الاعتقال التعسفي في سورية

مقدمة:

يمثل الاعتقال التعسفي واحداً من أخطر التحديات الحقوقية التي تواجه سورية في مرحلة ما بعد النزاع، لما له من آثار مباشرة على بنية الشرعية، مفهوم المواطنة، ومصداقية المؤسسات الناشئة في سياق التحول السياسي. تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر في الثاني من آب 2025، والذي يوثق 109 حالات اعتقال تعسفي خلال شهر تموز وحده، يكشف عن استمرار النمط الممنهج لانتهاك الحرية الفردية تحت غطاء سلطوي متشظّي بين جهات متعددة، منها الحكومة الانتقالية وقوات سورية الديمقراطية، ما يطرح أسئلة أساسية حول المساءلة والحوكمة.

إطار الانتهاك وتوزعه الجغرافي والمؤسسي:
يحمل توزع حالات الاعتقال دلالات مزدوجة، فهو يكشف من جهة عن غياب الانضباط القانوني في الجهات الحاكمة أو المسيطرة على الأرض، ويكشف من جهة أخرى عن هشاشة منظومة الحماية القانونية للمدنيين.

  • سجلت محافظة الرقة أعلى نسبة من الاعتقالات، تلتها دير الزور والحسكة، ما يعكس مستوى المركزية الأمنية في مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية، التي سجّل التقرير ضدها 36 حالة اعتقال تعسفي.
  • الحكومة الانتقالية سجّلت 12 حالة، بينها 5 أطفال، وهي نسبة لافتة بالنظر إلى أنها تنشط في بيئات يفترض أن تكون "ابنة للثورة"، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول جدية الجهات الرسمية في احترام الحقوق الأساسية.

الطبيعة القانونية للانتهاكات:
ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في مادته التاسعة على أنه "لا يجوز توقيف أحد أو حبسه تعسفاً"، وهو نص نافذ دولياً وملزم للأطراف المعنية، ووفق تقرير الشبكة، فإن:

  • معظم الاعتقالات تمت دون مذكرات قضائية.
  • لم يحصل المعتقلون على حقوقهم في التواصل مع محامين أو ذويهم.
  • حالات الإفراج القليلة (44 فقط) لم تُرافق بأي مساءلة أو شفافية، بل شملت إفراجات جزئية في اللاذقية وحمص دون توضيح الآلية القانونية أو الأسس الإجرائية.
    هذا يعني أن الاعتقال تم في بيئات قانونية غير خاضعة لأي إشراف قضائي مستقل، ما يُعزّز فرضية وجود منظومة أمنية تتغذى على منطق العقاب خارج مؤسسات الدولة.

البنية السلطوية والهندسة الأمنية في مرحلة ما بعد النزاع:
ثمة تحول بنيوي في طبيعة السلطة الأمنية في سورية، من سلطة مركزية استبدادية إلى سلطة أخلاقية وطنية انتقالية تحمل صفات "لا مركزية قمعية". والمقلق أن الجهات الجديدة، قد أعادت إنتاج نموذج الاعتقال التعسفي ولكن تحت مظلة شعارات جديدة. وبذلك نشأت "هندسة أمنية هجينة" تتشكل من:

  • سلطات محلية تفتقر إلى أطر مساءلة.
  • قوى مسلحة تحمل أيديولوجيات متعددة ولكنها تتفق في إدارة الملف الأمني بمنطق السيطرة.
  • مؤسسات قضائية شكلية أو هامشية لا تملك أدوات الرقابة أو التنفيذ.

حقوق الأطفال في قلب الأزمة:
وجود 10 حالات اعتقال تعسفي لأطفال (5 لدى الحكومة الانتقالية و5 لدى قوات سورية الديمقراطية) يفتح باباً شديد الخطورة على مستوى الانتهاكات النوعية. إذ وفق اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، فإن احتجاز الأطفال يجب أن يكون الملاذ الأخير، ويجب أن يتم وفق إجراءات خاصة تحترم أعمارهم واحتياجاتهم النفسية.
ولكن التقرير يشير إلى استخدام الأطفال في معسكرات تدريب، وعزلهم عن ذويهم، ما يشير إلى:

  • انتهاك مزدوج: أولاً عبر حرمانهم من الحرية، وثانياً عبر تعريضهم لخطر التجنيد العسكري كما عند قسد.
  • تدمير النسيج المجتمعي: إذ يعيد إنتاج جيل يعيش القهر داخل مؤسسات لا تراعي احتياجاته التنموية، ويحول الأطفال إلى أدوات صراع بدلاً من أن يكونوا شركاء في مستقبل سلمي.

االإفراجات الشكلية والمسؤولية المؤسسية:
لم يوضح التقرير الآليات القانونية التي أُجريت على أساسها الإفراجات، ما يفتح المجال للتساؤل حول:

  • هل تمت بقرارات قضائية أم عبر تفاهمات سياسية؟
  • هل رافقتها إجراءات مساءلة للجهات المحتجزة؟
  • هل صدرت بيانات رسمية توضح مآلات المعتقلين أو أسباب الإفراج؟
    غياب هذه الإجابات يكرّس "الاعتقال كأداة تفاوض"، لا كممارسة مؤسسية خاضعة للقانون، ويكشف عن ضعف في قدرة المنظمات المدنية على فرض معايير العدالة الانتقالية.

الاعتقال كآلية حكم في سورية ما بعد الحرب:
يبدو أن الاعتقال التعسفي لم يعد فقط فعلاً سلطوياً، بل تحوّل إلى أداة حكم تُستخدم في ضبط المجتمعات، واختراقها، وتعطيل أي حالة مدنية ناهضة. وهو بذلك يشكل:

  • أداة إنتاج الخوف الجماعي تُمكن الجهات المسيطرة من إعادة هندسة السلوك المجتمعي عبر "العقاب غير المتوقع".
  • آلية منع التنظيم المدني إذ يتم استهداف الناشطين والمدنيين لتفكيك شبكات المجتمع المدني.
  • وسيلة لإعادة تشكيل الشرعية حين تُستخدم الاعتقالات لفرض تصور واحد عن "الصالح الوطني"، يُهمّش فيه كل من يُعبّر عن رأي مخالف.

العدالة الانتقالية بين التوصية والتنفيذ:
رغم دعوة الشبكة إلى تأسيس آليات مساءلة، فإن هذه الدعوة لا تزال ضمن المسار الخطابي ولم تتحول بعد إلى خطة تنفيذية قابلة للتطبيق، ويعود ذلك إلى عدة أسباب:

  • غياب جهة سورية مركزية على كامل الخريطة السورية مع غياب التأثير على السويداء وشمال شرق سورية ذات مشروعية يمكن أن تُشرف على المساءلة.
  • تشتت الملف الحقوقي بين منظمات غير حكومية لا تملك أدوات التنفيذ.
  • غياب ضغط دولي فعّال على الأطراف الداخلية لضمان الإصلاح الأمني والمؤسسي.
    لذلك، فإن الحديث عن العدالة الانتقالية يجب أن يتجاوز المستوى الإجرائي، ليصبح جزءاً من تصور سوري موسع عن الدولة، يشمل:
  • بناء جهاز قضائي مستقل سلطته تشمل كل الخريطة السورية.
  • تقنين الممارسات الأمنية.
  • إشراك المجتمع المدني في الرقابة والتوثيق.
  • تفعيل آليات الإبلاغ وإعادة التأهيل للضحايا.

الخاتمة:
إن تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، رغم أهميته في التوثيق، يحتاج أن يكون منطلقاً لسلسلة تحركات استراتيجية تشمل:

  1. إطلاق مرصد وطني للانتهاكات يكون مستقلاً، غير تابع لأي جهة سياسية، مع صلاحيات للرقابة والاستدعاء القانوني.
  2. وضع ميثاق سوري للحقوق والحريات يقرّه ممثلو الأطراف السياسية والمدنية في مناطق السيطرة المختلفة، ويُعد مرجعية مرحلية.
  3. تشجيع الحوار بين الجهات المسيطرة على الأرض بهدف وضع خطوط حمراء مشتركة تمنع الاعتقال خارج القانون مهما كانت المبررات السياسية.
  4. الضغط الدولي المتوازن على جميع الأطراف دون انتقائية، لأن تسليط الضوء فقط على النظام يُضعف مصداقية منظمات حقوق الإنسان، ويُعزز ثنائية "الانتهاك الشرعي" لدى بعض القوى الثورية.
  5. ربط الاعتقال التعسفي بالنقاش حول بناء الدولة، لأن الدولة لا تقوم فوق الخوف، بل فوق عقد اجتماعي يسمح بالتعددية ويرفض القمع كأداة للضبط السياسي.
    إن الاعتقال التعسفي في سورية لم يعد مجرد انتهاك حقوقي، بل بات جزءاً من المعضلة البنيوية في مشروع الدولة البديلة. بين الجهات التي تدعي الثورة وتلك التي ترفع شعار الحكم الذاتي، تتواصل الانتهاكات، ويتقاسم المدنيون الضعف والخوف. لذلك، فإن بناء دولة ذات شرعية لن يتحقق إلا عبر القطع مع هذه الممارسات، وفتح باب المحاسبة، والاعتراف الجماعي بأن الاستقرار لا يتحقق دون حرية، وأن الكرامة ليست امتيازاً بل جوهر العقد الوطني الجديد.

شاركها على:

اقرأ أيضا

منتدى الأعمال السوري الكوري

منتدى الأعمال السوري الكوري الذي أقيم في الشيراتون بحضور الدكتور زاهر بعدراني.

5 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع