ترسيخ الدولة كمركز سيادي جامع في ضوء نداء التدخل الإنساني العاجل في السويداء

مقدمة:

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، شهدت البلاد تحولات سياسية واجتماعية عميقة، كان من أبرز نتائجها تآكل الدولة كمفهوم مركزي، وتشتت وظائفها السيادية في عدد من المناطق، ما أفرز واقعًا إداريًا متشظيًا، ومجتمعًا مثقلًا بالانقسامات.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الوقائع الميدانية الأخيرة، خصوصًا في محافظة السويداء، تعيد طرح السؤال المركزي: هل يمكن تحويل الأزمة إلى لحظة تأسيس وطنية؟ وهل يمكن إعادة ترسيخ الدولة، لا كأداة سلطة، بل كإطار سيادي جامع لجميع السوريين؟

في 29 تموز 2025، أصدرت وزارة الخارجية السورية بيانًا رسميًا دعت فيه المنظمات الدولية والأمم المتحدة إلى تدخل إنساني عاجل في محافظة السويداء، لمعالجة الاحتياجات المتفاقمة في مجالات الأمن الغذائي، الصحة، التعليم، المياه، والدعم النفسي والاجتماعي، بالتوازي مع دخول قافلة مساعدات رابعة تضم 22 شاحنة من خلال معبر بصرى الشام.
هذا التطور ليس حدثًا إغاثيًا فحسب، بل نقطة انعطاف سياسية يجب قراءتها بتمعّن كجزء من تحوّل أكبر في تصور الدولة ووظيفتها.

أولًا، الأزمة كمرآة لتآكل الثقة بالوظيفة المركزية للدولة:

ما جرى في السويداء على مدار الأسابيع الماضية يُبرز خللاً بنيويًا في العلاقة بين الدولة التي نعمل على بنائها جميعاً، ومواطنيها في الأطراف!
فمع كل أزمة، تظهر حالة من العزلة الإدارية، وغياب التنسيق، وتراجع استجابة المؤسسات، ما يجعل المواطن ينظر إلى الدولة المركزية بوصفها غائبة أو مترددة.
إن دعوة الحكومة للتدخل الإنساني العاجل، رغم تأخرها، تُعيد الاعتراف بأن الدولة لا يمكن أن تُدار بمنطق الإنكار أو الانفصال، بل بمنطق المسؤولية الوطنية الكاملة.

ثانيًا، الدولة كمفهوم سيادي لا مركزي جامع:

ليست القضية في السويداء استعادة الحكومة السورية بسط سيطرتها على الأمن والإدارة فحسب، بل في إعادة صياغة الدولة بوصفها وعاءًا سياديًا مرنًا، يحتوي كافة مكوناته.

وفي هذا الإطار، يرى تيار المستقبل السوري أن ترسيخ الدولة كمركز جامع يجب أن يرتكز على المبادئ التالية:

  • التمثيل السياسي العادل للمكونات والمناطق ضمن المؤسسات الوطنية.
  • اللامركزية التعاونية كبديل طرحه التيار عن المركزية واللامركزية السياسية والإدارية، والتي تمنح المحافظات قدرة تنفيذية حقيقية.
  • رقابة مجتمعية دائمة على المؤسسات الأمنية والإدارية لضمان النزاهة.
  • دمج القوى المحلية ضمن مؤسسة أمنية واحدة تتبع للدولة، لا للمناطق أو الأجندات.

ثالثًا، البعد الإنساني كبوابة لإعادة الهندسة السياسية:

عندما تخرج الدولة بنداء عاجل للمنظمات الدولية، فإنها – على نحو غير مباشر – تعترف بعدم قدرتها الكاملة على تلبية الاحتياجات الأساسية، ما يُعيد فتح النقاش حول إعادة هندسة الوظائف السيادية.
وهذا لا يجب أن يُفهم كضعف، بل كفرصة لإعادة البناء على أسس أكثر عقلانية وتشاركية.

وإن توصيات تيار المستقبل السوري في هذا الصدد تشمل:

  1. تشكيل هيئة وطنية لإدارة الاستجابة الإنسانية مرتبطة برئاسة الحكومة، وتضم ممثلين من المجتمع المحلي.
  2. إنشاء مراكز تنسيق في المحافظات لتوحيد الإغاثة والخدمات العامة تحت مظلة الدولة.
  3. إصدار قانون "المسؤولية الاجتماعية الوطنية" يلزم الفاعلين الاقتصاديين بدعم جهود الإغاثة تحت إشراف المؤسسات الشرعية.

رابعًا، لا استقرار دون عقد اجتماعي جديد:
إن الأحداث الأخيرة في السويداء تذكّرنا أن غياب العدالة والتمثيل السياسي هو محرك دائم للتوتر، وإن بناء سورية الجديدة يجب أن ينطلق من عقد اجتماعي حديث يقوم على:

  • العدالة التوزيعية للموارد والخدمات.
  • حرية التنظيم السياسي في إطار الدولة لا ضدها.
  • اعتراف بالهويات الجزئية ضمن إطار الهوية الوطنية الجامعة.
  • إعلاء الكفاءة في شغل الوظائف العامة، بغض النظر عن الانتماء السياسي أو المناطقي.

خامسًا، الدولة كفاعل في إدارة التعددية لا نفيها:
إنه من الخطأ تصور الدولة السورية المستقبلية كإطار موحد بالمعنى القسري، بل يجب أن تكون إطارًا مرنًا يحتضن التعددية وينظمها.
وهنا يأتي دور المؤسسات التشريعية والإعلامية والثقافية في إدارة التنوع، لا اجتثاثه.
وهنا، يمكن اقتراح:

  • منتدى وطني للحوار الثقافي بين المكونات.
  • إطلاق استراتيجية وطنية للتمثيل الإعلامي المتوازن للمناطق المختلفة.
  • تطوير مناهج التعليم الوطني لتشمل سرديات متعددة حول الهوية السورية.

سادسًا، توصيات السياسات لمراكز القرار ومراكز الدراسات:
يقدم تيار المستقبل السوري في ختام هذه الورقة مجموعة من التوصيات العملية التي يمكن أن تتبناها الجهات الرسمية ومراكز الدراسات الوطنية، ونحن في قسم البحوث والدراسات في المكتب العلمي لتيار المستقبل السوري منفتحون على التعاون حولها:

  1. إجراء دراسة وطنية شاملة حول فجوات الإدارة المركزية في المحافظات المهمشة.
  2. إطلاق برنامج تدريبي للكوادر الإدارية المحلية حول مهارات التنسيق مع المؤسسات المركزية.
  3. الدعوة إلى ملتقى وطني بعنوان "الدولة السورية الجامعة: من الأزمة إلى البناء".
  4. إنشاء خارطة خدمات وطنية إلكترونية توضح الواقع التنموي في كل محافظة، تُستخدم لتحديد أولويات الاستثمار.
  5. إعداد تصور لدمج القوى الأمنية المحلية ضمن مؤسسة واحدة خاضعة للرقابة المدنية المستقلة.
  6. إطلاق حملة إعلامية وطنية جامعة.

خاتمة:
في المركز تتأسس الدولة، وفي الجميع تُبنى شرعيتها:

إن التحوّل من منطق السيطرة إلى منطق الرعاية هو الخطوة الأولى نحو دولة سورية حديثة، وجامعة، وعادلة.
وما جرى في السويداء يجب ألا يكون مجرد حدث إنساني عابر، بل بداية تأسيس سياسي جديد، تكون فيه الدولة مركزًا شرعيًا يلتف حوله السوريون، لا يتقاطعون معه.
فالدولة ليست امتيازًا، بل حاجة وجودية، وكل تأخير في ترسيخها كمركز سيادي جامع، هو استمرار لحالة الانقسام.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع