المقدمة:
في سياق التحولات الكبرى التي يشهدها العالم المعاصر، برز مفهوم "الأجيال" كمفتاح لفهم الديناميكيات المجتمعية، لا سيما في البلدان التي مرت بأزمات وصراعات عميقة مثل سورية، فمن جيل زيد الذي نشأ مع بدايات الإنترنت، إلى جيل ألفا الذي وُلد في أحضان الرقمنة، وصولًا إلى جيل بيتا الذي يُتوقع أن يشهد اندماجًا أوسع مع الذكاء الاصطناعي والواقع الممتد، فإن كل جيل يعكس تكوينًا معرفيًا وثقافيًا واجتماعيًا فريدًا.
ومع بروز هذه التصنيفات الجيلية، لم تعد الأسرة مجرد إطار تقليدي للتنشئة، بل أصبحت فضاءً ديناميكيًا تتقاطع فيه التحولات التكنولوجية، وتحديات الهوية، والصراعات بين القيم.
في هذا المقال، نهدف إلى إعادة فهم العلاقة بين جيل بيتا والأسرة السورية المعاصرة ضمن رؤية تنموية، تربط بين التنوع الجيلي والمصالحة المجتمعية، وتحفّز على تصور جديد للأسرة بوصفها رافعة للتغيير.
الأجيال وتحوّلات الزمن المعاصر:
يُعرّف الباحثون الأجيالَ بوصفها مجموعات عمرية ترتبط بتجارب ثقافية وتاريخية مميزة، وهو تعريف يحمل جذورًا في علم الاجتماع والدراسات الثقافية، فبالنسبة للجيل زيد (مواليد 1997–2012)، يُنظر إليه على أنه جيل ذو وعي حقوقي مرتفع، نشأ في ظل انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. أما جيل ألفا (2013–2025)، فقد تشكل في بيئة عالية الرقمنة، حيث يتداخل الذكاء الاصطناعي مع التعليم والترفيه اليومي.
أما جيل بيتا، فالمتوقع ظهوره بعد 2025، وسيكون جيلًا يعيش في واقع ممتد، حيث قد تصبح التقنيات العصبية، والمعلومات المخصصة، جزءاً من يومياته.
وفي السياق السوري، تُمثل هذه التحولات تحديًا مضاعفًا، إذ أن التجربة الجيلية في سورية لا تتشكل فقط في ضوء التكنولوجيا، بل تتقاطع مع الحرب، والنزوح، والانقطاع التعليمي، والبحث المستمر عن هوية وطنية ومجتمعية.
فالأطفال السوريون الذين سيعيشون بدايات جيل بيتا، يعيشون واقعًا لا يُشبه نظراءهم في دول مستقرة؛ مما يتطلب قراءة نقدية لتأطير مفاهيم الأجيال ضمن النسيج السوري.
تفاعل الأجيال مع الهوية، والتعليم، والتكنولوجيا:
تُظهر الدراسات أن كل جيل يتفاعل مع عناصر الحياة بطريقة مختلفة.
فجيل زيد يُفضّل التعليم المرن والعمل الحر، ويسعى لتشكيل هويته ضمن شبكات إلكترونية غير مركزية. بينما جيل ألفا، ومن المتوقع بيتا أيضًا، سيكون أكثر اندماجًا مع التعليم المصمم رقمياً، والذكاء الاصطناعي، والألعاب التفاعلية.
وفي سورية، يشهد النظام التعليمي اضطرابًا مزمنًا، إذ أن العديد من الشباب والأطفال خرجوا من المنظومة المدرسية لسنوات طويلة، ما يخلق فراغًا تربويًا وثقافيًا يؤثر على بناء الهوية.
هذا يدفع الأسرة إلى أن تكون جسرًا تعويضيًا يساعد في إعادة بناء التصور الذاتي للأبناء، وتوجيههم نحو آفاق معرفية وتربوية تتجاوز النقص البنيوي في مؤسسات الدولة.
وبينما يفتح العالم المجال أمام أطفال بيتا ليعيشوا في واقع ممتد من الذكاء التفاعلي، يعيش الطفل السوري في جغرافيات متعددة: جسده في الداخل أو الشتات، ووعيه متأرجح بين الماضي القريب والحاضر الغائم.
من هنا، يتطلب الأمر فهمًا أعمق للتفاعل الجيلي، لا باعتباره ظاهرة تقنية، بل بوصفه مسارًا تربويًا وسوسيولوجيًا.
الأسرة السورية كمجال للتنوع الجيلي والمصالحة:
تواجه الأسرة السورية تحديات غير تقليدية؛ فهي لا تتعامل فقط مع اختلافات في التفضيلات التقنية أو القيم الأخلاقية بين الأجيال، بل تعيش تجارب تفتت اجتماعي، وصدمة نفسية، وهشاشة اقتصادية.
ومع ذلك، تُظهر بعض النماذج الأسرية قدرة على احتضان هذا التنوع، وتحويله من مصدر تصادم إلى مورد للتجدد.
إن قبول الأسرة بفكرة التعدد القيمي بين أبنائها حيث يكون للطفل رأي مختلف عن والده في الدين، أو في معنى الوطن، أو في كيفية التعبير عن الذات يمثل نقلة نوعية في الفهم التربوي.
فبدلاً من فرض أنماط جاهزة، يمكن للأسرة أن تُعيد تعريف دورها كميسر للحوار، وبيئة للتجربة، ومكان للاستكشاف الأخلاقي والمعرفي.
فالمصالحة الجيلية داخل الأسرة لا تعني التنازل عن المبادئ، وإنما التوافق على قواعد مشتركة للحوار والاحترام، وترك هامش للذات أن تتطور.
إن المرونة في إعادة تعريف أدوار الوالدين، واستيعاب التغيرات النفسية والاجتماعية للأبناء، هي ما سيجعل الأسرة السورية المعاصرة قادرة على التجدد بدلًا من الانهيار.
من الأسرة إلى التنمية المجتمعية:
في بيئات ما بعد النزاع، يُعدّ الحوار بين الأجيال داخل الأسرة أحد مداميك إعادة بناء الثقة الاجتماعية، إذ أن غياب التواصل الأسري يولّد انقسامات اجتماعية أكبر، فيما يُمكن للحوار المنزلي أن يُنتج سرديات جديدة عن الوطن، الهوية، والعدالة.
ويُمكن للأسرة أن تتحول من بنية مستهلكة إلى فاعل في الحراك المدني؛ من خلال تشجيع المشاريع التشاركية داخل البيت، مثل قراءة الكتب سوياً، أو خوض نشاط تطوعي جماعي.
هذا يفتح الباب نحو بناء وعي جماعي، يُشكل نواة لشبكات مدنية ومبادرات مجتمعية تُسهم في التنمية المستدامة.
وفيما يُحاول الخطاب الرسمي أحيانًا فرض هوية جاهزة على الأجيال الجديدة، على الأسرة أن تُتيح لهم صياغة ذاتهم ضمن خيارات متعددة، فتُقدّم التربية لا كمجموعة من الأحكام، بل كعملية تكوين وجداني وفكري، تُمهّد لانخراط ناضج في المجتمع.
الخاتمة:
جيل بيتا ليس تهديدًا، بل فرصة، إنه جيل يُمكنه أن يحمل بصمات جديدة في الحياة السورية، إذا ما أُتيح له المجال ليُعبّر عن ذاته ويتعلّم بحرية وينخرط في التنمية.
فالأسرة هنا ليست الحاجز، بل البوابة، وإذا نجحت الأسرة في بناء آليات فعالة للحوار، ودعمت أبنائها في تكوين هويتهم الخاصة، فإن ذلك سينعكس على الاستقرار الاجتماعي، وعلى قدرة المجتمع على تجاوز إرث النزاع.
وعليه فإننا في مكتب شؤون الأسرة لـ تيار المستقبل السوري نوصي بما يأتي:
- إنشاء منصات حوار منزلية تفاعلية تُمكّن أفراد الأسرة من مشاركة وجهات نظرهم المختلفة.
- تطوير برامج تربوية تراعي الخصوصية السورية وتستفيد من تجارب عالمية في فهم التنوع الجيلي.
- تفعيل دور المؤسسات الدينية والثقافية في دعم نموذج أسري يحتضن التعدد ويؤمن بالتجدد.
- توجيه الخطاب الإعلامي نحو الاحتفاء بجيل بيتا كرافعة للتغيير بدلًا من تصويره كجيل ضائع أو مشتت.
المراجع:
• المركز السوري للبحوث والسياسات. (2024). تحديات وواقع التعليم ما بعد نظام الأسد: من أين نبدأ؟. دمشق: المركز السوري للبحوث والسياسات.
• مركز عمران للدراسات الاستراتيجية. (2023). مؤشرات العنف الأهلي في سورية: مقاربة نفسية – اجتماعية لبنية الصراع المحلي. إسطنبول: مركز عمران.
• Twenge, J. M. (2023). Generations: The Real Differences between Gen Z, Millennials, Gen X, Boomers, and Silents—and What They Mean for America’s Future. Atria Books.
• Prensky, M. (2016). Education to Better Their World: Unleashing the Power of 21st-Century Kids. Columbia University Press.
• Beck, U. (2021). Risk Society: Towards a New Modernity. SAGE Publications.