميات النفايات في جرمانا بسبب تدفق النازحين منذ بداية الثورة السورية، مما زاد الضغط على النظام البلدي.
  • سوء الإدارة والفساد: تفاوت توزيع الحاويات وفرض رسوم غير فعالة (25 ألف ليرة على المحال) يعكس غياب التخطيط الفعال.

وعليه فقد شهدت هذه المناطق وغيرها التأثيرات التالية:

  • صحياً: انتشار أمراض مثل الليشمانيا (عادت في أغسطس 2025)، والتيفوئيد، والكوليرا بسبب الحشرات والقوارض.
  • بيئياً: حرق النفايات يتسبب في تلوث الهواء، وتسرب الملوثات إلى المجاري يهدد المياه الجوفية.
  • اجتماعياً: يعاني السكان، من انخفاض جودة الحياة، مع مخاوف من تفاقم الأزمة في الشتاء.

إن هذه التحديات ليست فريدة من نوعها، فقد واجهت دول أخرى أزمات مماثلة لكنها استطاعت تحويل النفايات إلى مورد اقتصادي وبيئي.

2. النفايات كمورد اقتصادي وبيئي.. تجارب دولية:
يمكن لسورية الاستفادة من تجارب دول نجحت في إدارة النفايات، حيث أثبتت أن القمامة يمكن أن تكون مصدراً للثروة والاستدامة. فيما يلي أمثلة عنها:

أ. السويد: تحويل النفايات إلى طاقة

  • التجربة: تُعد السويد رائدة عالمياً في إعادة تدوير النفايات، حيث تُعاد تدوير أو تحويل 99% من النفايات المنزلية إلى طاقة أو مواد قابلة لإعادة الاستخدام، وبحسب تقرير الوكالة السويدية للبيئة (2023)، تُحرق النفايات غير القابلة لإعادة التدوير في محطات مخصصة لتوليد الكهرباء والتدفئة، مما يغطي 20% من احتياجات التدفئة في البلاد.
  • الآلية: يتم فصل النفايات عند المصدر (عضوية، بلاستيك، معادن) من قبل الأفراد، ثم تُنقل إلى محطات تحويل النفايات إلى طاقة (WTE)، كما أن السويد تستورد النفايات من دول مثل النرويج لتشغيل هذه المحطات.
  • النتائج الاقتصادية: خلقت هذه الصناعة آلاف الوظائف، وقللت الاعتماد على الوقود الأحفوري بنسبة 10% في قطاع التدفئة.
    يمكن لسورية، رغم تحدياتها، البدء بمشاريع صغيرة لتحويل النفايات العضوية إلى سماد أو غاز حيوي، مع الاستفادة من دعم دولي لإنشاء محطات WTE في دمشق أو حلب.

ب. ألمانيا: اقتصاد دائري من خلال إعادة التدوير

  • التجربة: تُعد ألمانيا الأولى أوروبياً في إعادة التدوير، حيث أعادت تدوير 67% من نفاياتها المنزلية في 2022، وفقاً للمكتب الاتحادي للإحصاء، كما أن النظام يعتمد على قوانين صارمة لفصل النفايات (ورق، بلاستيك، زجاج، عضوي) وفرض غرامات على عدم الامتثال.
  • الآلية: تُشجع الحكومة الشركات على تصميم منتجات قابلة لإعادة التدوير، وتدعم صناعات إعادة التدوير بإعانات، على سبيل المثال، يُعاد تدوير البلاستيك، والنفايات العضوية لصناعة السماد.
  • النتائج الاقتصادية: سوق إعادة التدوير في ألمانيا يُساهم بـ50 مليار يورو سنوياً في الاقتصاد، ويوفر 300 ألف وظيفة (تقرير 2023).
    يمكن لسورية إطلاق حملات توعية لفصل النفايات عند المصدر، مع إنشاء مراكز إعادة تدوير صغيرة لتحويل البلاستيك والورق إلى منتجات محلية، مما يخلق وظائف للشباب.

ج. رواندا: نهضة بيئية في بلد نامٍ

3.كيف يمكن لسورية تحويل النفايات إلى فرصة؟
استناداً إلى التجارب الدولية، يمكن لسورية تحويل أزمة النفايات إلى ملف إيجابي عبر الخطوات التالية:

أ. الاستثمار في البنية التحتية:

  • محطات تحويل النفايات إلى طاقة، عبر إنشاء محطات صغيرة لتحويل النفايات العضوية إلى غاز حيوي أو كهرباء، بدعم من منظمات مثل UNDP أو البنك الدولي، وهذا يمكن أن يوفر طاقة للمناطق المحرومة مثل جرمانا.
  • مراكز إعادة تدوير محلية، وإقامة مراكز صغيرة لفرز وتدوير البلاستيك والورق، مما يقلل الاعتماد على المكبات ويخلق وظائف.

ب. التشريعات والتوعية:

  • تشريعات لفصل النفايات عبر فرض قوانين بسيطة لفصل النفايات عند المصدر، مع حملات توعية عبر المدارس والمساجد لتشجيع المواطنين.
  • حوافز للقطاع الخاص عبر تقديم إعفاءات ضريبية للشركات التي تستثمر في إعادة التدوير أو جمع النفايات.

ج. خلق فرص عمل:

  • توظيف الشباب والنازحين، وتحسين رواتب عمال النظافة (حالياً 400 ألف ليرة) وتوفير تدريب للشباب للعمل في مراكز إعادة التدوير.
  • تمكين النساء، استلهاماً من رواندا، حيث يمكن إشراك النساء في جمع وفرز النفايات، مما يعزز التمكين الاقتصادي.

د. الشراكات الدولية:

  • الاستفادة من دعم منظمات مثل UNDP، التي بدأت بتوزيع حاويات في جرمانا (مايو 2025)، لتوسيع المشاريع إلى مدن أخرى.
  • التعاون مع دول مثل السويد لنقل الخبرات في تحويل النفايات إلى طاقة.

4. التحديات المحتملة في سورية:
من خلال استقراء الواقع السوري بملف النفايات، يظهر أمام سورية ثلاث تحديات أمام معالجة ملف النفايات، وهي:

  • الوضع الاقتصادي، إذ الاقتصاد الهش يحد من الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية.
  • الاستقرار السياسي، فالتوترات الطائفية، كما حدث في جرمانا في فبراير 2025، قد تعيق تنفيذ المشاريع.
  • نقص الوعي، وغياب ثقافة إعادة التدوير بين السكان يتطلب حملات توعية مكثفة.

الخاتمة:

تُمثل أزمة تراكم النفايات في جرمانا وسورية تحدياً بيئياً وصحياً، لكنها تحمل أيضاً فرصاً واعدة لتحقيق تنمية مستدامة، كما تُظهر تجارب دول مثل السويد، وألمانيا، ورواندا.

يمكن للنفايات أن تتحول إلى مصدر للطاقة، وفرص العمل، وتعزيز الاقتصاد المحلي إذا تم اعتماد استراتيجيات فعّالة.

وانطلاقاً مما ورد، فإننا في المكتب الاقتصادي لـ تيار المستقبل السوري، نوصي بما يلي:

  1. إطلاق برامج توعية وطنية، عبر تشجيع المواطنين على فصل النفايات عند المصدر من خلال حملات توعية في المدارس والمجتمعات المحلية، بالتعاون مع منظمات دولية.
  2. إنشاء مراكز إعادة تدوير محلية، من خلال تأسيس مراكز صغيرة في جرمانا ومدن أخرى لتدوير البلاستيك والورق، مع توفير فرص عمل للشباب والنازحين.
  3. تعزيز الشراكات الدولية، والتعاون مع UNDP ودول مثل السويد لإنشاء محطات تحويل النفايات إلى طاقة، مما يساهم في توفير الكهرباء.
  4. تحسين رواتب عمال النظافة عبر زيادة الأجور لجذب العمالة، مع تقديم تدريب مهني لضمان كفاءة جمع النفايات.
  5. إشراك القطاع الخاص، من خلال تقديم حوافز ضريبية للشركات التي تستثمر في إدارة النفايات، على غرار نموذج رواندا.

من خلال هذه الخطوات، نرى في تيار المستقبل السوري أنه يمكن تحويل أزمة النفايات إلى رافعة اقتصادية وبيئية، تساهم في بناء سورية المستقبل كدولة مستدامة ومزدهرة.
فأزمة النفايات في سورية عموماً، تمثل تحدياً كبيراً، لكنها تحمل إمكانيات اقتصادية وبيئية هائلة إذا تم التعامل معها بشكل استراتيجي، وتجارب السويد وألمانيا ورواندا تُظهر أن النفايات يمكن أن تتحول إلى مصدر للطاقة، والوظائف، والاستدامة.

وفي سورية، يمكن البدء بخطوات صغيرة مثل تعزيز جمع النفايات، إنشاء مراكز إعادة تدوير محلية، والاستفادة من الدعم الدولي، حيث مع التخطيط السليم والإرادة السياسية، يمكن للنفايات أن تصبح ملفاً إيجابياً يساهم في إعادة بناء سورية اقتصادياً وبيئياً.

المراجع:

  • تقرير "تلفزيون سورية"، 11 سبتمبر 2025.
  • الوكالة السويدية للبيئة، تقرير إدارة النفايات 2023.
  • المكتب الاتحادي الألماني للإحصاء، بيانات إعادة التدوير 2022.
  • تقرير البنك الدولي عن إدارة النفايات في رواندا، 2022.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع